كاهنة عباس - السؤال المحظور : لماذا لا نرى الله ؟

كنت أتابع تعلمي بالمعهد الثانوي بأريانة في أواخر السبعينات كان عمري آنذاك اثني عشر تقريبا ، وذات يوم ،خطر لي أن أطرح على أستاذ العربية هذا السؤال وهو : لماذا لا نرى الله ؟
نظر إليّ نظرة استغراب وأجاب : لا يطرح ، مثل هذا السؤال. رفعت رأسي، فرأيت جلّ تلاميذ القسم يستغربونه.
لم أدرك أسباب ما أبدوه حتى بعد مرور سنوات عديدة، إذ غالبا ما يراود ذلك السؤال جلّ الأطفال في السنوات الأولى من أعمارهم لحاجتهم الملحة إلى التأقلم مع العالم الخارجي ، بعد أن أدركوا ضرورة الانصياع لقوانينه باسم قوة خارقة للعادة تسمى الله ، تلك التي قيل لهم أنها مصدر الخلق، مما يبعث في نفوسهم الرغبة في اكتشافها ، و هو أمر طبيعي يتنزل ضمن تطورهم النفسي والجسدي والاجتماعي والثقافي .
اليوم وقد مرت اثنا وأربعون سنة على ذلك العهد، أعود إلى تلك اللحظة التي جوبه بها ذلك السؤال بكل ذلك الصمت والذهول، لأستنتج بعد طول التجربة، أنني واجهت الحياة طيلة تلك المدة بمشاكلها وألغازها ومفاجأتها السارة والحزينة، دون طرح الأسئلة التي كانت تخامرني علنا دون انتظار أجوبة من أيّ كان.
فلا فائدة من الأسئلة في مجتمعاتنا، لأن العالم في منظورنا جاهز ومعلوم ،بالتالي فهي لا تؤدي أية وظيفة، رغم طبيعة الحياة بوصفها صيرورة وتحول مستمران .
كيف انكمشت على نفسي حتى أحميها من ويلات اليقين ومن إتباع الآخرين، حتى لا أثير حولي أيّة شكوك ،فأقصى ؟
-بأن أمتنع عن طرح الأسئلة وأكتفى بترديد الأجوبة : أجوبة الفلاسفة والمفكرين والفقهاء والساسة والمؤرخين والباحثين في مجال العلوم الإنسانية ، فالمعرفة لدينا ليست بحثا مستمرا ،بل هي أداة لاكتساب السلطة وكل من عارضها يعتبر معارضا للسلطة في مفهومها العام ،لا للحاكم فحسب ،بل للأستاذ و الباحث و الفقيه والإعلامي وحتى المثقف أحيانا.
فعل السؤال هذا ،هو الفعل الحامل للإبداع ،لكل اكتشاف ،لكل مراجعة ،لكل اجتهاد، لكل تجديد، لكل انفتاح، وهو الفعل المؤدي إلى استنباط الحلول وهو المؤسس لإنسانيتنا، إذا ما اعتبرنا الإنسان هو الحيوان العاقل حسب مقولة بعض الفلاسفة .
لا، لسنا في الحاجة إلى هذا الكم الهائل من نقل الأفكار الفلسفية الغربية ،كي نستدرك خمولنا الثقافي الذي دام عدة قرون، لسنا في حاجة إلى ذلك ، إلا أننا في حاجة إلى التدرب على طرح الأسئلة، كل الأسئلة الممكنة والغير ممكنة ،المعقولة والغير المعقولة ، المفكر فيها واللامفكر فيها، إذا ما أردنا التحكم في مسيرنا .
فمن يجيبك عن سؤالك هو القادر على تسييرك ، الأمر الذي امتنع عنه أستاذي ،حين طرحت عليه السؤال، رغم إمكانية جواب عنه بكل بساطة : من أن الله لا يرى .
ما الذي يفسر إذا، الاستغراب والذهول اللذين عمّا أجواء القسم في ذلك اليوم؟
-تراثنا الثقافي بمخزونه الفقهي ، الذي يحجر مثل هذه الأسئلة فيعرض كل من يتجرأ على طرحها إلى التنكيل والتعذيب والاغتيال باسم المقدسات .
كذلك ،الأنظمة السياسية التي كرست الإتباع لضمان التحكم في العقول، بفرض سلطانها لا المادي فحسب، بل المعنوي أيضا .
وفي غياب كل الأسئلة : الأسئلة المتصلة بالحياة والموت ومصير الإنسان والله والخير والشر وعلاقته بغيره من الناس ، وتلك المتعلقة بالطبيعة بماهية الأرض والسماء والماء والهواء ، هل من مكان للاندهاش ، للتعجب ، للبحث ،للمغامرة ،للاختيار ،للحرية ؟
قطعا لا .
ماذا سيبقى لنا نقل المعارف ، تصنيفها ، تبويبها ، تلخيصها ، استهلاكها .
هل ، من سبيل لتطويرها أو حتى استيعابها ؟
لا ، مادامت المعرفة لا تبدأ إلا بطرح الأسئلة كل الأسئلة الممكنة مهما كانت طبيعتها ومواضيعها ، ومهما كانت الأجوبة الممكنة عنها ،سواء صدرت عن سلطة علمية أو دينية أو ثقافية .
فلنبدأ بطرح الأسئلة قبل طرح الأجوبة أو البحث عن حلول لمشاكلنا سواء الحياتية أو الوجودية.
كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى