حسام المقدم - الضوء الأبيض.. قصة قصيرة

والذي رفع السماء بغير عمد، وحق الساعة ويوم الحساب؛ حين أطلَّ وجهها على هذا الآدمي.. شفّت عيناه بصفاء مذهول، وسرى همسه في مقطعين: أولهما شهيق مفاجئ مع وقفة جبرية، وحروف تعلقت باللسان في سقف الفم. والثاني تنهيدة مسترخية تهادى معها اللسان هابطا لمستقره. الله! ظلت شفتاه منفرجتين حتى تلاشى زفيره الهادئ النسيمي، ثم أطبقهما مبتسما مخرجا نفسه من الحالة. وضعت صينية الشاي فوق المكتب الرصاصي، وتكلمت وسألت عن حال "محمد"، ورد الآدمي بما تيسر من كلام. ابتسمت واستدارت ونقلت خطوات مست الأرض في شبه مس، وسحبت الباب لا كما تُسحَب الأبواب، ليبقى الآدمي مع "محمد" وليس مع "محمد"، ويردد كلمات ما هي بكلمات في درس العلوم عن الضوء. وجد نفسه مُبتهلا ضارعا: سبحان الذي سخر لك هذه أبا "محمد"، وإنا إليه لمنقلبون. ويا للملائكة والجان وسائر الكائنات غير المنظورة وهي تشهد اجتماعك بهذه الآدمية، وتسمع تحاوركما في أمور الدنيا والولد الوحيد "محمد" وبعض ما يجلب الفتنة، والعين التي عليها حَرَس. وحين يفيق الآدمي لدرسه تراه ينظر إليك يا "محمد"..
جميل أنت يا "محمد" بشعرك الأشهب وعينيك الخضراوين الزاهيتين. لك بشرة بيضاء كريمية، لابتسامتك إشعاع يلف في أرجاء الحجرة، ويبدو أنه دار برأس أستاذك فرَدَّه من غيابه. سيمضي في كلماته بعينيه المقلوبتين في المروحة الدائرة بالسقف: الشمس يا "محمد" هي المصدر الأول والرئيس للضوء على سطح الأرض، وضوء الشمس الذي نراه ليس أبيض كما نعتقد. إنه يتحلل في قوس قزح لسبعة ألوان هي ألوان الطيف. والشمس هي التي نمشي في رحابها وتمنحنا ظلالا نتميز بها ونجرها خلفنا وأمامنا. وهي.. وهي.. ويأخذك الآدمي يا "محمد" بكلماته إلى أمور لا تفهمها، فتنصرف لذيل الصفحة تخطط عليها شمسا ضاحكة. وحين يعود إليك يديم النظر والتلفت والتحديق في رفيف ريش المروحة بدائرته الواهية. من الآن عليك أن تمضي في خطوطك المتقاطعة بشموس وأقمار وأشجار.
تطرق الآدمية الباب طرقات لا يسري معها دق العظم على الخشب، إنه دق حشية من ريش على باب مبطن بالحرير. تدخل مؤطرة وجهها بسواد دائر حول طبق من القشدة. تمد يديها بصينية الشاي وتستقيم واقفة. يصل للآدمي صوت اصطكاك الملعقة في الكوب وحفيف الصينية فوق المكتب المعدني، على هيئة صدى موسيقي. تدهشه الأصابع ويفكر أنها صالحة للرسم وبطون الوسائد. تخرج كلماتها هامسة بالسؤال عن "الأفندي"، فيرد بأنك صرت تسرح كثيرا في الحصة يا "محمد". تُعنّفك بالانتباه وأخذ البال، وتقول للآدمي أن يشدَّ عليك. تنسحب آخذه رائحة عجيبة تجيء وتذهب معها. يُجفف الآدمي عرقا وهميا ويرى في قلب المروحة شمسا تغلي بدوران ناري، وهو في القلب متطوحا مهروسا في دوائر متلاطمة. هناك.. في البعد الضبابي يجلس مُقشرا عود قصب، راصدا البقرة الجميلة ذات اللطع البُنية على جسدها المغسول بالعرق، تدور وتدور في سكينة على مدار الساقية. تروس تئز وماء عذب يُنزَح في خرير موسيقي، والبقرة تدور مشبوكة بخشبة فوق الرقبة. كان مُقدّرا للبقرة أن تظل في الدائرة يا "محمد"، لولا حالها المَرَضي جرَّاء موت ابنها في بطنها وعجزها عن القيام. إنها هناك تدور في القلب الناري، تدور معه في الدائرة ذات الريش الرهيف. دوائر أخرى كثيرة ذهب إليها الآدمي ميتا ثم مبعوثا، ليستكمل درسه عن الشمس ومجموعتها: الشمس هي المركز، والكواكب تدور حولها، كلٌ في مدار معلوم لا يحيد عنه. عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ.. ويوم تموت الشمس... تتسع عيناك يا "محمد" تَعلُّقا بالكلمات الغريبة، وبالآدمي ورقبته المشبوحة للسقف. تسأله عن الشمس الميتة فلا يجيب، وتذهب هذه المرة مع خطوطك راسما وجه بنت بضفائر مُدلاة ثقيلة وعيون واسعة. تنتبه لإصبعه المشير للمروحة، وللسؤال الهامس: هذا القلب المدور، وهذه الريشات المزروعة فيه، ماذا تشبه وهي تدور؟ تُجيب بأنها تشبه دائرة واحدة متصلة. يقول لك: تمام.. إذا نزعنا القلب، هل تدور؟ تُعجِّل بأن لا بالطبع. هنا سيقول بأن الريشات وهي تدور لا تحس بأنها منفصلة. الدوران اتحاد ووصل، بخلاف التوقف والثبات الذي هو انفصال وتفرد. كل شيء يدور، والإنسان.. هكذا يا "محمد"، بكفيك اللتين تقوستا حول وجهك، بعيونك المقلوبة، بجبهتك التي اعترضتها خطوط عرضية، رحت تتابع الكلمات وتُحس أن شيئا حقيقيا يسكن فيها، قبل أن ترتد ضاحكا مُقهقها. الآدمي عندما يصفو صوته ويتهدج ويُباعد بين الكلمات، يكون صادقا ورائعا، فتتصوره مُمثلا يرفع يديه على المسرح القديم الغريب الذي تشاهده أحيانا في أوقات متأخرة بالتليفزيون ولا يُضحك أحدا! لكنك ستعود إلى حالك الغافل حين يسري همسه من جديد: يُخيل إلىَّ أن الكواكب في علاقتها بالشمس ودورانها حولها، لا تعتمد على قُوى الجذب، بل على شيء آخر. وعندما تموت الشمس أو تنعدم؛ لابد أن الكواكب ستواصل دورانها وفاءً للعِشرة القديمة.
في كل مرة يكاد الآدمي يُحس بحفيف العباءة على درجات السلم، وهمس الأقدام على البلاط، قبل أن تأتي الطرقات الناعمة. يكون قد أخذ استعداده، وحفَّزَ خلاياه لغياب قادم قادم. ينفتح الباب عنها.. لا ينظر إلا عندما يمسّه الحفيف الزاحف. يُدير وجهه ليستقبل الوجه الأبيض، مُغتسلا بفيض إشعاع يتخلل الثنايا. هذه المرة كانت كائنة صغيرة لم يرها من قبل. وضعت صينية بها كوب الفراولة وتمتمت بكلمات لم يسمعها ومضت هادئة. الوجه المُهندم الأبيض، بشفاه الفراولة الفائرة أمامه. إنها أنت يا "محمد"، أنت تماما.. كيف تخرجون نسخة واحدة لهذا الحد؟ هذه الحياة حقا لا تمضي عبثا. إنها تمضي في صف هذا الجمال حتى النهاية، الجمال القادر على أن يضرب بفروعه إلى سابع سما، دونما أدنى شائبة تنال من بهائه. لكن أين هي؟ أسبوع كامل واليوم تنزل البنت! أثناء الحصة يتكرر الحفيف على السلم ولا ينفتح الباب، بل تصطك البوابة التي على الشارع. أيسأل عنها؟ ما لك غائب هكذا يا "محمد" في شخبطات عبثية؟ ألا ترد على السؤال الذي يفلق رأس الآدمي؟ ها هو يحتال عليك ليعرف الأخبار، فتجيب ببساطة مُنسابة: (ماما "أشجان" لبست النقاب). امض في شخبطاتك واتركه يتفحص الحجرة المنزوية في عمق الدور الأول بمنزلكم العالي: السرير الصغير الممتد جنب الحائط، الملاءة الكابية المبقعة، النتيجة المُتربة على الجدار.. والعائدة لخمس سنوات مضت. البلاط المُصفرّ بمربعاته المتقاطعة المزغللة للعيون. اتركه تماما، وحين يقوم لا تناد عليه. ستراه مُنتصبا مرة واحدة، خارجا، مُتمتما بحروف الشين المُوشوِشة. حين يتعب من المشي، تأخذه قدماه بحكم العادة لحجرته اللابدة في آخر الشقة. على السرير ينهبد مُمدّدا على ظهره، مُقلّبا الشينات في لسانه: شجن.. شجى.. شجر.. شمس. يُغير الوضع على جانبه الأيسر ويواصل بابتسام هذه المرة: شمع.. شبح.. شهبور!
حتى يأتيك يا "محمد" بعد يوم كامل، ساعات ودقائق وثوان، ستراه عاديا. يطلب منك أن تُغلق الكتاب ويسألك أن تذكر ألوان الطيف السبعة بالترتيب. تتلعثم: أحمر، أخضر، أصفر.. يلطشك على دماغك، فيرتج رأسك بقسوة لم تعهدها. تعيد الترتيب بلا جدوى، فتكون لطشة أخرى مع مقذوفات من قبيل: " أنت أصلا عيل فاشل". يُنهي الحصة دون انتظار الساعة المحددة. يخبط الباب وراءه ولا تتبين تمتمته المختلطة. ستقوم جامعا أدواتك، متثاقلا على السلم، لتراجع الألوان اللعينة. كنت تعرفها وقلتها قبل ذلك أمامه. ما الذي حدث؟ هل أخافك وجهه المشدود؟ ستكلم نفسك، وتظل مسترجعا لترتيب الألوان التي تفشل في لم شملها كل مرة، فيما هو يواصل لطشاته في كل مكان. تُحاول المراوغة فتأتيك الضربة قوية لاسعة فوق فخذك.. بعدها تقف يده ساكنة. تراه مُغمض العينين. هل عاد لسابق عهده في الغياب؟ ستطول وقفة اليد، ثم تنسحب ماسحة على الشورت الصيفي الأحمر، لتعبر فوق لحمك، نازلة نحو ساقيك البيضاوين المصبوبتين في قدمين تُشبهان سمكتي بُلطي! في لمحة نترتَ ساقك من تحت يده لتضعها على الأخرى مُؤرجحا إياها. تهدلت يده إلى جواره مُهتزة كبندول. تقول إن ماما تُكرر دائما أنك تشبهها في كل شيء. يقوم الآدمي ممسوسا لاعنا إياك، نافضا رأسه. يُعلّم لك على الواجب في ثلاث صفحات، ويمضي نافخا ضاربا البلاط بكعب حذائه.
أبوك يسأل الآدمي عن حالك، فيرد بردود عامة زائغة. أبوك القصير المدكوك، يتأمله الآدمي من فوق إلى تحت، ويُركز النظر في عينيه السوداوين، ولا يكاد يتبين شيئا من كلامه عن العائلة والمشاغل. ظلا واقفين أمام البيت، حتى عبرت من الداخل عباءة سوداء مزمومة عن خصر مُدرَّج باللفتات والانعطافات اللدنة، وعيون تبرق وتتلمظ في مساحة صغيرة بين سوادين. هل كانت هي؟ ومَن الأخرى التي خرجت في سوادها كاشفة عن ساعد أبيض وأظافر قدميها مُخضَّبة بالحِنّاء؟ تسري سخونة مُناغشة دابَّة في جسده، فينصرف هائما. هناك.. على السرير المُهمَل، في الحجرة المُنزوية في العُمق، كانت واقفة في نقابها، واضعة يديها في وسطها، مُتثنية، غانجة.. بنفس الهيئة التي جاءته بها أمس وهو يُصلي العشاء. قطع صلاته ونظر للسقف، لملم المصلية وقام تدب فيه ذات السخونة المُناغِشة.
لابد أن تستذكر عدة مرات يا "محمد" قبل أن يأتي حتى تُرحَم من العصا. فلن تراه شاخصا غائبا في مسرح قديم لا يُضحِك أحدا. ومع أول نسمات الخريف الباردة لن تدور المروحة، ستتجمد في مكانها مُحنّطة مثل ضفدع. هيّئ نفسك لدروس الوحدة الجديدة عن الكهرباء.


حسام المقدم


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى