زكريا تامر ـ في ليلة من الليالي

يجيء الليل كفنًا أسود، فيبتعد أبو حسن بخطى هارب عن حارته الخرساء، وأزقتها الملتوية المظلمة، وناسها العجاف، وبيوتها الرثة المتلاصقة، ومقهاها الذي يشبه تابوتًا مهترئ الخشب. وحين يبلغ الشوارع العريضة، تبهره ضوضاؤها وسياراتها المسرعة وناسها المتأنقون وأنوارها الساطعة المتعددة الألوان، فيمشي بخطى ذاهلة متباطئة، مشدود القامة، مرفوع الرأس، ذا وجه متجعد، شديد الزهو بشاربيه الكثّين اللذين كانا يغريان عيونًا كثيرة بالتحديق إليهما بفضول ودهشة. إيه! أنت أبو حسن. ويحقّ لك أن تنال الإعجاب والاحترام. أنت خير الرجال. خنجرك البرق الذي يعقبه مطر من دم، وقلبك فضة، ويدك من صخر الجبال. أنت رجل لا كبقية الرجال. تفرح فتصير بستانًا أخضر. تغضب فيحمل الموت نعشًا فارغًا وينتظر أشلاء فريسة. تحب فتخلص. لا تغش ولا تكذب. لا تتملق ولا تنافق. الأعور أعور، والأعمى أعمى. تضرب فتدمي ولا تقتل. تعادي فيختفي من تعاديه. تصادق فتهب حتى روحك لمن صادقته. عمرك أكثر من أربعين سنة، ولكنك حين تلتقي بجسد امرأة، تبقي في دمها حتى القبر. تشرب العرق كأنه ماء ولا تسكر. تخوض مشاجرات تسيل فيها الدماء كأنك تدخن سيجارة على ضفة نهر. يعلو صوتك الخشن بموّال فتبكي الحجارة. أنت الرجل الذي يكنّ له الرجال والنساء والأطفال في حارته المحبة والإجلال. إذا تشاجرت امرأة مع زوجها، فلا تقصد بيت أهلها شاكية، إنما تلجأ إليك واثقة بأن ما لحق بها من ظلم سيزول لا محالة. يحبك الأطفال ويصرخون مستنجدين بك لحظة تضربهم أمهاتهم. وقطط الحارة ساعة تجوع تأتي إليك وهي تموء. وإذا تخاصم صديقان فلا أحد غيرك يستطيع بكلمة أن يوقد من جديد ما انطفأ في قلبيهما من ودّ. والشاب اليتيم إذا رغب في الزواج من فتاة، تصبح أنت عائلته. كنت دائمًا تنصر الضعيف المظلوم، وتجابه القوي الظالم غير هياب. ولم تعرف يومًا أحنيت فيه رأسك لهوان أو ذلّ.
ويبتسم أبو حسن ابتسامة مغتبطة متفاخرة، بينما هو مستمرّ في سيره المتمهِّل على أرصفة مكتظة برجال لا شوارب كثة لهم، وبنساء يمشين بخطوات واثقة شامخات الرؤوس، معطرات، أنيقات، جميلات كدمى غالية الثمن. انظر يا أبا حسن انظر. رجال كالنساء ونساء كالرجال. لا تعجب ولا تستنكر. هذه هي سنّة الحياة، فلا شيء يبقى ويدوم، وكل زمان له رجاله ونساؤه.
ويلمح أبو حسن فتاتين في مقتبل العمر، جميلتين أكثر من زهرة ياسمين في الصباح. وكانتا ترنوان إلى شاربيه الكثّين بنظرات مستغربة، فيتزايد اعتداده بشاربيه، وتلمسهما أصابع يده اليمنى بحركة مزهوة.
وتهامست الفتاتان، ثم ضحكتا ضحكًا ساخرًا، ففوجىء أبو حسن، وارتبك، وحثَّ خطاه مبتعدًا عن الفتاتين، وسلك طريقًا فرعية تضيئها مصابيح كهربائية، شاحبة النور، متدلِّية من أعمدة خشبية تتناثر متباعدة. أنت! أنت أبو حسن، ويسخر منك فتستحي كبنت ما باس فمها إلاّ أمها! آخ يا زمن.. أنت كلب يعضّ صاحبه.
وتناهى إلى سمع أبي حسن أغنية آتية من إحدى البنايات من نافذة مفتوحة مضاءة، فتوقف عن السير، واستند إلى جذع شجرة. وكان المغني أجشَّ الصوت، وأغنيته مبهمة الكلمات، غير أن صوته كان كصرخة مخنوقة لطير فقد جناحيه بغتة وهوى في فراغ لا أرض له.
وتخيل أبو حسن الفتاتين وقد اختطفتا وترقصان مرعوبتين عاريتين في غرفة يحتشد فيها عدد من رجال ذوي شوارب كثة وأعين مفترسة. ثم تذكَّر امرأة جميلة من حارته، وكانت تقول له: (تزوَّجني وسأكون خادمتك). ولكن ولولة انبثقت ذات صباح من بيتها، جلَّلت الحارة وسكانها بلون أسود. ولم يمش أبو حسن وراء نعشها، إنما اختبأ في غرفته، ودفن وجهه في الوسادة. ولم يستطع أن يبكي، ولكن صوته كان يتصاعد بين الحين والحين أجشَّ مبحوحًا أكثر حزنًا من بكاء الأم التي فقدت ابنتها.
وتعالت صرخة استغاثة حادّة من امرأة، وأبصر أبو حسن رجلاً يركض باتجاهه، تتبعه صيحات تقول إنه لص وتحثّ على إمساكه .
ولما اقترب الرجل الهارب من أبي حسن، حاول إمساكه، ولكنه راغ ببراعة، وأفلت منه، واستأنف ركضه السريع دون أن يبالي باسترداد ما سقط من يده.
وانحنى أبو حسن على الأرض، وتناول ما سقط من الهارب، فإذا هو حقيبة يد نسائية، فتأملها وهو يقول لنفسه بسخرية: ماذا سيحكي أهل حارتي إن أبصروا أبا حسن يحمل ما تحمله النساء!
وأقبل الذين كانوا يطاردون الرجل الهارب، وبرفقتهم شرطي بدين، فقال لهم أبو حسن بلهجة اعتذار وأسف: (اللعين كان كالزئبق وهرب مني). فصاحت امرأة وهي تشير إلى أبي حسن: (اقبضوا عليه. هو اختطف حقيبتي، وها هي ذي بيده).
قال أبو حسن: (عيب يا امرأة! ما هذا الحكي!).
فانتزعت المرأة الحقيبة من يده، وصاحت: (انتبهوا سيهرب).
فسارع الشرطي البدين وعدد من الرجال إلى إمساكه، وقال له الشرطي: (هيا، امش).
قال أبو حسن متسائلاً بدهشة: (إلى أين).
قال الشرطي: (إلى أين! إلى المخفر طبعًا. لعلك ظننت أننا سنأخذك إلى كباريه!).
فحاول أبو حسن الكلام والاحتجاج، ولكن شتائم كثيرة انهالت عليه، فسكت، وسار برفقة الشرطي يحيط به رجال ونساء وأطفال، يتكلمون بأصوات عالية، ويشيرون إليه قائلين إنه لص.
ولم يستمر السير طويلاً إذ كان مخفر الشرطة قريبًا. واقتيد أبو حسن توّا إلى غرفة رئيس المخفر الذي كان شابّا ذا وجه أبيض وسيم حليق وعينين صارمتين واجمتين، ويجلس وراء طاولة، على سطحها جرائد وأوراق وتلفون.
وتقدم الشرطي من رئيس المخفر، وشدَّ قامته، ورفع يده محييا، ثم تكلم ملخصًا ما جرى. فقال أبو حسن مقاطعًا: (كل ما يقوله غير صحيح).
فقال رئيس المخفر لأبي حسن: (اخرس. لا تتكلم. تتكلم فقط عندما آمرك بالكلام).
وصاحت المرأة صاحبة الحقيبة:(هو اختطف حقيبتي من يدي وهرب).
وتلتها أصوات عديدة تؤيدها، ويضيف أصحابها قائلين:(كلنا رأيناه ولحقنا به حتى قبضنا عليه).
وقال الشرطي:(ضبطته يا سيدي والحقيبة بيده).
ظل رئيس المخفر صامتًا، ووجّه إلى أبي حسن نظرة طويلة متفحِّصة، ثم قال له بازدراء:(تفضل.. جاء الآن دورك. هيا أسمعنا فصاحتك. ما لك! هل ابتلعت لسانك يا لص).
قال أبو حسن: (أنا لست لصّا).
قال رئيس المخفر بحنق: (إذن من أنت لعلك شيخ جامع ولا ندري).
قال أبو حسن: (أنا رجل.. والرجل لا يسرق امرأة).
فنهض رئيس المخفر عن كرسيه، وترك طاولته، ودنا من أبي حسن، وقال له هازئًا: (ما شاء الله! أنت لص، ولص وقح أيضًا).
قال أبو حسن: (أنا لم أختطف الحقيبة. رأيتها تقع من سارقها فالتقطتها).
قال رئيس المخفر: (اسمع. الإنكار هنا لن ينفعك. من الأفضل لك ولنا أن تعترف بما فعلت، وإلاّ جعلتك تتمني لو أن أمك لم تلدك).
فأمسك أبو حسن بأصابع يده اليسرى أحد شاربيه، وقال: (شاربي شارب امرأة إذا كنت أكذب).
قال رئيس المخفر: (تفو عليك وعلى شواربك. لا وقت لدي للقيل والقال. تكلم وإلاّ كسرت رأسك).
قال أبو حسن محمر الوجه: (لم يخلق بعد الشخص الذي يكسر رأس أبي حسن. اسأل عني أهل حارتي فتعرف من هو أبو حسن).
وقال رئيس المخفر وقد ازداد غيظًا: (يا كلب.. إذا لم تعترف سأضربك بالحذاء، وأضرب أهل حارتك).
قال أبو حسن: (لا داعي إلى التمادي في الكلام. كنْ رجلاً، والرجل يعرف قدْر الرجال).
فهز رئيس المخفر رأسه، وقال بصوت حاول أن يكون هادئًا: (أنت بالتأكيد بحاجة إلى تربية وتأديب، وقد وقعت في يد من يتقن التعامل مع أمثالك).
والتفت إلى الشرطي البدين، وقال له آمرًا بخشونة (اذهب كالبرق وأحضر مقصّا).
قال الشرطي: (أمرك سيدي).
ثم غادر الغرفة بخطى سريعة. واتجه رئيس المخفر نحو طاولته، وضغط بإصبعه على زر جرس، ثم وقف متصلب القامة، مقطب الجبين حتى دخل الغرفة شرطي أصفر الوجه وقال بصوت جامد: (أمر سيدي).
فقال رئيس المخفر وهو يشير إلى المرأة صاحبة الحقيبة والشهود: (خذهم وسجِّل أقوالهم).
فنفذ أمره توّا، وخوت الغرفة إلاّ من رئيس المخفر وأبي حسن، وعندئذ قال أبو حسن بصوت متهدج: (انظر إلي. هل يمكن أن أكون لصّا يسرق امرأة!).
لم يجب رئيس المخفر إنما ازداد وجهه صرامة، وأمسك بسماعة الهاتف، ورفعها، وأدناها من فمه، وتكلم بصوت خفيض، ثم أعادها إلى مكانها. واسترخى على كرسيه صامتًا يحدق بهزء ووعيد إلى أبي حسن الذي كان يقف منفرج القدمين مضطربًا حائرًا.
وفتح باب الغرفة، ودلف إلى داخلها الشرطي البدين حاملاً مقصّا كبيرًا، ثم تبعه عدد من رجال الشرطة الذين نظروا توّا إلى أبي حسن نظرات كره واحتقار. فنهض رئيس المخفر واقفًا مبتهج الوجه، وتناول المقص من الشرطي البدين، ثم قال لرجال الشرطة وهو يشير بالمقص إلى أبي حسن: (أمسكوا بهذا الكلب).
فصاح أبو حسن: (أنا كلب يا نصف رجل خسئت).
وهجم على رئيس المخفر وهو يزعق بغضب، غير أن رجال الشرطة أمسكوا به، فقاومهم محاولاً الإفلات من أيديهم، فانهالت عليه صفعاتهم وركلاتهم. كانوا يضربونه بشراسة وكراهية كأنه ذبح أمهاتهم. وظلوا يضربونه حتى تلاشت مقاومته واستحال بين أيديهم جسمًا شبيهًا بقطعة قماش مهترئة. وعندئذ قال رئيس المخفر لرجاله: (أمسكوا به جيدًا).
وأضاف مخاطبًا الشرطي البدين: (تحرك.. أمسك برأسه، وإن تحرك أقلّ حركة وضعت رجليك في الفلقة).
فسارع الشرطي البدين إلى الإمساك بشعر أبي حسن، وشده إلى الوراء شدّا عنيفًا، فبات وجه أبي حسن فريسة عزلاء.
ابتسم رئيس المخفر، واقترب من أبي حسن ويده تحمل المقص، وقال له: (والآن ستدفع ثمن سبّك، وسترى ماذا يفعل نصف رجل).
ودنا المقص من شاربي أبي حسن، فذعر، وحاول التملص من أيدي رجال الشرطة، ولكن أيديهم كانت تقيده وتشله عن أي حركة، فصاح بضراعة: (والله أنا بريء).
فازداد المقص دنُوّا من شاربي أبي حسن، فصاح وقد طغى عليه رعب شديد: (دخيلكم).
قال رئيس المخفر: (قل إنك سرقت فلا يمسّك أذى).
وران الصمت لحظة، ثم قال أبو حسن بصوت مرتعش: (أنا سرقت الحقيبة من المرأة).
فضحك رئيس المخفر، وقال باحتقار: (إلى متى ستظل البلد تحوي أمثالك!).
وانقضّ المقص على شاربي أبي حسن، وقضى عليهما بحركات متأنية متشفية بينما كان أبو حسن يصرخ صراخًا مديدًا أجش مبحوحًا.
وخطا رئيس المخفر نحو طاولته، ورمى المقص على سطحها، وقال لرجاله: (ماذا تفعلون أيطربكم صوته أسكتوه).
فبادروا إلى ضرب أبي حسن ثانية ضربًا قاسيا حتى أرغموه على السقوط أرضًا. ولكنه استمر يصرخ ويشتم، فنزعوا حذاءه، ورفعوا قدميه إلى أعلى، وهوت عصا رفيعة على باطن القدمين بضربات قصيرة متلاحقة، فصاح أبو حسن: (سأذبحكم جميعًا يا أولاد الزنا، ولو بقي من عمري يوم واحد).
قال رئيس المخفر بينما كان يعاود الجلوس وراء طاولته: (استمروا في ضربه حتى يسكت. اسكت. لا أريد سماع أي صوت منك).
وألفى أبو حسن نفسه بعد حين يضغط بأسنانه على شفته السفلى خانقًا الصراخ المتوجع الذي يريد أن ينفجر خارج الفم المدمي.وحينئذ قال رئيس المخفر لرجاله: (اتركوه).
ثم وجّه الكلام إلى أبي حسن: (هيا انهض وقفْ على قدميك).
فأطاع أبو حسن، ووقف بصعوبة مستجمعًا كل مابقي من قواه كي لا يتهاوى على الأرض، فقال له رئيس المخفر: (هيا احمل حذاءك).
فنفذ أبو حسن الأمر وهو يئنّ أنينًا خافتًا، ثم وقف مقوس الظهر وكل يد تحمل فردة حذاء.
قال له رئيس المخفر: (قل لي يا أبا حسن.. أنت رجل أم امرأة!).
لم يجب أبو حسن، فقال رئيس المخفر بحدة: (انطق، ألم تسمع ما قلت أنت رجل أم امرأة).
قال أبو حسن: (أنا طبعًا رجل).
قال رئيس المخفر بصوت مرح: (كذبت. أنت امرأة. هيا تكلم، وقل إنك امرأة. سأغضب إذا لم تقل إنك امرأة، وأنت صرت تعرف ما يحدث حين أغضب).
قال أبو حسن بصوت خافت: (أنا.. امرأة).
قال رئيس المخفر: (لم أسمع ما قلت. تكلم بصوت عال. أتظن أنك توشوش حبيبتك!).
قال أبو حسن بصوت مرتفع وهو ينظر إلى الأرض: (أنا امرأة).
فقهقه رئيس المخفر، وقال: (احمد ربك، لأننا هنا لسنا من الشاذّين جنسيا!).
ضجّ رجال الشرطة بالضحك، فقال لهم رئيس المخفر بلهجة آمرة مشمئزة: (خذوه، وسأراه فيما بعد، لأتابع تربيته وتأديبه).
فانقضّ رجال الشرطة على أبي حسن، وجرّوه إلى خارج الغرفة، وهم يركلونه ويصفعونه ويشتمونه. واقتادوه إلى إحدى الغرف، ودفعوه إليها وأقفلوا بابها. وكانت غرفة تخلو من أي أثاث، ولا نوافذ لها، يتدلى من سقفها مصباح كهربائي ضعيف النور، فتهاوى أبو حسن على أرضها وهو يئن متوجعًا.
وسمح فجأة صوتًا رفيعًا يقول له بنبرة متسائلة: (ضربوك كثيرًا! لا تزعل.. الضرب تسليتهم الوحيدة).
فرفع أبو حسن رأسه مستطلعًا، فرأى ولدًا لا يتجاوز عمره الثانية عشرة، وكان قاعدًا على الأرض، مسندًا ظهره إلى الحائط. فسأله أبو حسن باستغراب: (ماذا تفعل هنا!).
أشار الولد بيده نحو الباب، وقال: (هم قبضوا علي).
- (لم أفعل شيئًا).
- (قبضوا عليك دون أن تفعل شيئًا).
- (ذبحت أمي).
فصاح أبو حسن مرتاعًا: (الله يلعنك.. ماذا قلت).
- (ذبحت أمي. كانت تطهو طعامًا لا تأكله حتى الكلاب
وخيل إلى أبي حسن أنه غارق في سبات عميق ويشاهد حلمًا مرعبًا، ولاذ بالصمت. وحدق إلى الولد مذهولاً متناسيا الألم الذي يحرق عظمه ولحمه. وكان الولد ذا وجه أسمر وديع وشعر أسود طويل ناعم.
قال الولد: (أريد أن أنام).
قال أبو حسن بصوت فظ. (نم. من يمنعك).
قال الولد: (تعودت ألاّ أنام إلاّ بعد أن تروي لي أمي حكاية). قال أبو حسن: (اخرس ونم).
قال الولد: (احك لي حكاية).
فظل أبو حسن ساكتًا يحملق واجمًا، فقال له الولد: (إذا حكيت لي حكاية فسأعطيك سكينًا تذبح مئة شخص).
فبدت في عيني أبي حسن نظرة دهشة، فسارع الولد إلى خلع فردة حذائه، وأخرج منها سكينًا ذات نصل طويل رفيع رقيق ملطخ بدم جاف، ولوّح بها قائلاً: (ها هي ذي.. ظننت أني أكذب عليك).
مدّ أبو حسن يده نحوه قائلاً بلهجة آمرة: (هاتها).
فأعطاه الولد السكين، وما إن أمسك أبو حسن بها حتى التفَّت أصابعه حول مقبضها بحركة ضارية.
واستلقى الولد على الأرض، وقال بصوت متوسل: (هيا احك لي حكاية).
ساد الصمت هنيهات، ثم قال أبو حسن بصوت رتيب: (كان في سالف العصر والأوان رجل اسمه مصطفى، وكان فقيرًا لا يملك من متاع الدنيا سوى شاربيه. وفي يوم من الأيام أصدر ملك البلاد أمرًا يقضي بأن يحلق كل الرجال في مملكته شواربهم، فأطاع الجميع أمر الملك ما عدا مصطفى الذي أبى التخلي عن شاربيه، فاعتقل، وضرب وأهين وسجن. ثم أخرج من السجن ليمثل بين يدي الملك وينال ما يستحق من جزاء.
قال مصطفى للملك: (أنا ملك يديك وتستطيع أن تفعل بي ما تشاء. أنا أرحب بأن يقطع رأسي ولكني لن أرضى بأن أحلق شاربي).
ابتسم الملك بمكر، وقال: (سأمنحك ألف دينار إذا حلقت شاربيك).
قال مصطفى: (لا).
قال الملك: (لا تكن عنيدًا متسرعًا. اسمع. أتريد أكثر حسنًا. سأعطيك ألف ألف دينار).
قال مصطفى: كل ما في الدنيا من ذهب لا يساوي شعرة من شاربي رجل).
قال الملك: (سأعينك وزيرًا لي).
فظل مصطفى مصرًّا على الرفض، فقال الملك: (سأعينك رئيسًا لوزرائي).
قال مصطفى: (أفضل أن أكون شحاذًا. شحاذ بشاربين أفضل من رئيس وزراء بلا شاربين).
قال الملك: (سأجعلك شريكي.. تحكم مملكتي كما أحكمها).
فلم يتراجع مصطفى عن رفضه حلق شاربيه. فأطرق الملك برأسه وفكّر ساعة، وتكلم بعدها، وقال لمصطفى: (أنتَ فعلاً رجل. وقد أثبتّ أنك الرجل الوحيد في مملكتي، فاحتفظ بشاربيك، وسأكافئك خير مكافأة). وزوّج الملك مصطفى من ابنته التي كانت أجمل امرأة في الدنيا.
وأحب مصطفى بنت الملك أشد الحب، وعاش معها أشهرًا بسعادة وهناء، حتى جاء يوم أفاق فيه مصطفى من نومه صباحًا، فإذا بنت الملك عابسة الوجه مكتبئة، فسألها مصطفى بلهفة عما بها. فقالت له: (أتسأل وأنت السبب).
قال لها مصطفى متعجبًا محتارًا: (أنا! لا عاش من يزعلك. قولي لي متْ فألبي رغبتك دون تردد).
قالت بنت الملك: (أنا متضايقة جدّا من شاربيك، ولو تخلّصت منهما، فلا بد أنك ستصير أجمل رجل وسأحبك أكثر).
فاستنكر مصطفى كلامها، وحاول إقناعها بخطإ ما قالته، ولكنها لم تقتنع، وقالت له: (لن تبصر وجهي بعد اليوم إلاّ إذا حلقت شاربيك).
ونفذت بنت الملك وعيدها، وحبست نفسها في مخدعها، وأقفلت بابها من الداخل.
وتعذب مصطفى طويلاً لما حرم رؤية من يحب، ولكنه صبر وتجلد، إلى أن جاء يوم ضعف فيه واستسلم لصوت قلبه، فحلق شاربيه، وهرع إلى مخدع بنت الملك، وقرع بابه وهو يهتف: (افتحي.. فعلت ما ترغبين فيه).
وفتحت بنت الملك باب مخدعها. وما إن رأت مصطفى حتى تراجعت إلى الوراء وهي تضحك ضحكًا متواصلاً. فدنا مصطفى منها متلهفًا إليها وحاول معانقتها، ولكنها قفزت مبتعدة عنه وهي تقول بجفاء: (إياك والاقتراب مني!).
قال مصطفى: (لماذا).
قالت بنت الملك: (إذا أردت معرفة السبب، فاذهب إلى المرآة وانظر فيها، فقد صرت دون شاربين مثيرًا للضحك أكثر من أي مهرج في مملكة أبي، وصرت أيضًا قبيحًا إلى حد أن كلبة عمرها مئة سنة لا تقبل بالنظر إليك نظرة واحدة!).
لما سمع مصطفى كلام بنت الملك حزن حزنًا شديدًا، واستلّ خنجره، وطعن به قلبه طعنة قوية وهو ينظر إلى بنت الملك نظرة وداع وحب ولوم. وصاحت بنت الملك مستاءة، بينما كان مصطفى يترنّح موشكًا على السقوط أرضًا: (ابتعد.. ابتعد عن سريري لئلا تقع عليه فتتسخ أغطيته بدمك). وعندما علم الناس بموت مصطفى وما جرى له، حزنوا عليه كثيرًا وبكوا...). بتر أبو حسن كلامه، ونظر إلى الولد، فألفاه متمددًا على الأرض، مغمض العينين، مستسلمًا بوداعة لنوم عميق، فازدادت أصابعه الملتفة حول مقبض السكين شراسة. وزحفت السكين رويدًا رويدًا نحو الولد، ثم توقفت مرتجفة، غاضبة، حائرة بين قلب أبي حسن وعنق الولد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى