مقتطف مجد حبيب - الخطايا..

كم بكَتْ مآقينا رحيل أحباب
ضاعوا منّا في الزحام
و اشتاقت قلوبنا لقاء أصحاب

صاروا سراباً وأوهام!
فغداً تُبكينا مدامع وتشتاقنا أفئدة
و نحنا بين الجنادل نيام


-1-
اضطجعَ على عتبات الحلمٍ تجرفه سيول الحنين، بعد أن هتفَ طويلاً لسلطان الكرى ليكون ملاذه الأخير من حرائق يقظةٍ تنشب في روحه، وبعد أن أعياهُ التفكير ونَبْش أجداث الماضي، لم يكن بينه وبين الواقع إلا خيطٌ رفيع واهٍ حتى الأفكار باتت جسراً عريضاً يصل إلى بحارِ رغباته المدفونة بأمواج هائجة متلاطمة.
أخذتْ الخطوة تجرّ الخطوة، وكان منتهاها عند تنور طين معجون بروائح المحبة، مختمر بنسائم الطيبة، متمرمغٍ بأذيال فساتين نساءٍ يكسو أصابعهنّ الطين المبلول وتضيء وجوههنّ بنور لهب التنور حين يموج، فيترقرق محيّاهنّ بشراً وسروراً، تثرثرن لتملأ قبة السماء صدى ضحكاتهن التي لا تميزها أذنا المرء عن زقزقة الطيور الصادحة المترنّمة، وكأنما سرب الطيور مغتبط باغتباطهنّ، راضٍ برضاهن.
وبين السنابل الذهبية تتعالى صيحات أولادٍ لا يعرفون من الدنيا إلا حدود قريتهم، أنقياء لم تمسّهم قذارات المدن، واغبرار سمائها، لا يتذللون، ولا يتزلفون، أو يتملقون، يتخذون البراري مهاداً، وجذوع الأشجار آرائك، يلاحقون مجرى الغدران، ويتربصون لأعشاش الطيور على أفنان السرو والصنوبر، تفوح عطور طفولتهم لتتنسّمها الزهور البرية، فتتعالى وتتكاثف سحبُ المحبةِ فوق وديان القرية، وغاباتها، وأحراشها، فلا يعودون إلى منازلهم حتى ينشرَ الظلامُ ملاءته السوداء على متنِ النهار.
وعلى أكتافِ نبعٍ يتدفق ماؤه بسعادة لا تحاكيها سعادة، تقفُ صبايا القرية مع جرارهنّ، ينتظرنَ بفارغِ الصبر نظرةَ حبٍّ بريء من شابٍ قد يمرّ مصادفة ليرتوي بعد ظمأ خلفّه المسير أو يتظاهر بالعطش كي يمتّع ناظريه بروعة حُسنٍ في وجوه تتورد خجلاً وحياءً من أنوثة يفوح عبقها في الأثير.
حلّقت روحه لتدنو من سريرهِ ذي القوائم الحديدية، بينما أصابع أمّه تتخلل خصلات شعره الناعم الأشقر، تترنّم بأغنية قديمة توارثتها عن أمّها وجدتها، فتملأ أغطية السرير بهجة، وتهمس بصوتِها الممزوج ببحّة حنان فائض عن عوالم صدرها:
"بنيّ: شجرة الزيتون تُهديك سلامها... دمعها.. أشواقها وتقول لك:
روائح عطرك وذكراك تُـحرك أغصــاني
كلّ غصن يفتقدك، يبكي عليك فلا تنساني
يهزّه الشوق لضحكاتك في حقبة الأزمانِ
لماذا تركتَ قلبي وحيداً يا ولدي؟
ألم تحبنا بما يكفي؟."
وتلاشى همسُ والدته بانقطاعِ الخيط الرفيع الذي يفصل بين نومه ويقظته.
انتفضَ كِرام مذعوراً من غفوته، وبدأ ينظرُ برعبٍ مترافقٍ بقشعريرة تتهالك منها أوصاله، لقد كانت أمّه تناجيه في تلك الرؤيا، ترتدي فستانها الأبيض الطويل، وتضع على رأسها الشال الحريري الأبيض الذي قدّمه لها في عيد الأمّ السابق لوفاتها.
زفرَ زفرةً خرقت حجاب قلبه، وهمس دامعاً مكسوراً:
- مَنْ بقيَ لي بعدك في هذه الدنيا ! هل روحكِ حزينة يا أمّاه لأنّني ارتحلت عن القرية وجئتُ إلى هنا !.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى