سالم أبو شبانة - الرحلةُ الغامضةُ..

بهبوطٍ حادٍ، بسكتةٍ دماغيّةٍ مباغتةٍ، أو برصاصةٍ رشيقةٍ تمرُّ ناعمةً كفراشةٍ؛ يأتي الموتُ، في أيِّ وقتٍ، في النّهارِ أو الليلِ سيأتي. بلا موعدٍ سابقٍ، بلا نيّةٍ البقاءِ: أمامَ المشهدِ البحريِّ، مقابلَ مرآةِ غرفةِ النومِ المكدّسةِ، تحتَ إطارِ سيارةٍ رعناءَ تعبرُ مسرعةً. سيكون له طعمٌ غامضٌ كفاكهةٍ نيّئةٍ، كعظامِ سمكةٍ لم تنضجْ في الشّواءِ، ربّما له أنيابُ تمساحٍ مباغت،ٍ قد يكون جميلاً كملاكٍ وسيمٍ، وهادئاً كحكيمٍ بوذيٍّ.
في صباحٍ مشمسٍ أستدعي الموتَ رغماً عنهُ؛ لأقولَ له: لقد صارتْ الحياةُ قطعةَ فلينٍ طافيةً، وإنّني بحاجةٍ للبكاءِ بعيداً عن أمثولةِ الذبابِ الأزرقِ. سآخذُهُ من يدِهِ وأضعُها علي قلبي المضطربِ مستمتعاً بعضتهِ القويّةِ. إنه تجربةٌ مثيرةٌ؛ فقد طالتْ الحياةُ بما يكفي تحلّلَ خلايا الدماغ،ِ وليجلسَ القلبُ على دَرجِ السّلمِ متعباً من صخبِ الحبِّ والكراهيةِ، من سطوةِ الحنانِ والقسوةِ، من هياجِ العاطفةِ والجنونِ.
تعالَ أيُّها الموتُ، تعالَ، بأيّةِ صورةٍ ممكنةٍ؛ لنبدأَ الرحلةَ الغامضةَ في أعماقِ الغابةِ.

تاركوفسكي والمطرُ القديمُ
تعثرتُ ليلاً في حقلِ الغربانِ! كانَ تاركوفسكي ينحتُ في الزمنِ. بكيتُ، لم يخضرْ الغضنُ الناشفُ، خرجتُ من الساعاتِ الرتيبةِ، وطعمُ الدهشةِ يلسعُ لساني كالقرنفلِ. لستُ البدويَّ، تاجرَ النُّوقِ القديمِ، إنّني رجلُ البلوجينز، وسجائرَ LM لا أملكُ إلا كلماتٍ عطنةً في العراءِ العريضِ. تجرحُني الرائحةُ عندما تمرُّ النُّوقُ العتاقُ في فضاءِ التلفزيون.
أسكنُ في شقّةٍ بالكادِ تسعُ جدياً يثغو، أتكلّمُ لهجاتٍ عدّةً، وأكتبُ قصيدةَ النثرِ هذه. بدويٌ يملكُ من البداوةِ: مجردَ اسمٍ ولهجةً تذوبُ كقطعةِ ثلجٍ؛ لذلك، جلستُ أمامَ تاركوفسكي والنوستالجيا تسيحُ مطراً قديماً.

أكره المطر
أكره المطر، وأكره الشوارع الموحلة كطائرٍ مكسور الجناح في سلة مهملات، أكره الغيم الأسود كنفس مريضة بالسوداء، أكره البرد الذي يتخللني كسكين ملوثة بالماضي، أكره دموع السماء التي نسميها مطراً.
هذا الغضب في الطبيعة لا ينقصني؛ فأنا أقدح شرراً كصخرة تحت ضربات الفأس. أكره مطراً يذكرني: بمطر الرصاص، وبجندي مبلول يرتجف كصوص خائف؛ ترتقبه بومة أو غراب. نعم، أكره المطر؛ لأن الشمس القوية تسحب نفسها كجريح، وأنا أكره الجرحى، والخوف المبهم.

علبة أقلام ملونة
أمي كانت ستحبكِ والله، ليس لأنكِ أقصر مني، ولا لأنكِ تتكلمين لهجةً بعيدة أقرب للهجتها؛ ربما لأنّ صوتَكِ يشبه حفيف فضة برقعها الذي باعته لتنقذ البيت من الضياع، وعينيك العسليتين تشبهان بحيرة بعد مطر صيفيّ. وأنك حين تغضبين مني تتكلمين عن الطعام الذي احترق فجأة بالأمس، وتشكينَني لي كصديقين.
أمي كانت ستحبك، تعرفين لماذا! لأنك لا تقفين في الما بين، وأن ابنها المرتبك دوماً في حضور النساء، يكون أمامك على راحته، كأنه أمام علبة أقلام ملونة زاهية.

فقط، كن يوماً عادياً
لا أحدَ هنا، لا شيء كما يبدو دائماً، كل ما هناك خرابٌ، خراب، امرأة تكذب لتعيشَ، إصبع ممدودٌ في وجهكَ بلا مبررٍ واضح. لا يخلو الأمر أحياناً من وادٍ وبحر شاحبٍ، مصفّحة تربكُ المشهدَ الصباحيَّ، طفلة تصحو فزعةً في الليل. لا أحتاجُ إلّا بعض هدوءٍ كفاصلة، لأقول: إنني مجرد رجلٍ بدويٍّ إيقاعه مرتبكٌ، يرجو قليلَ تفهمٍ وصبر. كل صباح أصحو كدراً، أبتهل لليوم: أرجوكَ كن عادياً، يوماً بلا مفاجآت غير محتملة. فنحن أبناءُ اليوم الواحد هذا، نتوجس المطر والرصاص، فنمشي تحت المطر والرصاص المنهمر.. لا شيء هنا إلا كتاب الطبيعة الفقير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى