جعفر الديري - أمين صالح شاعر السرد العربي الحديث بامتياز

كتب - جعفر الديري

الروائي البحريني أمين صالح، "شاعر السرد العربي الحديث بامتياز". ذلك ما يؤكد عليه الناقد المغربي د.رشيد يحياوي، لافتا إلى ان صالح، دمج بين السرد النثري وبين الشعر، وكتب أشكالا كتابية تتجاوز حدود الرواية وحدود القصة.

فعل الكتابة وخطابها السردي

إن الكتابة تتقدم عند صالح وفق مقصدين -كما جاء في كتاب الندوة الأدبية "شعرية الرواية لدى أمينة صالح" في مركز البفنون- مقصد ينصب على فعل الكتابة ذاته، حيث تصبح الكتابة موضوعا للكتابة، ويظهر ذلك في اشتغاله على التركيب بين نصوص كتبه، حتى لو ظهر للقراءة الأولية أنها مختلفة عن بعضها في الكتاب الواحد. عبر تعالقات نصية، أو روابط بين الشخصيات والأحداث والأماكن، أو عن طريق الاستعارة النصية، وإعادة الكتابة كتابة الكتابة كما في (المنازل التي أبحرت أيضا) (ط.1 – 2006). إضافة إلى حرصه على الوصف "وصف الأفعال والحالات والأشياء والفضاءات والكائنات" بما يعطيها بعدا غرائبيا ومفارقا للواقع أحيانا، بواسطة الصور الخارقة التي تجتمع فيها المتناقضات والأضداد. وهذا ما يدخل في الشعر.
وينصب المقصد الثاني على الخطاب السردي للكتابة، حين لا يخفي النص ميوله لتقديم حكاية بطريقته، وهو الطاغي على كتب صالح، وهو ما دفع بالتلقي العام لتصنيفها ضمن القصة والرواية. غير أنها جاءت مختلفة عن السرود التي مقصدها الأول هو السرد. ومرجع اختلافها، حضور المقصد، أي تفكير الكتابة في الكتابة. مما يجعل سرد صالح، وبقدر ما هو سرد، فإنه أيضا محل اشتغال، ومحل كتابة تراجع أدواتها وهي تتقدم على الورق.

رؤية فلسفية شعرية

يواصل د.يحياوي: إن أمين صالح، وحتى حين يفكر في السرد بوصفه طريقة لتقديم وعرض أحداث وشخصيات وفضاءات، فإنه غالبا ما يطبعه برؤية فلسفية وشعرية، وتأمل في الحياة وكائناتها، وملامسة للخفي المحتجب منها، بما يحول السرد إلى وسيلة وغاية معا، يتم الاشتغال عليه كي لا ينمو في خط نمطي ترتبط فيه الأحداث ارتباطا سببيا.
إن ازدواجية القصدية متمفصلة إذن في أعمال أمين صالح مع ازدواجية تمفصل السردي والشعري. فالشعر يحضر في المقصد الأول والشعري. فالشعر يحضر في التمقصد الأول الذي تكون فيه الكتابة موضوعا للكتابة. حيث يشتغل الكاتب على الجمل بانتقاء ملحوظ، حريصا على المستوى الاستبدالي للكلمات من أجل خلق الاستعارات المفارقة، والصور ذات الإيحاء والإدهاش. وبمعنى آخر، يتجلى الشعر هنا في المستوى التركيبي والأسلوبي، متصاعدا من الجمل إلى الفقرات وخاصة حين تكون أمام صور جزئية عن المكان والأشياء والذوات.

استخدام خاص للغة

إن رواية صالح (رهائن الغيب)، تصدم القاريء بالاستخدام الخاص للغة. هذا ما يراه الناقد البحريني جعفر حسن، مردفا أن الفن يتميز بالاستخدام المغاير للغة. "وان تصور الكل أن ذلك الاستخدام الخاص للغة مقصور على الشعرية، إلا أن تلك الشعرية تتسرب في مناح مختلفة من الحياة، فحتى الدعاية والإعلان يستجران قسطا مهما من تلك الشعرية الطارئة، والتي تعمل في داخلها على تقارب المتباعدات، وخلق فراغ يملئه الذهن بصور ما".
السؤال الذي يبرز هنا لماذا تستعير الرواية الشاعرية؟ فهل يحدث ذلك لقابليتها الداخلية لتوظيف فنون أخرى؟؟ حيث أن نظام الرواية يسمح بمساحة من الحركة في مكوناتها بحيث تقبل الجديد، فهل نحن أمام أسئلة الرواية الجديدة؟ أم لوجود قصور في نمو الرواية ذاته؟؟ أم أنه استجابة لشروط الحداثة أو ردا على تعثراتها؟ أم انه انبثاق جديد من الشعر المهيمن على فنون القول عند الأمة؟؟ وهل ذلك التوظيف يخدم الرواية أم يقف حجر عثرة أمام التلقي كما حدث أمام الحداثة الشعرية الجديد؟

الوصف مساحة للتعبير

يؤكد حسن: ليس غريبا على صالح الدخول في الشعرية، على اعتبار انه ذا تجربة واسعة في هذا المجال، "سبق أن أشرنا في كتابنا (تمنع الغابة الطرية) إلى شاعريته المتدفقة خصوصا حين تناولنا نصوص كتابه (موت طفيف). لكن الأمر لا يعفينا من ملامسة الاستخدام في الرواية، على أن معظم الروايات تتخذ من الوصف مساحة للتعبير عن المكان وتنبع فيه جمالياته، ولعل السمات المميزة في استخدام اللغة عند أمين صالح في هذه الرواية أنها، تقوم على تحريك الكائنات بما يضفي عليها صفة إحيائية ونأخذ هنا مثلا عشوائيا: "بعد ائذ غادروا مع وجوه مكفهرة ويأس قابض بإحكام على الإرادة، ومهمة ناقصة مضرجة بالخيبة، وجسد شاحب يتأرجح بين البقاء والعدم وهو ينزف سره الذي لا يبوح به أحد". ص 152.
هذا المقطع بعد أن يتشاجر سلطان مع الشاب الذي تنتابه منه طعنة حادة يسقط على إثرها ثم تتابع الرواية: "وغادرت الشمس مع فلول أشعتها المرهفة – التي استعارت لون المغيب، آخذة معها أسلاب نهار يغتسل الآن في قرمز الليل قبل أن ينزلق بخفة هواء نحو الوسن .. وجاء المساء هابطا من المخدع السماوي في أبهة يحلم بها الملوك، وأسدل على أدراج المدى وشاحه المخملي الذي ضوع المكان برائحة السهر". ص 152.

تقارب المتباعدات

هنا تستل اللغة –والكلام مازال لجعفر حسن- حركة الوجود وهي تسدل أستار الليل على الكائنات كأنها تتكهن بما سيفعل الصبية في جعل الفعل الفادح مختوما بالكتمان، هكذا يتعاطف الوجود بما يشكل حركة بالغروب، وهو فعل إنساني، والأسلاب يقوم بها المحاربون، وهم ينزلقون من معارك الخيبة والانتصار، المخدع للانسان .. الخ، هنا تتحرك عناصر الوجود متضامنة مع تطور الحديث في الرواية لكنه يستل أفق الشاعرية ليجوب بها فضاء اللغة.
ولعلنا ندرك أيضا أن الشاعرية في اللغة تعتمد على تقارب المتباعدات في نهجها الحداثي، حيث نجد علاقة بين السماء وأبهتها التي يحلم بها الملوك، ولسنا نعرف تلك العلاقة التي تجعل أبهة الليل تثير مباشرة رغبات الملوك ولكن العلاقة البعيدة تشير إلى الرغبة في الهيمنة على أن الليل لا يغير من الأشياء وإنما يلفها ويجعلها تخضع لبهتان يغتال ألوانها وظهورها، لكنها تستعيد ذاتها في النهار، وتخضع لحركة دائبة ونوسان يتجاذبها بين الليل والنهار، يتقاسمها الموت والبعث بذات القدر، مما يفتح باب التأويل للناظر على أطراف الكلام، والعلاقات التي تقام فيما بين الأشياء المتباعدة هي التي تفتح تلك العلاقة خصوصا حين النظر إلى أولئك الصبية وهم يتقاسمون قطرات الفقر والعوز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى