مولود بن زادي - رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان..

حُظي الترسّل بمنزلة رفيعة لدى العرب منذ قديم الزمان. فقد شهد هذا الفنّ انتشاراً واسعاً وازدهارا عظيما في صدر الإسلام والعصر الأموي، وبلغ أوج ازدهاره في العهد العباسي، لينحسر ويتوارى بعد ذلك، لا سيما في عصرنا هذا مع انتشار فنون أدبية أخرى كالرواية والقصة، وهيمنة وسائل التواصل السريعة والرسائل النصية القصيرة، ورسائل البريد الإلكتروني وواتس آب وغيرها من الوسائل الحديثة التي حلّت محل الخطابات المكتوبة. ومع ضمور هذا الفن، تفاجأ الوطن العربي باكتشاف رسائل نادرة بعث بها أدباء كبار، كخطابات جبران خليل جبران إلى مي زيادة، التي كشفتها مي بعد رحيله عام 1931، أو (رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان) التي أصدرتها الأديبة السورية غادة أحمد السمان بعد وفاته في كتاب عن "دار الطليعة" في بيروت عام 2016.

وقد أثار الكتاب ضجةً كبيرة وجدلا حادا في الأوساط الأدبية، فتعرّضت غادة السمان لانتقادات في الصحف ومنابر التواصل الاجتماعي. قال عنها الشاعر المصري إبراهيم داوود: "نشر رسائل خاصة لكاتب راحل شيء غير أخلاقي". وقالت الأديبة التونسية حياة الرايس في صفحتها: "ليس من حق غاده السمان نشر رسائل رجل ميت حتى لو كان شخصية عامة. لو كان أنسي الحاج يريد نشرها، لنشرها في حياته. وبأي حق نتصرف في إرث شاعر ميت، ورسائل خاصة لم يوجهها إلى العموم ولم يوصِ بنشرها؟ بقطع النظر عن قيمتها الادبية التي لم ألمس فيها صدقا عاطفيا سوى نزوة مغلفة بالأدب لامرأة مثقفة متحررة يحلم كل مثقف وغير مثقف بإقامة علاقة معها"

ولم يسلم من الهجوم حتى الشاعر المرحوم نفسه. وصَفته صحيفة (الرياض) ب"مجرد 'مراهق' لا أكثر ولا أقل. مراهق بث غادة مأساته الذاتية أكثر مما بثها أي شيء آخر." وذهبت الصحيفة أبعد من ذلك، إلى حد رميه بالخيانة والجنون والهلوسة.

هذه الضوضاء تدعونا إلى التساؤل عما إذا كانت غادة قد أذنبت عندما نشرت هذه الرسائل؟ وما إذا كان من حق الأدباء التصرف في رسائل خاصة بعد وفاة أصحابها أو من غير إذنهم؟ وقبل ذلك، ما نوع هذه الرسائل التي نشرتها غادة؟



رسائل شخصية

اللافت أنّ جلَّ الذين اعترضوا على نشر هذه الرسائل فعلوا ذلك بدعوى أنها رسائل شخصية. ولم يخطئوا في ذلك. فنحن إذا تأملنا كتاب غادة السمان وجدناه يحتوي على صور رسائل حقيقية كتبها لها أنسي الحاج بخط يده. ونراه في هذه الرسائل يخاطبها باسمها "غادة"، ويخصَّها بها دون غيرها وهو ما نلمسه في أول رسالة عندما يسألها: "لماذا أتحدث إليكِ أنتِ، أنتِ، دون سواك؟..." ولم تكن غادة غريبة عليه. كانت تجمعه بها صلة حميمة، ميزتها كثرة اللقاءات، وهو ما اعترفت به غادة في مقدمة كتابها في قولها: "فقد كنا نلتقي كل يوم تقريبا في مقهى الهورس شو - الحمرا، أو الدولشي فيتا...".

لكنّ هؤلاء الذين عارضوا نشر الرسائل لأنها خاصة تغافلوا عن مزايا الرسائل الشخصية التي يخطها الأدباء والمفكرون والتي عادة ما تتسم بالعفوية والصدق. فما يعبّر عنه الكاتب في خطابه لحبيبه يختلف حتما عما يعبّر عنه وهو يخاطب المجتمع. ففي الرسائل الخاصة، يتحرّر الكاتب من القيود والضغوطات الاجتماعية، فتنساب الكلمات الصادقة من القلوب العاشقة، بحرية وتلقائية، وهو ما ييسر لنا تبيّن شخصيته بعيدا عن الأقنعة والماكياج. حريٌّ بنا أن نؤكد أن رسائل أنسي الحاج إلى غادة تبدو أكثر جلاء وصدقا من رسائل جبران إلى مي. فجبران لم يصارح مي زيادة بأي حب بعد عشرين سنة من المراسلة! في حين نرى أنسي يكشف تعلقه بغادة في أول خطاب! يقول لها: "أريدك أن تكوني معي. أن تكوني لي. أريد أكثر من ذلك، أن أكون لك."



رسائل أدبية

رسائل أنسي إلى غادة وإن كانت شخصية، إلاَّ أنها تكتسي أهمية أدبية وفكرية معتبرة. فالرسالة تعد جنساً أدبياً فنياً مستقلاً بذاته عن بقية الفنون الأدبية. وفن الترسل من الفنون النثرية المعروفة من قديم الزمان، إلاَّ أنه أضحى نادرا في عصرنا هذا الذي طغت عليه وسائل التواصل الاجتماعي، وحلّ فيه البريد الإلكتروني والرسائل النصية القصيرة ورسائل الماسنجر وتطبيقات أخرى محلّ الرسائل الورقية التقليدية. فكأنه لم يعد للكاتب ما يكفي من الوقت والصبر لكتابة الرسائل. فهو اليوم يكتب رسائله القصيرة في موقف الحافلة وفي الأوتوبيس وفي الشوارع وسط الزحام والضوضاء. ويكتبها وهو يأكل أو يتحدث أو يسير أو ربما يتفقد منشورات الأصدقاء في منابر التواصل الاجتماعي. وقد يرد على أكثر من رسالة في وقت واحد. وقد ينسخ رسالة واحدة ثم يلصقها ويوزعها على ما لا يحصى من الأصدقاء دون تفكير، ما يعكس طبيعة العصر، عصر السرعة.

ونحن نغوص في رسائل أنسي، نشعر حتما أننا أمام سرد أدبي من نوع مونولوج الإحساس وهو من المونولوجات الداخلية للشخصية في الأعمال الأدبية، تصرح من خلالها بأحاسيسها. وأحاسيس أنسي في هذا الكتاب تبدو أشد حرارة وقوة وصدقا من أحاسيس جبران في كتاب (الشعلة الزرقاء). من ناحية الشكل، تتسم رسائل أنسي بمتانة الأسلوب، وحسن التركيب، ووضوح المعنى، ولا تخلو من زخرف الكلام والرومانسية. يقول لها في رسالة: "أشعر بجوع إلى صدرك. بنهم إلى وجهك ويديكِ ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك. بنَهَم إليك. أشعر بجوع وحشي إلى أخذك. إلى احتضانك واعتصارك وإعطائك كل ما فيّ من حاجة إلى أخذ الرعشة الإلهية".



سيرة ذاتية مميّزة

فضلا عن جمال الأسلوب الأدبي وحسن التركيب، يندرج كتاب غادة السمان ضمن أدب السيرة الذاتية. ومعروف أنّ كتب السيرة تثير عناية القراء والمهتمين في أنحاء العالم، وكيف لا وكتب السيرة الذاتية للمشاهير تعد من المؤلفات الأكثر مبيعا في أوربا الغربية والولايات المتحدة. فالرسائل من أهم الوثائق التي تصوّر لنا بصدق أوضاع الأديب الاجتماعية وأحواله النفسية وتوجهاته السياسية ورؤاه الفلسفية والفكرية وثقافته ولغته ومواقفه في الحياة. وتجدر الإشارة إلى أنّ المجتمعات الغربية باتت تلجأ إلى رسائل الكتاب والمفكرين كمراجع لدراسة أحوالهم النفسية الخاصة كمحاولة دراسة أحوال جان بول سارتر النفسية من خلال رسائله إلى صديقته سيمون دي بوفوار. صفات أنسي الحاج وأحواله النفسية تنكشف شيئا فشيئا عبر صفحات هذه الرسائل، ومنها الثقة المفرطة بالنفس، بل تصل إلى حد الغرور الذي يجعله يتوهم أن غادة تبادله الشعور وتحتاجه مثلما يحتاجها! يقول لها: "أنا لا أظن أني وحدي بحاجة إليك. أنت أيضا محتاجة إليّ. فلتكن لديك الشجاعة أن تعترفي بذلك..." كما نلمح رؤاه الفلسفية العميقة في أكثر من مكان كقوله: "الجريمة ليست القتل. الجريمة أن لا نستطيع أن نقتل ما يجب أن نقتله." أو قوله: "أنا بالذات، شخص لا يعرف عني شيئا، ولا أعرف عنه شيئا، ولا يعرف إذا كنتُ، أنا، (أي أنتِ) بحاجة إلى أن يكون أحد بحاجة إليّ..."



مصدر تاريخي هام

فضلا عن كل ذلك، فإنّ إقدام القناة البريطانية (تشانيل 4) على بث تسجيلات خاصة للأميرة ديانا بعد وفاتها رغم اعتراض أسرتها على ذلك يؤيِّد حق غادة في نشر الرسائل. فقد انتقد أشخاص مقربون من الفقيدة ديانا، أميرة بلاد الغال، بثَّ التسجيلات التي تحدثت فيها عن حياتها الخاصة وعلاقتها الفاشلة بالأمير تشارلز. وانتقده أيضا مشاهير كالكاتبة المعروفة باني جونور التي أكدت أنها لا ترى أي تبرير لذلك. ورغم هذا الاعتراض، بل ورغم تدخل شقيق الفقيدة أورل سبنسر شخصيا في المسألة ودعوته القناة إلى العدول عن قرار البث، فإنّ القناة الإنكليزية أصرت على قرارها مؤكدة على لسان ناطقها الرسمي: "لم يتم عرض مقتطفات من الأشرطة المسجلة مع بيتر سيتيلين على شاشة التلفزيون البريطاني من قبل وهي مصدر تاريخي هام." وأكدت القناة: "على الرغم من أنّ التسجيلات خاصة، إلا أن الموضوعات التي تناولتها مسألة تهم الرأي العام."



الرسائل زادته شهرة

ولعل أهم سؤال في القضية هو ما إذا كان نشر هذه الرسائل قد أساء إلى سمعة أنسي؟ والجواب سيكون حتما بالسلب. فهذه الرسائل لا تحمل أي مظاهر فضائحيّة، ولا عناصر من شأنها أن تشوِّه صورته. وعكس ما روج له المعارضون تماما، فإن نشرها يخدم اسم الكاتب وشهرته. فنشر الرسائل جذب اهتمام الجماهير العربية والباحثين إلى هذا الأديب أكثر من أسماء أدبية كثيرة في عصره. وليس من شك في أنّ هذه الخطابات الهامة ستستمر في إثارة أنظار الجماهير، وفضول الباحثين، لأجيال.



حق التصرف في الرسائل

ونحن نتأمل هذه الرسائل لا نلمح فيها ما يشير إلى أنها سرية. ولو رغب أنسي في الاحتفاظ بسرية خطاباته، لالتمس منها ذلك في رسائله. وعدم نشره الرسائل قبل وفاته لا يعني بالضرورة اعتراضه على نشرها. وإننا جميعا نملك الحق في كتابة الرسائل. فإن اخترنا الاحتفاظ بها لأنفسنا، ولم نتقاسمها مع غيرنا، فهي ملك لنا، لا يتصرف فيها غيرنا. وإن اخترنا إرسالها إلى غيرنا، فهي خارج أيدينا وسلطتنا، ولا يمكننا منع أحد من التصرف فيها ونشرها، مع مراعاة عدم فعل ذلك لأجل الإهانة وتشويه السمعة. ورسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان لا تسيء إلى أحد، وتساهم في إثراء المكتبة العربية، وخدمة الأدب، وكيف لا وهي تتسم بمتانة الأسلوب وحسن التركيب وسلاسة اللفظ والصدق في التعبير، وهو ما يبرر بلا ريب قرار غادة السمان الاحتفاظ بها ونشرها وتقاسمها مع جماهير عصرها والأجيال القادمة، وهو ما وضّحته في مقدمتها: "لم أكتب لأنسي، لكنّي عجزت عن تمزيق هذه الرسائل الرائعة أدبيا."



مولود بن زادي طيور مهاجرة حرة بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى