محمد بنقدور الوهراني‎ - أصدقائي الشعراء..

مصطفى الشليح
صديقي الذي لم ألتقه بعد .
صديقي الذي، كلما همت داخل الفضاء الأزرق، ألتقيه.
صديقي الذي أختلف معه أكثر مما أتفق، مع ذلك أجد نفسي ألتقي معه في منتصف الطريق، في أكثر من رأي، وفي أكثر من موقف، وفي أكثر من موقع.
مصطفى الشليح، صديقي الذي لا يمكن أن أمر مرور الكرام، وأنا أطالع تدويناته، سواء كانت تتماشى وقناعاتي أو تتناقض معها، دون أن أسائل هذه التدوينات في نفسي، وأقلبها يمين الشك ويسار اليقين، وقبل أن أتركها وهي تاركة داخلي كثيرا أو قليلا من الأثر.
مصطفى الشليح، صديقي الذي لا يجد غضاضة في الدخول معي في مخاصمات فكرية، نتيجة آراء ومواقف، دون نسيان حدود اللياقة ومظاهر الاحترام وبذور المحبة، في وقت أضحى الاختلاف يعني القطع والقطيعة والنقض والحذف والنسيان.
مصطفى الشليح إبن أصيل للجامعة المغربية ومعبر صريح عنها، سواء كطالب أو كباحث أو كأستاذ يزاول التدريس والتأطير بين ردهات كلية الآداب بمدينة المحمدية.
مصطفى الشليح الشاعر، بنى مكتبته الإبداعية رفاً من بعد رفٍّ، بدأها بــ (عابر المرايا)، 1998، وأنهاها بــ (لا أناديك.. حتى أسميك)، 2015، بينهما (وعاء العراق يشربه القصف)، 1999، (لك الأوراق وكل الكلمات لي)، 2007، و(ثم تلقي على كل أسئلتي شالها)، 2009، و (القصيدة... من خطايا اللغة)، 2010، و (كأن النهر امرأة.. لا تنام)، 2012، و (ألف رباعية ورباعية)، 2012، و (هو العابر الرائي)، 2013، و(وصايا لا تلزم أحدا)، 2014.
عشرة دواوين شعرية خلال سبع عشرة سنة هو قطاف جيد إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المعدل العام المستخرج من عدد السنين وحجم الدواوين الشعرية التي جلّها يتعدى 250 صفحة، بل هناك دواوين يفوق عدد صفحاتها 300 .
مصطفى الشليح شاعر، خَبِر القصيدة العربية وارتبط بها، سواء في منشئها أو امتداداتها أو في تحولاتها، وكتبها بهذا الانتباه النقدي وهذا الهاجس الإبداعي.
ربما من هذا الجانب كتب ويكتب مصطفى الشليح القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة ويتموقف من قصيدة النثر كوافد شعري ينقصه الكثير لينتسب إلى شجرة الشعر المجيدة.
من هذا الجانب، كذلك، لا يمل ولا يكل الشاعر مصطفى الشليح من دخول معارك فكرية ومفاهيمية وشعرية يراها تستحق المواجهة والصراع والدفاع عما تبقى من أركان وأسس وصوامع المعبد الشعري الذي ينتمي إليه، تاريخيا وتراثيا وشعريا.
معارك ومواجهات مصطفى الشليح تكاد لا تتوقف ولا تنتهي، هو يعتبر نفسه من حراس معبد القصيدة العربية الأصيلة، ويقتضي منه هذا، التيقظ الدائم والانتباه الكلي والتحضير المنهجي للدفاع عن أطروحته الشعرية التي تعترف باغترافها من الأصل الشعري العربي والحيطة والحذر من الترهات الشعرية الدخيلة التي يحاول شعراء الموجات الحديثة تبنيها وفرضها على الواقع الشعري المغربي والعربي بشكل عام.
الشاعر مصطفى الشليح يعتبر الفراهيدي والجرجاني وابن جني والمتنبي وابن زيدون والحلوي، وغيرهم كثير، أعلاما خالدة لم توجد في تاريخ الأدب والكتابة العربية لكي تقفز الأجيال الشعرية اللاحقة عليها أو تتجاوزها أو تلغيها، هي موجودة للاتباع والاقتداء.
الشاعر مصطفى الشليح، حتى وهو يجيز التجديد في الأصل، تظل ملامح ومقومات القصيدة التقليدية تطل علينا في أفكاره وتنظيراته من جوانب عدة، لعل أبرزها الإيقاع بوزنه وقافيته، والصورة بمكوناتها، واللغة بتوظيفاتها.
عند الشاعر مصطفى الشليح، الوزن هو سر القصيدة، ومن لا وزن له لا شعر له.
هل الشاعر مصطفى الشليح رافض لقصيدة النثر؟
بالتأكيد، نعم.
هل الشاعر مصطفى الشليح كافر بالحداثة؟
بالتأكيد، نعم.
بل هو يذهب أبعد من هذا حينما يعتبرها من المطبات الأساسية التي أدخلت الشعر العربي في دوامة من الضياع.
من زوايا أخرى، حسب مصطفى الشليح:
_ ليس الأصالة اتخاذ التراث معطفا.
_ الأصالة لا تعني القديم، ولا تقابل المعاصرة.
_ الأصالة هي الجدة المؤسسة.
_ الأصالة أن تكون أنت في حضور الآخرين.
في سياق آخر، لا يجد مصطفى الشليح حرجا في اعتبار التجربة الشعرية المغربية المعاصرة حركة شعراء وليس حركة مدرسة شعرية لها ميسمها وخاصياتها، يقول، ذات رأي؛
أما في المعاصر من القول الشعريِّ المغربيِّ، فلا حلقة تنتظم شعراء، ولا تقدمة لأحد على آخر. هناك أصوات شعرية لكل منها نبره الخاص، وما يزعم بعض القوم إِنْ هو إلا تأتٍّ منْ توسل بالإديولوجي وبالإخواني ضدا على الشعري والجمالي.
الشاعر مصطفى الشليح، بحس نقدي متقدم، يزيد في تفصيل القول في هذه القصيدة المغربية المعاصرة ويلمز ويهمز في اتجاه بعض المشتغلين في الحقل الشعري المغربي الحديث الرافضين للقديم والمكتفين بالجديد الآتي من الشرق العربي أو من الغرب، حينما يعتبر أنه من العبث بحث بعض الشعراء والنقاد عن ريادة للقصيدة المغربية، ومن العبث اقتياد البحث إلى افتراضات حول الصوت الشعريِّ الأول، وحول الأدق بالاتِّباع، والأحق بالأتباع، وإلى العبث يفضي ذلك البحث عن وجهة يتيمة لكتابة الشعر.
الشاعر مصطفى الشليح يلخص القضية، في آخر المطاف،(اليتمُ قدرُ القصيدة المغربية؛ فلا أبوة شعرية منذ قديم الكتابة الشعرية، في المغرب.)
هل حقيقة، اليتم هو قدر القصيدة المغربية؟
وإذا كان الأمر كذلك، لماذا يمعن الشاعر المغربي في قتل الأب والبداية، دائما، من الصفر الشعري؟
وإلى أي نتيجة يمكن الوصول إليها، إذا انطلق الشاعر من الصفر الشعري؟
مثل هذه الإشكاليات الفكرية والإبداعية تحبل بها كتب مصطفى الشليح الأدبية الأخرى، وهي متعددة، ومثلها كذلك نجدها في تدويناته الفايسبوكية التي غالبا ما تثير النقع لراهنيتها وووجاهتها، حتى وهي تتخندق في اتجاه خاص أو تدافع عن اتجاه خاص كذلك.
على ذكر التدوين الفايسبوكي، تجب الإشارة، الشاعر مصطفى الشليح يستغل الفضاء الأزرق استغلالا جيدا حينما يجعله نافذة يطل منها بشخصياته المتعددة، الشاعر، حينا، والناقد، حينا، والمتتبع المعلق على تدوينات الآخرين، حينا، والسائل عن أحوال الأصدقاء، حينا، والمجادل حينا...
الشاعر مصطفى الشليح كائن فايسبوكي دائم التدوين والتواصل والتفاعل، وحتى التصادم.
إعتمادا عليه، وأنت تتتبع كتابات الشاعر مصطفى الشليح، المركونة بين دفتي دواوينه، أو المنثورة في الفضاء الأزرق، عليك بالاحتياط والانتباه إلى خلفيته التراثية، عليك أن تتأبط إحاطة تامة بالقصيدة العربية في ثوبها الأول وفي شكلها الأول وفي عمودها الأول، ثم بعد ذلك إبحث للشاعر ولقصيدته عن لبوس آخر وعن شكل آخر وعن لون آخر، مادامت الإحالة بينة معلومة معروفة، ومادام التلقي محدد الإطار جلي الفهم والإحساس، بعيدا عن التفسير أو التأويل أو ضياع المعنى.
الشاعر مصطفى الشليح هو القائل:

ماءٌ ظامئٌ
ينهلُّ أجراسًا
إلى أجراسِه
يدخلُ القوسَ فراشًا
شطَّ عَنْ أقواسِه
هذا بيانٌ جرحتْه
دهشة اللَّيلِ
لتغويه
وهذا اللَّيلُ
إذا أوقفه اللَّيلُ
لكيْ يُؤويه
وقتٌ خائفٌ
منْ وقتِه،
وقتٌ رهيفٌ.
ظامئٌ منْ يرويه.

هو القائل، كذلك:

تهْ قليلا بنا
كيْ تكونَ دليلا
كأنَّا، وَقَدْ ثملَ اللَّيلُ،
قلنا: فكيفَ ينامُ قليلا ؟
وكيفَ نشدُّ يدَ الحلم يأرقُ،
ثمَّ يرُدُّ الصَّدَى بيَدِ ليُقدَّ دليلا ؟

وأنت تقرأ مثل هذا، لا بد أن تحس بروح القصيدة العربية القديمة، حتى وإن كان الشاعر يحطم وحدة البيت الشعري، ويعيد ترتيب تفاعيل البحر وفق حالته النفسية وضرورته الشعرية .
وأنت تقرأ مثل هذا، عليك بالقاموس اللغوي القديم، فمن خلاله يمكنك الولوج إلى المعنى الذي قد يوازي الغرض الشعري، وقد يتجاوزه.
وأنت تقرأ مثل هذا، لا بد أن تعود إلى عناصر الصورة الشعرية في بنائها الأول وفي أصالتها الأولى، إذ لا خروج عن أصول الدال والمدلول، أو أركان التشبيه والاستعارة إلا من باب توضيح المعنى بتعميقه وإغنائه واتساعه.
هل هذا الاختيار، الذي يعض عليه الشاعر مصطفى الشليح بالنواجذ، له ما يبرره جماليا وواقعيا وزمنيا؟
ربما في مثل هذه الإشارات التي يوردها الشاعر مصطفى الشليح، نجد بعض عناصر الإجابة، يقول:
_ الشعرُ كونيٌّ. لا لغة للشعر. للشعر كلُّ اللغات. كلُّ شيء في الكون للشعر؛ حتَّى تنفس الحجر، حتى غنج غيمةٍ، حتى انحناء كهفٍ، حتى وقوف النهر على حافة الشجر.
_ وحده الشِّعرُ يطرحُ السُّؤالَ ويتركُه صورةَ سؤال.
_ٌالوزنُ صيغةٌ صرفيةٌ قبلَ كونِه إجراءً عروضيًا.
_ انتظام الإيقاع يرهق الشعر.
_ ليسَ الشعر تفكيكا للنظم، فكل كتابة نظم وتأليف، وحين تجاور مفردة أخرى، بقصد، فذلك انتظام ونظم.
_ تَكُونُ للتفاصيل شعريتُها إذا الكلياتُ ليستْ مطلبا.
_ اللغة، قبل الكتابة، مؤسسة ذات ثوابتَ ومتغيراتٍ، والشَّاعرُ من يَكُونُ إلى تلكَ اللغةِ سفرًا بها إلى حوار الصَّوتِ والصَّدَى.
...
بعد كل هذا، يبقى السؤال، لماذا لا يهتم النقد المغربي بإنتاجات الشاعر مصطفى الشليح؟
هل عدم الاهتمام هذا مقصود لذاته أم هو مرتبط بالتراجع الكبير الذي يعرفه النقد الشعري المغربي؟
قد نجد الجواب عند الشاعر مصطفى الشليح حين يقول:
أما قبل: كنَّا نبحثُ عن أمسيات ثقافية لنتعلم، وكانتْ أبعد من نجم العيُّوق.
أما بعد: هنا وهناك انتظاماتٌ للشعر وللسرد ولغيرهما، وهي أقربُ من حبل الوريد.
أما بينهما: كثرة كاثرة، ووفرة وافرة .. وندرة نادرة للوازن من الكتابة، وكأنَّ تمييع المشهد السياسيِّ أخذ بالثقافيِّ أخذ غاصبٍ، وما كان له ذلك من قبل.
وقد نجد الجواب في قوله:
سأل: لماذا النَّقدُ صادفٌ عَنْ شعركَ ؟
قلتٌ: لا شأنَ لي. أنا أكتبُ.
هل ينطق مصطفى الشليح عن الهوى؟
لا، بل هذا عين الحق والصواب ولب الحقيقة الحقة.
الشاعر مصطفى الشليح كتب أخيرا:

لا يكفي
تقرأ مالارميه
ورمية نردٍ أنَّكَ شاعرْ

لَوْ أنَّكَ تعرفُ
ما بينَ الرميةِ والنرد
لكنتَ الشَّاعرْ ..

أنا أعرف الشاعر مصطفى الشليح
هو مني، وأنا منه.
أنا أعرف أنه رفيقي،
بيننا أقل من مسافة وأكثر من حضن وأبعد من ظل وأقرب من مدى...
بيني وبينه القصيدة والطريق والحريق.
أنا أعرف أنه صديقي
وأنه الشاعر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى