الفرفار العياشي - الديمقراطية والعنف

الديمقراطية تقصي العنف أم تغذيه؟
يكشف تاريخ البشرية عن مسارات متعرجة ومعقدة للعنف. فالعنف يرتبط بالوضع البشري وهذا واقع مؤكد. غير أن هذا الواقع أتاح إمكانية بروز تأويلات كثيرة مع أو ضد العنف، فالإنسان حسب فرويد عدواني وشرس ومدمر والحضارة ليس بمقدورها سوى كبح شهوات العنف وليس القضاء عليها، فهذه الشهوات العنيفة تعاود الظهور كلما قامت الجماعة "بإلغاء الزجر" في فترات الحرب. غير أن هذا العنف هو مع ذلك إيجابي من حيث أنه يقود إلى نشأة الحق باعتباره قوة الجماعة ونشأة القانون / رمزية الوليمة الطوطمية.
ويمكن تعريف العنف أنه التعسف في استعمال القوة وإلحاق الأذى الجسدي أو النفسي بالآخر أو هو كل تصرف يمكن أن يسبب ألما للغير جسديا أو معنويا أو رمزيا. وتتنوع أساليب العنف ووسائله بدءا بالكلام الجارح مرورا بوسائل التعذيب المختلفة وانتهاء بالحروب المدمرة بحسب تصور إيف ميشو
[1].
إن عبارة "الإنسان ذئب للإنسان" هوبس Hobbes تعكس الطبيعة الإنسانية العدوانية على اعتبار أن العنف متأصل في الإنسان. وقد أخذ في شكله الأول بعدا ماديا يعتمد على القوة العضلية قبل أن يتحول فيما بعد إلى استعمال الأسلحة الفتاكة والتي تعبر على التفوق العقلي وإن كان الغرض بقي هو أي إخضاع الطرف الآخر وإلحاق الأذى والدمار به وهي عدوانية يشترك فيها الإنسان مع الحيوان باعتبارها ناتجة عن نزوع فطري غريزي حتى للضعفاء أشكالهم الخاصة لممارسة العنف ليسوا لأنهم لا يرغبون في ذلك بل لأنهم لا يستطيعون بحسب أسطورة جيجس، ولتوضيح هذا التصور يمكن التوقف عند رمزية ما أورده كلود ليفي ستراوس بشأن الفرق بين قبيلة الهوبي وقبيلة الكرو بالهند بخصوص التعامل مع امرأة خائنة حيث يقوم أفراد قبيلة الكرو بجذع أنف الزوجة وهو يشكل عنفا مباشرا، أما أفراد قبيلة الهوبي فيمارسون عنفا أخر حيث الذهاب إلى المعبد والبكاء والتوسل إلى الآلهة بأن تباد البشرية بكاملها.

فالأهواء الغريزية للإنسان أقوى من الاهتمامات العقلية كما يرى فرويد freud، وبالتالي فالعنف ملازم للبشر ويصعب التخلص منه أو تجاوزه رغم كل ما قطعه الإنسان من أشواط في مسيرته الحضارية، ورغم وجود كل المؤسسات الثقافية والقانونية والتربوية والأخلاقية التي أبدعها، لأن الحرب لازالت حاضرة وبأشكال أكثر قسوة من النزاعات القديمة، فكما هو الأمر عند الحيوانات لم يكن القطيع البشري على حد تعبير فرويد بمعزل عن قانون الطبيعة والمتمثل في الصراع من أجل البقاء ومن أجل تحقيق المصالح. إضافة إلى العنف المادي يمكن الحديث عن شكل آخر من أشكال العنف غير المادي، والذي قد يأخذ شكل أذى كلامي لغوي من شأنها أن تسيطر على ذهن الشخص وتستغله وتدفعه إلى المأساة دون أي تدخل فيزيائي مباشر، كما هو الحال في كل التأثيرات الإيديولوجية والأفكار الهدامة المتداولة على نطاق واسع والتي تمارس عنفا لطيفا يمارس تأثيره الاقتصادي والاجتماعي ويستسلم له الفاعل الاجتماعي بموافقته وتواطئه دون أن ينتبه إلى أنه متحكم فيه من طرف قوى سياسية متسلطة.
إن مختلف أشكال الهيمنة التي يخضع لها الناس والتي تبرر في الإكراهات والحتميات والمحددات التي توجه سلوكهم وتحدد اختياراتهم وتصنع لهم قراراتهم وآراءهم العامة وتوجه أذواقهم وتتحكم في استهلاكهم كلها تعبير عن عنف رمزي خفي يمارس علينا دون بنادق أو خناجر لكنه لا يقل عنها جرحا وألما وعذابا أننا في عالم اجتماعي فلتستقبل عددا من البديهيات والمسلمات التي تفرض نفسها علينا بسهولة وتلقائية بحيث يتحقق نوع من التوافق بين بنياتنا الذهنية والبنيات الموضوعية الاجتماعية التي ننتمي إليها. وهذا أكبر تجلي لقوة وسيطرة السلطة السياسية والاجتماعية التي نخضع لها... والتي تستطيع إقناعنا بنظامها على أنه عادي.

كل ذلك بشكل صامت وسري نكاد لا ننتبه إليه، وقد يمارس بتواطؤ حتى مع أولئك لا يعترفون به، يتضح إذن أن العنف له شروط تاريخية تغذيه وهو بدوره يغذي التاريخ بإحداث الصراع خطواته، وسيبقى الأمر على هذا الحال ما دام الإنسان موجودا لأن أسباب الصراع بين الناس هي نفسها ملازمة للبشر، وقد سبق لهوبس Hobbes أن حددها بدقة في ثلاثة: التنافس والحذر والكبرياء. التنافس الذي يكون السبب المباشر في الهجوم من أجل الاستيلاء على الخيرات، والحذر المحرك الأساسي للرغبة في الحفاظ على ما تم الاستحواذ عليه، والكبرياء المتمثل في الحرص على ضمان السمعة والمكانة الجيدة والمتميزة بين الآخرين.فالناس طالما يعيشون بشكل مشترك ستستمر هذه الأسباب المغذية للصراع، وحتى في حالة وجود سلطة تمنع المعارك المباشرة واعتداء طرف على طرف، فإن الصراع لا يتوقف وإنما يتحول من نوع أخر "حرب بارد" ذلك أن الصراع لا يأخذ دائما شكل قتال فعلي... مادام مجرد الاستعداد للحرب أو الخوف منها بمثابة حرب أو ما يرادف ذلك من دسائس وحقد وكراهية واعتداءات غير مباشرة ليس من العمق إلا حربا مقنعة لم تفصح عن وجهها الحقيقي بعد. ومن بين الحلول النسبية التي توصلت لها البشرية عبر التاريخ (بنظر Gérard) لضمان استقرار المجتمع... هي محاولة إطفاء جذوة العنف عبر التضحية بأضحية "حيوانية أ بشرية" بهدف إسقاط العنف الجماعي عليها... حتى تعيش الجماعة في سلام
[2] إذ تم نقل العداء إلى ضحية واحدة حاملة لكل الرغبات المتنافسة والتي تجسد – رمزيا – موضوع كراهية جماعية، فالفدية المضحى بها تضفي صبغة العدو المشترك، وبذلك يتم إيقاف الصراع بين الطوائف.إن هناك السلوك هو أصل كل الطقوس التعبدية القديمة وآخر ما يدل عليها في الزمن المعاصر هو ما يصطلح عليه بكبش الفداء.
في التراث الفلسفي القديم كان هناك تمجيد كبير لقيم السلم والحب والتعاون والفضائل بشكل عام، لكن المواقف التي حاولت النظر للعنف في بعده الإيجابي هي الأخرى موجودة. فقد تحدث هيراقليطس عن أهمية الصراع ودوره في الكبير في سيرورة الحياة إذا كان العنف من حيث الماهية يشكل نفيا لكل ما هو إنساني (الكلام، الاحترام، العقلانية)، فكيف يمكن أن نفهم دفاع بعض المفكرين عن العنف؟
يتميز الخطاب الفلسفي من هيراقليطس إلى "نيتشه" و"سارتر" مرورا ب "هيجل" و"ماركس" بدفاع خاص عن العنف إلا أن نيتشه Nietzsche ربما كان هو أكثر من دافع عن العنف كقيمة حياتية محاولا تخليصه من الصفات السلبية التي ألحقت به عبر التاريخ. فإرادة القوة بنظره هي قانون الحياة وهي منطق وبالتالي لا مجال لتصور حياة بدون صراع بدون معارك، ومن الواضح أن انحياز نيتشه لدينوزيوس من جهة، وانحيازه لإرادة القوة وتمجيده لها من جهة أخرى، ليسا إلا نتيجة لتمجيده الحرب وحمله على السلم واعتقاده بأن الحرب هي المجال الوحيد لإثارة الهمم: فالتنافس السلمي في نظره ليس فيه ما يثير حماسة البشر، ولا يسوده إلا الهدوء الممل. وأما الرجولة والبطولة فإنها لا تتبدى لديه إلا في تلك المجازر الحيوانية التي تولدها الحروب.
ويمكن التوقف عند بعض التصورات الفلسفية حول العنف في علاقته بأشكال الحكم:
كارل سميث Carl Smith
يرى كارل سميث أن السياسة تتموضع في فضاء صراعي بحسب تصور رشيد العلمي الإدريسي
[3] وكأنها حرب داخلية، هنا يمكن تسجيل أثر فلسفة طوماس هوبز في رؤيته للإنسان والمجتمع حيث الحرب الشاملة هي قانون المجتمع. إذا كان معيار المعرفة هو الخطأ والصواب ومعيار الفن الجميل واللاجميل، ومجال الأخلاق يقوم على معيار الخير والشر، فالسياسة تتأسس وفق معيار البحث عن العدو إن لم نقل هي فن استكشاف العدو، بالتالي يصبح أي قرار سياسي هو قرار مواجهة مما يصعب معه الحديث عن نظام ديمقراطي لدى سميث.
ميشال فوكو Michel faucoult والعنف المتعدد الأوجه.

إن كتابات ميشال فوكو تدل على أن العنف متواجد في عدة مستويات وله مظاهر مختلفة، وكثيرا ما يرتبط بالسلطة (أيا كان نوعها) وبالسياسة وبالظروف التريخية: فهناك عنف في المعرفة والخطاب، وعنف في المؤسسات الطبية والملاجئ وعنف في السجون على أن العنف الذي يحمل دلالة خاصة بالنسبة للمجتمع الحديث هو ذلك الذي يتجلى في مؤسسات السجون.
فيتعرض الإنسان في السجن لأفظع أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، أما الغاية المتوخاة من شراسة هذا العقاب فهي تطويع الأجساد وتذويب العقول وغرس الرعب في النفوس قصد إقبار كل نزوع إلى العصيان والتمرد والقضاء بصفة نهائية على كل روح نقدية ولما يفرج عن الإنسان يكون فاقدا لذاته ولوعيه الاجتماعي وفي اغتراب تام. لذا يعتبر فوكو أن العدالة هي صناعة لأجساد طيعة ومتحكم فيها على أن عزل "المجانين" في الملاجئ كانت له أهداف أخرى تتمثل في إبعاد العناصر المنحرفة أو غير المرغوب فيها وترحيل هذه "النفايات الاجتماعية" إلى المستعمرات الجديدة.
إن المتأمل في الأنظمة السياسية على مر التاريخ سيجد أن جوهر السلطة هو ممارسة العنف بل أكثر من ذلك هو العمل على احتكار العنف، مادام التعاقد الاجتماعي ليس شيئا آخر غير التنازل للدولة عن حق استعمال العنف في إطار نظام سياسي متفق عليه. هكذا يرى أن الدولة الحديثة لا يمكن تحديدها خارج مفهوم العنف فلو لك تكن هناك بنيات اجتماعية قائمة على العنف لاختفت الدولة ولحلت محلها الفوضى. وبالتالي لا يتردد Weber في القول بأن العلاقة بين الدولة والعنف هي علاقة حميمة فهي تحتكره لنفسها فقط. ولا تسمح لأي جماعة أخرى أن تمارسه كما هو الأمر عند التجمعات البشرية القديمة... فإن الدولة الحديثة تقوم على علاقة سيطرة يمارسها الإنسان عبر استعمال – مشروع هذه المرة – للعنف.
لكن ليست الدولة فقط من تضفي على العنف المشروعية عن أجهزتها القمعية والأمنية المختلفة، بل حتى المجتمع هو الآخر في حالات كثيرة يتعايش مع العنف ويبيحه، إذ يرى لينتون R. Linton أن في كل التجمعات هناك منازعات عنيفة تتم بمعرفة الجميع وبدون اعتراض، بل هناك حالات ينشب فيها عراك مثلا دون أن يصدر أي رفض أو احتجاج من طرف الناس أكثر من ذلك، قد يعملون على تشجيعه كوسيلة لحسم الخلافات وتسويتها وهناك حالات كثيرة نسمع فيها الناس يتباهون بأعمالهم الشريرة باعتبارها تجذب الانتباه لهم. وهو ما يشير إلى وجود نوع من المشروعية الضمنية للعنف.
لكن في المقابل تقدم لنا الفلسفة والتاريخ السياسي معا نماذج لنظريات وتجارب جعلت العنف عدوها الأول وربطت بين استقرار الإنسانية والقضاء على العنف، بحيث نجد كانط Kant مثلا يؤكد على أن العنف لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكون مشروعا
[4] بما في ذلك الثورات وأشكال العصيان والتمرد لأن العنف أيا كانت مبرراته، إنه دائما شر ولا يمكن أن يترتب عنه إلا الشر. وحتى في حالة ما إذا ارتكبت السلطة خروقات في حق الرعية فإن المقاومة لا ينبغي أن تقوم العنف بل على أشكال أخرى لأننا حين نواجه عنفا بعنف آخر، فإننا في الواقع لم نغير شيئا فقد تغيرت الوجهة فقط، أما الوضع فهو نفسه. إن من يمارس العنف يجد دائما مبررا لذلك فكا يبرر الحاكم عنفه في حق الشعب بوجود عصيان يتهدده، يبرر الشعب عنفه بتعرضه لظلم وقسوة الحاكم، وبالتالي يصعب الحسم في هذه الحالة لذا وجب تجريم العنف وإدانته أيا كان مصدره وأيا كانت مبراته.
هذه النظرية المثالية للسلم وللحلول التفاوضية بدل المواجهات العسكرية العنيفة ستجد من يؤمن بها، ويسعى جاهدا لتطبيقها عمليا في التاريخ السياسي الحديث ولعل أبرز تجربة يجدر بنا هنا أخذها بعين الاعتبار هي تجربة الزعيم السياسي البارز "غاندي" والذي نظر للعنف دائما كشيء سلبي لا يصلح لأي شيء مادام لا يعمل في الجوهر إلا على نشر الحقد والكراهية والشر وكل المظاهر السلبية الهدامة. إن العنف – حسب غاندي – هو إرادة سيئة اتجاه الحياة، إنه رغبة في إلحاق الأذى والألم بمن نعتبره – لأسباب معينة وفي ظروف معينة – خصما.
لقد أتعب العنف العالم أنهكه وآن الأوان للدفاع عن نشر قيم أخرى. هكذا يعلن غاندي مشروعه الداعي إلى اللاعنف كوسيلة لتحقيق الحب والصداقة بين الناس وكأداة فعالة لمناهضة الشر بدون دماء، إنه صراع أخلاقي. يقول غاندي: "أود ان أكافح ضد ما هو لا أخلاقي وأن أواجهه بمعارضة ذهنية أخلاقية أنني أسعى لأن أفل سيف المستبد ليس عن طريق مواجهته بسيف أكثر مضاء وحدة... بل بمفاجأته بان أخيب أمله في أن يراني أواجه بمقاومة فيزيائية فه سيجدني أواجهه بمقاومة روحية تفلت من تقديره وتحمه وهي مقاومة ستعميه وستفرض عليه أن يرضخ"
[5].
موقف "غاندي" هذا وفلسفته ينهلان من ثقافة آسيوية عميقة مشبعة بالقيم الروحية والمثل الإنسانية الداعية إلى الحب والسلام كحل للإنسانية ضدا على كل نزعة تدميرية. إن العنف بنظرها يبقى دوما رذيلة – مهما كان شكله او سببه – إن الديمقراطية نقيض العنف أو على الأقل هي محاصرة للعنف



[1] - العنف تساؤلات الفكر المعاصر، إيف ميشو، دار الأمان، الرباط، ص:58.
[2] - الفكر المعاصر حوارات، ترجمة محمد سبيلا، منشورات ما بعد الحداثة، فاس، ص: 59.
[3] - مقال حول الفلسفة السياسية والعنف، رشيد العلمي الإدريسي، منشور بسلسلة فكر ونقد.
[4] - رشيد العلمي الإدريسي، المقال السابق.
[5 اللاعنف، غاندي، الكتاب تالمدرسي لمقرر الفلسفة مباهج الفلسفة، إفريقيا الشرق، ص: 151.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى