جان ألكسان - عزّو القاق


هذا هو اسمه الذي عرف به في أحياء دمشق القديمة في الأربعينات.. لم أرو حكايته لأحد إلا واستملحها، بل أن أكثر من كاتب قال أنها تصلح مادة لأقصوصة قصيرة، أو حتى لسهرة تلفزيونية إذا أضيفت إليها بعض التوابل، واستأذنني في ذلك كأنني صاحبها في حين أنني أحد رواتها، وقفت عليها مصادفة من صديق عايش تفاصيل القصة في الأربعينات.


لقد وجدت فيها، وخاصة في خاتمتها، نوعاً من المفارقة تقترب من الكوميديا الرمادية، أكثر من أن تكون نوعاً من (القفلة) لطرفة تروى في سهرات الشتاء.

أما سبب شهرة عزو القاق، فتعود إلى أنه كان عازفاً بارعاً على آلة العود، وكان يدعى إلى الأعراس ليبدأ العزف في أول المساء ولا ينتهي منه قبل منتصف الليل دون أن يصدر عنه أي نوع من أنواع التذمر أو ادعاء التعب وهو يلبي طلبات الحضور المتواترة.

-عزو.. بدنا (طالعة من بيت أبوها)

-تكرم

-عزو.. (رقصة ستّي)

-أمرك

-عزو.. يلبقلك شك الألماس

-على عيني

-عزو.. اتمختري يا حلوة..

ويروح عزو يعزف المقطوعة وتردد الصبايا بعده: "اتمختري يا حلوة يا زينة يا وردة جوا الجنينة" حتى إذا انفض العرس، وضع أصحابه في يد عزو (ما فيه النصيب) مع صرة أو مطبقية الملبّس، فيدس ذلك في جيبه دون عد أو اعتراض، ويعود إلى بيته الطيني الصغير المتواضع في حي القيمرية، حيث لا ينتظره أحد، ويتحايل على نفسه وهو يتجه إلى فراشه القطني الممدود فوق السرير النحاسي وقد أخذ منه التعب والنعاس كل مأخذ.. وينام كالقتيل.

وعزّو القاق تجاوز الستين، ومع هذا يرفض التقاعد من هذا السهر الليلي.. فهو يجد فيه نوعاً من التسلية بدل الجلوس في البيت وحيداً بين أربعة جدران، كما أن الأجر الذي يكسبه يعينه على العيش مهما كان متواضعاً، ويقول حول هذا للذين يعاتبونه من المعارف والجيران لأنه لا يطلب أجراً عالياً يوازي براعته في العزف وسهر الليالي:

-وماذا سأصنع بالدراهم؟. (لقمة تجوعني ولقمة تشبعني).

وهكذا مرت حياة عزو القاق على هذه الرتابة أربعين سنة، لم يفكر خلالها بالزواج.. وعندما كان الجيران يسألونه عن سبب عزوفه عن الزواج يقول:

-لسّه ما إجا النصيب..

ويسأله جاره أبو دياب: هل هذا معقول يا عزو؟ أربعون سنة ولم يأت النصيب… لعل فيك علة تمنعك من الزواج.. صارحني.. أنا جارك وصديقك وحبيبك.

-علة؟.. شلون يعني؟.

-يعني.. كما يقولون (يمكن إنك ما بتنفع للنسوان).. صارحني.. لكل علة دواء.. هناك أطباء يعالجون مثل هذه الحالات ويعيدونك مثل الحصان.

ويختصر عزو الحديث لأنه لا يريد الدخول في مثل هذه التفاصيل التي يثيرها أبو دياب ويرد باختصار:

-أخي.. أنا لا أريد الزواج… لا أريد امرأة تجلس أمامي مثل القاضي، تحاسبني على كل كبيرة وصغيرة وتمنعني عن السهر. أريد أن أعيش بحريتي، ثم أن دخلي لا يكاد يكفيني، فكيف تريدني أن أنفق على المرأة والأولاد؟.. بعدين.. راحت علينا يا أبو دياب.. قلبنا الستين… ولم يبق في الكرم غير الحطب..

ويصمت أبو دياب مرغماً ليتحول بالحديث إلى شؤون أخرى، ويسأل عزو عن رأيه في عرس بيت فلان وبيت علتان:

-هل صحيح يا عزو أنَّ بيت الأوضباشي وضعوا في مطبقية الملبس ليرة ذهبية لكل مدعو إلى العرس؟.

-صحيح.. الجماعة أغنياء.. (ويللي عندو فلفل بيرش عالمخلوطة)

-وهل أخذت مطبقية فيها ليرة ذهبية؟.

-أجل وحفظتها للذكرى.

-ألم يفاجأ المدعوون بهذا الكرم في الضيافة؟

-طبعاً.. ولكن إرضاء الناس من رابع المستحيلات.

-كيف؟.

-علق بعضهم على هذا بقولهم: وشو بيصير لو حطوا بالمطبقية ليرتين بدلاً من ليرة واحدة؟.

-يا لطيف.. كم هو الإنسان طماع..

-طبعاً.. هذا طمع.. أساساً عين الإنسان لا تشبع إلا من التراب.

وفي إحدى الليالي، وكانت ليلة شتوية ممطرة وباردة، حدث في حياة عزو القاق ما لم يكن في الحسبان..

دعي لإحياء عرس في بيت النقشبندي، وامتد الحفل إلى ما بعد منتصف الليل، حيث خرج عزو وهو في حالة بادية من الإعياء.

خرج حاملاً عوده وهو يقطع الأزقة المؤدية إلى بيته في حي القيمرية، وحبات المطر تتسارع في الهطول فوق رأسه بعد أن بدأت رذاذاً في أول المساء.. وفجأة.. وفي إحدى الزوايا، سمع صوتاً خشناً وعريضاً يصرخ به: عزّو..

التفت إلى مصدر الصوت مذعوراً.. فإذا به أمام رجل ضخم الجثة، طويل القامة يقف على شاربيه صقران بدلاً من صقر واحد.. وقبل أن يسأله عما يريد قال الرجل:

-إلى أين أنت ذاهب؟.

-إلى بيتي.

-ما حزرت.. أنت لن تذهب إلى البيت.

-لماذا؟.

-لأنك ستذهب معي..

-إلى أين؟.

-قلت لك ستذهب معي..

-إلى أين تريد أن تأخذني في هذا الليل الماطر؟.

-لا أريد أن أسمع منك أسئلة.. تذهب معي دون أن تسأل إلى أين.

-دخيلك يا أبا الشباب.. أنا متعب.. كنت في عرس بيت النقشبندي.. وعزفت من أول المساء إلى الآن، وأنا أكاد أسقط على الأرض… وأريد أن أذهب إلى بيتي لأنام.. ثم أن المطر بلل ثيابي وطربوشي..

-المطر ليس مشكلة… المطر خير وبركة.. هيا معي..

-ولكن إلى أين؟.

-إلى مقبرة الباب الصغير.

-لماذا تريد أن تأخذني في هذا الليل إلى المقبرة؟.

-لا أريد أن أسمع أي أسئلة.. هيا وإلا سحبتك خلفي من ياقة سترتك.

لم يجد عزو بداً من الانصياع.. فقامته التي لا تتجاوز قامة طفل في العاشرة، ووزنه الذي لا يتجاوز الأربعين كيلو غراماً، وسنه التي تجاوزت الستين.. أمور لا تؤهله لأي نوع من أنواع الرفض أو التمرد.. فسار مرغماً إلى حيث يسوقه الرجل الضخم الذي ظهر كمارد من مردة القصص الخيالية..

دخل المقبرة، والرجل يقوده بين القبور، وهو يترنح حيث أدرك عزو أنه مخمور.. وبعد نصف ساعة من التنقل بين القبور، وقف الرجل أمام أحدها وقال لعزو..

-هذا قبر أبي..

وتابع: كان أبي يحب الاستماع إلى أنغام عودك يا عزو.. هيا.. اجلس على هذه البلاطة واعزف له..

وأخرج عزو العود من قميصه القماشي المبتل. وبدأ يعزف والمطر يهطل غزيراً.. وبعد دقائق تراخت أوتار العود وأصبح العزف نوعاً من الحشرجة والنغم الناشز. وكلما حاول التوقف صرخ به الرجل صرخة تهز فرائصه، فيروح يتابع العزف وقد تغلغل البلل من ثيابه حتى عظامه، وأصبح العود في حالة يرثى لها.. ومع هذا ظل يعزف وهو يمني نفسه بليرة ذهبية يدفعها له هذا الرجل المخمور مقابل هذه الليلة الليلاء..

وبدأ الفجر يبزغ في الأفق الشرقي مع انقطاع المطر، وانقشع الغيم، وبدأت أولى أشعة الشمس ترسل نورها، فإذا به يفاجأ بالرجل يقترب منه ويوجه إليه صفعة قلبته مع العود على قفاه..

صرخ في الرجل محتجاً: لماذا تضربني؟.

فرد الرجل بعصبية: هذا القبر الذي كنت تعزف أمامه ليس قبر أبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى