أمل الكردفاني/ موت بائع متجول - من روائع المسرح العالمي

كتبت قبل سنوات عن مسرحية الوحوش الزجاجية لتينيسي وليامز ، تلك التراجيديا الواقعية التي تعبر عن تمرد ثقافي عام بين الكتاب المسرحيين عل النظام الأمريكي الرأسمالي ، فآرثر ميلر أحد أعظم الأدباء المسرحيين ، لم يترك شيئا لذلك النظام إلا وانتزع عنه بهرجه وألقى به في قتامة البؤس. الحلم الأمريكي الذي يتحول لكابوس يحطم إنسانية الفرد هذا الأخير الذي ينتفخ كبالون ثم ينفجر في نهاية الأمر بسبب شوكة صغيرة. فإنهيار عائلة ونجفيلد لدى تينيسي هو أيضا إنهيار عائلة وليام لومان الذي لم يتحرر من ربقة عبودية الوهم الأمريكي إلا بموته.
من أقوى ما بالمسرحية هو إنهاؤها لسيطر حدود خشبة المسرح ، لقد استطاع ميلر بذكاء -ودون إغفال لتطور المسرح والإخراج المسرحي في الولايات المتحدة الأمريكية- أن يقضي على فكرة صندوقية المسرح ويجعله أقرب إلى مسرح الشارع ، حيث تسلط الإضاءة على عدة أجزاء تعبر عن المقصود منها (مطبخ ، مكتب ، غرفة نوم ، حديقة ، ...الخ) ، تاركا للمتفرجين إكمال التفاصيل الوصفية لخيالهم.
ينزع ميلر وحدة المشهد ويشرك المتفرجين في عملية إكمال النص عبر التخيل ، (نزول ويلي من أعلى (حيث لا أعلى في الواقع) ، (زراعة حديقة (حيث لا حديقة على الخشبة) ، (اندفاع سيارة (حيث لا سيارة)). ومع ذلك فما يبدو مهملا هو في الواقع الأكثر إثراء للعمل المسرحي ، أما الحوار فلا مناص من وصفه بأنه من أروع ما يمكن لمؤلف مسرحي أن يكتبه.
كيف يكون الحوار المسرحي رائعا؟
ربما لا يلتفت أكثر القراء العاديين أمثالي من غير المتخصصين في النقد ، للجانب الشكلي للحوار. أغلب المؤلفين المعاصرين بل وحتى منذ المسرح اليوناني يهتمون بالعمق المضموني الحواري ، وهذا في رأيي يناقض واقعنا تماما ، حيث تتميز حواراتنا بالعنف التوصيلي دون جدوى كبيرة. فاللغة العامة ليست عميقة كما يتم تصويرها في الأدب ، بل هي لغة مسطحة وأقل من أن تعكس كل مدلولات النفس القابعة في عمقنا المتألم.
أما ميلر فهو (على عكس ذلك التذاكي أو التفلسف الذي بات يغمر الأدب المتكلف) ؛ نراه يجرنا بتلك اللغة البسيطة نحو العمق ، وتلك اللغة تأتلف بمشاهد المسرحية ، في خيط أشبه بإئتلاف الكرموزومات في بعدها الجيني لتحدد للمتفرج ما هو غائب عن السطح.
الحوارات بين كل شخوص المسرحية كانت واقعية جدا حتى عندما يهذي ويلي لومان بماضيه ، الرأسماليون الكبار الذين يجرفون من أعماقهم كل النزعة الإنسانية لهم حوارهم الذي يشهد ببراعة ذلك التصدع الخيالي عندما يكتب ميلر بلسان رأسمالي كبير ، وكما يكتب بلسان بائع متجول مهزوم.. بل وحتى بلسان المومسات اللائي كن عناصر هامة وليست ثانوية كما قد يبدو للبعض. وهنا تبرز عبقرية الأديب الذي يغيب تماما عن النص ليستقل الأخير بذاته وكأنه روح وليدة العدم.
لقد نوهت كثيرا لمعضلة الأدب اليوم وهي التي باتت تشكل معيارا زائفا لجودة العمل الأدبي ألا وهي هيمنة المؤلف على النص بحيث يحاول طرح نفسه كفيلسوف أكثر من محاولة إنتاج الأدب. هنا يسقط المؤلف في ذاتيته المفرطة التي قد تبلغ نرجسية مؤذية واستعلاء يحول العمل الأدبي لسيرة ذاتية عن العقل.
إن الكبار لا يفعلون ذلك على ما أحسب.
الكبار يختفون تماما ، ليخلد العمل الأدبي. وعندما تكون هذه هي الغاية ينتج الأدب الجيد. وهنا يخلد الكاتب والعمل سويا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى