جوزف كونراد - الكتب.. ترجمة: أسامة إسبر

قِيلَ منذ وقت طويل جداً إنّ للكتب مصيرها. نعم إنَّ لها مصيراً، وهو يشبه إلى حدٍّ كبير مصير الإنسان. فهي تشاطرنا غيابَ اليقين الكبير لدينا حيال خزينا أو مجدنا، والظلم الشديد والاضطهاد العنيف، والافتراء وسوء الفهم، وشهرة النجاح غير المستحقة. ومن بين جميع الجمادات، وإبداعات الإنسان كلها، إن الكتب هي الأقرب إلينا، فهي تحتوي على فكرنا وطموحاتنا واستياءاتنا وأوهامنا وإخلاصنا للحقيقة وميلنا المتواصل إلى الخطأ. لكنها تشبهنا أكثر في تمسكّها العابر بالحياة.
إن جسراً يُبْنى وفق قواعد فنّ بناء الجسور يَحْظى بحياة طويلة ومشرّفة ومفيدة. لكن كتاباً جيداً كالجسر في طريقة بنائه يمكن أن يهلك دون أن ينتبه إليه أحد في اليوم نفسه الذي يولد فيه. إن فنّ مبدعي الكتب غير كاف لمنحها أكثر من لحظة حياة. ومن بين الكتب التي وُلدتْ من القلق والإلهام وغرور العقول البشرية فإن تلك التي تفضّلها ربات الإلهام تواجه أكثر من غيرها تهديد موت مبكِّر. ويمكن أن تنقذها أحياناً عيوبها، وفي أحيان أخرى قد لا يمتلك كتاب جميل المنظر (إذا استخدمنا تعبيراً رفيعاً) روحاً فردية. وأكيد أن كتاباً من هذا النوع لا يمكن أن يموت، بل يتفتت إلى غبار فحسب. لكن أفضل الكتب التي تستمدُّ الغذاء من تعاطف وذاكرة الناس عاشت على شفا الدمار، ذلك أن ذاكرة البشر قصيرة المدى، وينبغي الاعتراف أيضاً بأن عواطفهم متذبذبة ولا تخضع لمبدأ.
لا يمكن العثور على سرّ حياة أبدية لكتبنا بين صيغ الفن، كما لا يمكن العثور عليه من أجل أجسادنا في مزيج أدويةٍ موصوفة لنا، ليس لأن بعض الكتب لا تستحقّ حياة دائمة، بل لأن صيغ الفن تعتمد على أشياء متزعزعة، وغير مستقرة، وغير موثوقة، وعلى العواطف الإنسانية وعلى الأفكار المسبقة ومشاعر الحب والكراهية، وعلى شعور الفضيلة وشعور الاستقامة، وعلى معتقدات ونظريات، بما أنها غير قابلة للتدمير، فإنها تغير أشكالها دوماً وغالباً في فترة حياة جيل واحد عابر.
II
إن الروايات، التي يجب أن تحبّها ربات الإلهام، هي التي تطلب، بشكل جدي، ومن بين جميع الكتب الأخرى، تعاطفنا. فالفنّ الروائي بسيط وهو في الوقت نفسه أكثر مراوغةً من جميع الفنون الإبداعية، وأكثر عرضةً كي تجعله غامضاً وساوس خَدَمهِ والمعجبين به، وهو المُقَدَّر عليه، على نحو جليّ، أن يسبّب مشاكل لذهن وقلب الفنان. وقبل كل شيء، إن إبداع عالَمٍ ليس مهمة سهلة إلا ربما لمن يتمتع بموهبة خارقة. وفي الحقيقة يجب أن يبدع جميع الروائيين لأنفسهم عالماً كبيراً أو صغيراً يستطيعون أن يؤمنوا به بصدق. ولا يمكنهم أن يصنعوا هذا العالم إلا على صورتهم لأنه مكتوب عليه أن يبقى فردياً وغامضاً قليلاً، لكن يجب أن يشبه شيئاً ما مألوفاً لتجربة وأفكار وأحاسيس قرائهم.
يمكن أن نعثر في قلب الفن الروائي، وحتى في ما لا يستحقّ أن تُطْلق عليه هذه التسمية، على نوع ما من الحقيقة، حتى ولو كانت حقيقة حميّة درامية صبيانية في لعبة الوجود، كما في روايات دوما الأب. لكن الحقيقة الموضوعية للهشاشة البشرية يمكن العثور عليها في روايات السيد هنري جيمس، كما تعيش الحقيقة الكوميدية المروّعة للجشع العدواني مطلقة العنان بين غنائم الوجود في العالم الوحشي الذي أبدعه بلزاك. إن ملاحقة السعادة بوسائل قانونية وغير قانونية، من خلال الاستكانة أو التمرد أو الاستثمار الجيد للتقاليد أو التمسك المتزمت بآخر نظرية علمية، هو الموضوع الوحيد الذي يمكن أن يُطوّره شرعياً الروائي الذي هو مُسجِّل مغامرات البشرية بين مخاطر مملكة الأرض. إن مملكة الأرض، التي تقف عليها شخصياته، وتتعثر أو تموت، يجب أن تدخل في خطته في التسجيل المخلص. إن تضمين هذا كله في تصور واحد منسجم إنجاز عظيم، وحتى محاولة القيام بهذا بتروٍّ وبنيّة جدية، وليس بدافع من إلحاح غير عقلاني لقلب جاهل، تُشكل طموحاً مشرّفاً. ذلك أن السير بهدوء حيث يمكن أن يتلهّف الحمقى للاندفاع بسرعة يتطلب بعض الشجاعة. وكما قال مرة روائيٌّ فرنسي متميز وناجح عن فن الرواية: ”إنه فن صعب إلى حد كبير“.
من الطبيعي أن يشكك الروائي بقدرته على القيام بمهمته. فهو يتخيلها أكثر ضخامة مما هي عليه. لكن الإبداع الأدبي، كونه أحد الأشكال الشرعية للنشاط البشري، لا يمتلك قيمة إلا بشرط عدم إقصاء التقدير الأكبر لجميع أشكال الفعل الأكثر تميزاً. ينسى رجل الأدب هذا الشرط أحياناً لأنه غالباً ما يميل، وخاصة في فترة شبابه، إلى التشديد على التفوق الحصري لمهمته من بين مهمات العقل البشري الأخرى كلها. إن الكم الهائل من الشِّعر والنثر يمكن أن يضيء هنا أو هناك بوهج شرارة مقدسة، ولكنه لا يمتلك في إطار الجهد الإنساني أهمية خاصة. ولا توجد صيغة تبريرية لوجوده مثله مثل جميع الإنجازات الفنية الأخرى. فهو مقدّر عليه مثلها أن يُنسى ربما دون أن يترك أدنى أثر. وإذا كان الروائي يمتلك شيئاً يميزه عن العمال في حقول أخرى من الفكر فهو امتياز الحرية، حرية التعبير وحرية الاعتراف بمعتقداته الأعمق، التي يجب أن تمنحه العزاء في عبوديته القاسية للقلم.
III
ينبغي أن تكون حرية الخيال الملكية الأكثر قيمة للروائي.
يجب ألا يُفترض أنني أطلب هنا لفنان الفن الروائي حرية العدمية الأخلاقية. أطلب منه أفعالاً مخلصة كثيرة أولها رعاية أمل لا يموت، ولن يجادل أحد أن الأمل يتضمن كل ورع الجهد والإنكار. إنه شكل إلهي من الثقة بالقوة والإلهام السحريين اللذين ينتميان إلى الحياة على هذه الأرض. ونحن نميل إلى نسيان أن طريق التفوق يكمن في التواضع الفكري، وليس في التواضع العاطفي. إن ما يشعر المرء بأنه عقيم وبلا أمل في التشاؤم المعلن هو غروره فحسب. ويبدو أن اكتشاف كثير من الرجال في أوقات مختلفة بأن هناك الكثير من الشر في العالم كان مصدر متعة مغرورة وآثمة لبعض الكتاب الحديثين. إن إطار الذهن ليس الإطار الملائم الذي نقارب به جدياً فن الرواية. فهو يمنح المؤلف (لا يعرف إلا الله لماذا) إحساساً حماسياً بتفوقه. ولا شيء أخطر من إعجاب مرضي كهذا بذلك الإخلاص المطلق لمشاعره وأحاسيسه الذي يجب أن يتمسك به المؤلف في لحظات إبداعه الأكثر سمواً.
وكي نكون متفائلين بالمعنى الفني ليس ضرورياً أن نفكّر بأن العالم جيد. يكفي أن نعتقد أنه ليس من المستحيل جعله جيداً. وإذا سُمِحَ لتحليق الفكر الخيالي بأن يرتفع ويتفوق على أخلاقيات كثيرة سائدة في البشرية فإن روائياً يظن أنه من جوهر متفوّق على رجال آخرين سيفقد الشرط الأول لمهنته. إن امتلاك المرء لموهبة لغوية ليس مسألة عظيمة. ولا يصبح رجل مزود بسلاح بعيد المدى صياداً أو محارباً لمجرد امتلاك سلاح، ثمة مواصفات أخرى كثيرة للشخصية والمزاج ضرورية لجعله كاتباً أو صياداً. وسأطلب من ذاك الذي يمكن أن تحظى عبارة واحدة من بين مائة ألف في ترسانته من العبارات بصفة الفن البعيدة جداً والمراوغة أن يكون في تعاطيه مع البشر قادراً على تقديم اعتراف لطيف بفضائلهم الغامضة. لا أريده أن يفقد صبره من حالات فشلهم الصغيرة ويزدري أخطاءهم. لا أريده أن يتوقع الكثير من الامتنان من الإنسانية التي مصيرها، كما هو متجل في الأفراد، مفتوح له كي يصوره كسخيف أو مريع. أريده أن ينظر بتسامح كبير إلى أفكار البشر ومسبقاتهم التي ليست ناجمة عن الحقد بأية طريقة، بل تعتمد على تربيتهم وموقعهم الاجتماعي وحتى مهنهم. وينبغي ألا يتوقع الفنان الجيد أي تقدير لكدحه أو أي إعجاب بعبقريته، لأن كدحه يمكن أن يُقيّم بصعوبة ويمكن ألا تعني عبقريته أي شيء للأميين الذين لم يختاروا حتى الآن من الحكمة المقيتة لموتاهم المستحضرين أي شيء سوى التفاهات والسخافات. أريده أن يوسّع عواطفه من خلال رصْد صبورٍ ومحبّ فيما تنمو قوته الذهنية. ففي الممارسة اللامتحيزة للحياة في أي مكان يمكن العثور على وعد كمال فنه، وليس في الصيغ السخيفة لمحاولة وصف هذا الأسلوب المعين أو ذاك من التقنية أو التصور.
ليُنضجْ قوة خياله بين أشياء هذه الأرض، وهذا عمله الذي يجب أن يرعاه ويعرفه، وليمتنع عن استدعاء إلهامه مسبق الصنع من سماء ما من الكمالات التي لا يعرف عنها أي شيء. ولن أسمح له بالوهم المغرور الذي يشعر به أحياناً كاتب: وهم أن إنجازه ساوى تقريباً عظمة حلمه.


المصدر:
Jospeh Conrad, Notes on Life and Letters (Garden City, NY: Doubleday, Page and Company, 1923

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى