عبد الغفار مكاوي - الدهشة أصل الفلسفة..

بالدهشة نخطو الخطوة الأولى على طريقها الطويل، نسأل الموجود: ما أنت؟ من أين أتيت؟ وإلى أين تصير؟ لِمَ وُجِدتَ ولم تكن بالأَولى عدمًا؟ نحن جميعًا مطالَبون بالسير على هذا الطريق الذي قد لا يكون له آخر وقد لا يبدو له هدف، إنه طريق يسير عليه الإنسان ولا يدري إن كان «سيصل»، فهو لا يعرف هنا معنًى لكلمة «الوصول»، إنه يحمل على ظهره منتهى شجاعته ومنتهى حزنه، يتخبط في ليل السؤال ولا يدري إن كانت ستشرق عليه شمس الجواب، كلمة «لماذا» هي عصا الوحيد على الطريق الوحيد، تلمس الحجر فتَنبت له عينان تستفسران: مَنْ أنا؟ ما أصلي؟ وما نهايتي؟ وتمس الحيوان فيرتعش، يفيض السؤال البريء من النظرة البريئة: هل تعرف إلى أين؟ وتهزُّ عقل الإنسان وقلبه فيفتح عينيه كما فتحهما آدم على الوجود أول مرة ويسأل: من هو الإنسان؟ ماذا أُريد من العالم؟ وماذا يُريد العالم مني؟

نقول: إن الدهشة أصل الفلسفة، ويوشك القارئ أن يسأل: وهل تحتاج الكلمتان إلى تفسير؟ أمَّا الدهشة فأراها كل يوم، في العيون المفتوحة والحواجب المرفوعة والأفواه الفاغرة، وأمَّا الفلسفة فأقرأ عنها في كل مكان، وأستطيع أن أتتبع تاريخها في كل مكتبة، وألمَّ بماضيها وحاضرها في بضعة أيام، غير أن من الكلمات ما يعاني نفس المصير التعس الذي عانته الكلمات على يدَي محدثي سقراط، فكلهم كان يدَّعي معرفتها، فإذا به ينتهي إلى اكتشاف جهله بها، كل لسان يلوكها وكل قلم يجري بها يُسدل عليها ستارًا جديدًا من النسيان ويلفُّها في سحابة من الغموض.

لن نعرف الطريق إلى الكلمة حتى نبدأه من أوله، ولا طعم القطرة حتى نعود بها إلى منبعها، وأول فم نطق بكلمة الفلسفة كان فمًا يونانيًّا، فلنحاول أن نستمع إليه كما خرج منه أول مرة، ولنحاول أن نفتش عنه تحت أكوام المعارف التي تنهال عليه منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنًا.

حين نسمع الكلمة في أصلها اليوناني نجدها تقول: «فيلوسوفيا»، الكلمة الآن تتحدث بلسان يوناني، وتحدد بنفسها الطريق، الطريق يمتد أمامنا، فهناك دهرٌ طويلٌ يفصل بيننا وبين مَنْ نطق بها لأول مرة، والطريق يمتد من خلفنا، فقد طالما سمعناها وأجريناها على أفواهنا، وهو في الوقت نفسه طريق نسير عليه وما نزال نتابع المسير، ولكن ما أقل ما نعرف معالمه، برغم كل ما نعرفه عن الفلسفة اليونانية من حقائق وما نقرأ في تاريخها من بحوث.١
الكلمة اليونانية تقول لنا أيضًا: إن الفلسفة هي التي حددت وجود اليونان في فجر حضارتهم، وليس ذلك فحسب، بل إنها هي التي حددت ملامح التاريخ الغربي الأوروبي، والواقع أن عبارتنا «الفلسفة الغربية الأوروبية» هي من قبيل تحصيل الحاصل، لماذا؟ لأن الفلسفة في صميم جوهرها ونشأتها يونانية، فحين نقول إن الفلسفة يونانية فإنما نعني أنها مسَّت قلب اليوناني وعقله، واليوناني وحده، وسيطرت أول ما سيطرت على روحه؛ لتطبعها وتطبع الروح الأوروبي من بعده حتى يومنا هذا؛ فعبارة «الفلسفة في صميم جوهرها يونانية» لا تريد إلا أن تقول: إن تاريخ الغرب وأوروبا — وتاريخهما وحدهما — في صميمه فلسفي، ونشأة العلم وسيادة الصنعة الفنية «التكنيك» في أيامنا هما دليلنا على هذا، إنهما الزهرتان الشائكتان اللتان تنحدران من جذور الشجرة اليونانية.٢

ما كان للعلم أن يقوم لو لم تسبقه الفلسفة، ولن نعرف ما الذرة والصاروخ حتى نعود إلى السؤال الذي ألقاه الحكيم اليوناني الأوَّل: ما هذا «الوجود»؟ إن كلمة الفلسفة — كما يقول هيدجر — مكتوبة على شهادة ميلاد أوروبا والغرب، وفي استطاعتنا لا بل من واجبنا أن نقول: إنها مكتوبة على شهادة ميلاد عصرنا الذي نسميه في رهبة وإشفاق بعصر الذرة.

بالسؤال: «ما هذا؟» نحاول أن نحدد «ماهية» الشيء، فحين نسأل: ما هذا الذي يبدو على البعد؟ ونتلقَّى الجواب: إنه شجرة، ثم نعود فنسأل: وما هو هذا الذي ندعوه شجرة؟ فإننا نكون قد اقتربنا من طريقة اليونان في السؤال، أي اقتربنا من الفلسفة. هكذا كان يسأل سقراط وأفلاطون وأرسطو، إنهم يسألون: ما هذا الذي نسميه بالجمال؟ وما هذا الذي نسميه بالمعرفة والطبيعة والحركة؟ إن السؤال عن «ما هو الموجود؟» ليس سؤالًا من أسئلة، ولكنه «السؤال» الذي طبع الروح الغربي من المهد حتى لحظتنا الراهنة، فسؤالنا «ما هو» سؤال عن ماهية شيء، عن جوهره وحقيقته، والسؤال عن الماهية يستيقظ في عقل الإنسان وقلبه حين يصيب الاضطراب والغموض ماهية ما يسأل عنه، وحين تهِن صلته به أو تهدد بالضياع والانهيار، فسؤالنا إذن عن ماهية الفلسفة ينبع من إحساسنا بأن الفلسفة نفسها أصبحت موضع السؤال، إنه يصدر عن شعور بالمحنة، محنتنا نحن، السائلين والمسئولين جميعًا؛ ذلك لأن الفلسفة لا تُصاب بالمحنة. والذين يحلو لهم أن يتحدثوا عن محنة الفلسفة إنما يتحدثون عن محنتهم هم، عن عجزهم عن الاتصال بروحها وانقطاع الأسباب التي تربطهم بما هو حق وباقٍ وخالد، وكم مرت المحن المزعومة — من جانب الفلاسفة قبل كل شيء — كما تمر السحب على وجه الشمس.

دار بنا الحديث في دائرة، كُنَّا نسأل عن أصل الفلسفة، فساقنا الحديث إلى ماهيتها، ثم إذا بنا نتهم أنفسهما ونتهم غيرنا بأننا نعيش من إهمال السؤال عنها في محنة. ولكي نعرف سر هذه المحنة لا بد لنا من معرفة ذلك الذي أدرنا ظهورنا له، وعصبنا أعيننا عن رؤيته حتى تعثَّرنا في المحنة، أعني لا بد لنا أن نعود فنسأل: ما هي الفلسفة؟

........
(*) مدرسة الحكمة، تأليف: عبد الغفار مكاوي،

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى