علي الوكيلي - الكلام بحضرة مولانا الإمام..

روى سعد بن مكذوب قال:..
ورد الخبر على بني مغضوب أن داء على وشك أن يصيب البلاد وأنه حل بعجم مجاورين لمملكة السلطان القاتل بالله، أعزه الله وحفظه، فنظر القوم إلى أيديهم فوجدوها قصيرة عما يراد، إذ لا يليق أن يهبوا إلى إغلاق منافذ المملكة السعيدة، وأعوان السلطان أعز الله به الدين، أكفاء يقدرون على رد الضر على أعقابه، فاتفق أن ساروا إلى والي مولانا السلطان فعرضوا عليه المسألة، فأطرق يومين ثم قال: والله لقد أحرجتموني، رد الداء أقرب إلى يدي من طرفة عين، ولكن مهما يكن فاستشارة سيدنا ومولانا واجبة، فاشتد هلع بني مغضوب من استصعابهم مدد السلطان والمسافة إليه ثلاثة أيام صحراوية، وحامل الداء قد يحل بين رمشة عين وأختها، واستقروا على رفع الأمر إلى الجاه العالي بالله، فمشوا إلى مدينته الشريفة العامرة. وحين ظنوا، من جهلهم، أنهم ملاقوه على حاشية الحاضرة نبههم شرطي، استنكر جفاف اجتماعهم وخشونة مرادهم، قال: ما هكذا تقصد الملوك، أين نبتم أيها الأعراب في ظلام غابة أم في قعر بحر؟ وقعد ساعة يهديهم إلى المسلك النافذ لمقابلة جلالة السلطان القاتل بالله، وأن طرق حاجبه وحامل سره، جلال الدين اللحاس لا مندوحة عنه.

فلما اندفعوا يقصدون على عجل لقيا الحاجب، أخبرهم خادم مخنث ألهاهم ردحا، عيرهم فيه بأصولهم وعرقهم وطبقتهم حتى أنساهم ما هم فيه قال: تحسبون حاجب سيدنا المنصور بالله حانوتا يقصده الناس من أي جهة شاؤوا؟ ألا تعرفون أن للحاجب حاجبا يحسن بكم أن ترفعوا إليه أمركم قبل جلال الدين جل قدره؟ قال فتدافعوا يتداككون وِجْهة قصر حاجب الحاجب فاعترضهم قصر له باب من نحاس يتسع لجيش بعتاده وعدته، فلما أصبحوا داخله قالوا: الحمد لله، نحن في ضيافة السلطان، هذا بناؤه وهذا عزه، من قوة ما بهرهم بناء القصر وفخامته، حيث كانوا لا يطأون سوى الرخام ويمسحون بأعينهم النحاس والفضة والذهب والحرير، قال فطلع عليهم عبد سألهم بإشارة من يده ما خطبكم؟ فلما أخبروه قال قفوا هنا برهة ثم اختفى ثم ظهر، فأمرهم أن يدخلوا المقصورة الوسطى، فدخلوها، فكاد يغمى عليهم من نعمة ما رأوا، وبعد ساعة خرج إليهم رجل رطب الصوت، بدين الجثة، يمشي كالنساء قال هل تعقلون أيها الأعراب، أنتم رعاع الناس وصعاليكهم تريدون مقابلة – أعوذ بالله مما أقول – مقابلة مولانا السلطان أعز الله أمره وحفظه من عيونكم وحرمكم من النظر إلى طلعته البهية التي تحيي النفوس وترجع الشيخ إلى صباه، فما لبث أن عدل عن رأيه لما أخبروه بما جاء بهم إلى الحاضرة. قال أما والله لو لم تكن أمة سيدنا ومولانا يتهددها هذا الذي أتيتم بخبره، لما كتب الله لكم، ولا كتب لفروعكم، كما لم يكتب لأصولكم وأصول أصولكم أن تتمتع بالمثول بين يديه الكريمتين، سأرفع أمركم إلى سيدي جلال الدين وسينظر فيه، فقفوا غدا صباحا أمام بابه الكريم.

قال فبات بنو مغضوب ليلتهم بين إغفاءة وصحو، فلما كان الفجر جاؤوا باب قصر جلال الدين ومكثوا أصواتهم تعلو وتخفت حتى الضحى، فانفتح الباب، فلما كانوا داخل الأسوار أشكل عليهم ثانية فحسبوا أنهم عند جلالة السلطان القاتل بالله، فجاءهم خادم أسود فأخبرهم أن جلال الدين لا يتسع لهذا الخلق كله، وأنه يضيق بالأعراب فليتخيروا رجلا ينوب عنهم. فاختلطوا زمنا ثم انفضوا وقد خرج من بينهم صريح بن مخزي، وكان شابا قوي البنية فصيح اللسان متين البلاغة والاقتصاد في الكلام، غير أنه كان أخشن من غيره في طبعه أحمق الغضب جاف الكياسة، قال له الخادم: إياك ولسانك فقد يردك مولاي جلال الدين خائبا للقليل من اضطراب اللفظ أو انغلاق المعنى، هذا إذا أفلت جلدك من شره، فاحفظ عظمة لسانك واضبط سكناتك واقتصد في قولك وأطنب في مذلتك.

قال وفي اليوم التالي، أصبح ابن مخزي بباب قصر جلالة السلطان فاتضح له الفرق في نعمة الله على عباده، فما كان يخطر له على بال أن يجد أفخم من قصر حاجب الحاجب فوجد قصر جلال الدين، ووجد أفخم منهما جميعا عند أمير المؤمنين، وسقط ابن مخزي أكثر من مرة وهو يمد بصره أعلى الأسوار وقال: سبحان الذي قدر فهدى وسبحان الذي أخذ وأعطى، أما والله لو كانت هذه الأسوار بين حمانا وبين العجم لما ذكر الداء حتى نشقى من أجل الدواء، ثم حمد الله على كل حال وأثنى عليه وأستغفره وعاد إلى ما يشغله وكيف يتدبر حاله أمام الإمام العظيم أعز الله به سلطان المسلمين، قال فانفتح باب صغير وسط الباب الكبير وانشق عنه خادم بدين طويل، عريض، ذو صوت كالرعد، فدار بعينيه الدمويتين دورتين، وكان الخلق أمامه كثير يريدون المثول أمام يدي السلطان، وانكمشت أسارير وجهه وزعق: يا رعاع النحس وتركة اللبس ومعدن التدليس والغش وفصائل القردة وأشقاء المردة، من منكم اسمه ابن مخزي أخزاه الله وشق ظهره وثـكلته أمه وجدته، فليتقدم ابتلاه الله بالشلل المؤبد، لا بورك في كلامه ولا جعل فائدة من أمر مقدمه. قال وكان من عادة الناس أن الخارج من قصر مولانا لا يعود إلى التشكي كأنه نال من عدله، أو لا يخرج البتة، كأن الله أكرمه بقرب السلطان فلا يبرحه ولا يسمع له خبر، قال فدخل ابن مخزي يرميه خادم لخادم ويدفعه باب لباب، لا يطأ الأرض بعينه أبدا من عجب ما يرى، فأخذوه إلى حمام ما رأت رخامه ولا جواريه عين فاحموه وألبسوه ثم دفعوه إلى ردهة عند مدخل مجلس مولانا، فجاءه شيخ قصير لا عينين له، كأنه ثمرة بصل من فرط ما لبس من الأثواب والعمائم. قال لست أدري أيها الأغيس ما أوصلك هذا المقام الجليل ولو لم أخف غضب مولانا لأرحته منك الساعة، ولكن لأمر غريب يصر على سماع أمرك، فاعلم لا حفظك الله ولا نجاك من عذابه أنك قد فتحت لك سماء ليلة القدر أبوابها، إذ لا يرى مولانا إلا الأصل الشريف والمقام الرفيع، لكن قبل أن تمتع عينيك العشوائين برؤية مولانا ابتلاهما الله بالرمد والأزرق والعمس والعمش الدائم، إعلم – سلط الله عليك جهل الجاهلية – أن لمقابلة السلطان حفظه الله قواعد وأحكامـا يجـب أن تحفظها وتعمل بها وإلا أدخلت السرور على سياف مولانا، فقد بعد الأمر بينه وبين فرجة الرؤوس المتدحرجة أمام سيدنا ومولانا، قال اسمع ايها الفسق المحيط، حاذر أن ترفع عينيك إلى الطلعة السنية حتى ولو أُُذن لك، ولا ترفع صوت الحمير المبحوحة ولا تهمس بما يتعب مولانا فيأمر بإخراج كلماتك دامية من حلقك، لا تـقل "لا" أبدا فإنها قاتلة في الحال، إلا في مقامها، ومن أين لك يا وجه الكرب والكدر والمآسي أن تعرف أين تقال "لا" أو "نعم" قال سأكون قربك يا رائحة الثعالب الجيف لأنبهك إلى فعلك، فأرهف سمعك المغلق أغلق الله دونك رحمته، ولا تَسْعَ إلى حتفك حتى ينال منك مولانا لا أحوجه الله إلى أمثالك، قال أما حين تدخل على مولانا وسيدنا أدخلك الله جهنم قبل هامان وفرعون والشياطين أجمعين، فإياك أن تنسى أن تركع وتسجد لسيدنا ومولانا ثلاث سجدات كاملة ذليلة غير منقوصة، ثم قال، ألجم الله لسانك بلجام من العقارب: السلام على سيدنا ومولانا الأمير، من عبد فقير. حقير يلتمس عدل مولانا ورحمته لا عادل ولا رحيم بعد الله سواه، وحين ينتهي منك جلالة السلطان فإياك أن تدبر لا أبقى لك الله ظهرا ولا دبرا، فهذا أيسر ما يصنع مثلك من الأعراب، يحسب نفسه في الأسواق، قال أما في قولك، فاقتصد وكن بليغا لا تزد فيه ولا تنقص، فقد أتعبتمونا يا أوباش العرب وحثالتها بالثرثرة النجسة طورا، وطورا إدغام المبهم، أدغمكم الله جميعا وسوَّد وجوهكم.

قال ابن مكذوب، فجلس الشيخ يلقنه ويعلمه ويحفظه ساعة أو ساعتين حتى انتهى جلالة السلطان من أمور مهمة فأفسح لعامة الناس، وكان لا يصنع ذلك إلا للتسلي بغرائب وعجائب رعيته، فأدخل عليه ابن مخزي وبجانبه الشيخ فهمس في أذنه بعد أن اختلط عليه، ونسي كل شيء حين رأى بطرف عينيه سيف السياف، وإشراق أثواب السلطان اللامعة، وبهرجة نعمه، وكان يخرج الكلام من بين أضراسه فيما يشبه الخوف والغضب. قال: غض الطرف يا وجه ضفادع المجاري، أذهب الله بصرك واركع واسجد يا نهاية الفواحش. فانحنى ابن مخزي راكعا ساجدا ثلاث مرات محاذر أن ينظر جهة الأمير، فلكزه الشيخ مرة أخرى وكاد يعضه في أذنه: سلم على مولانا يا عين الفضائح ويا أصل الزنا، فانتبه ابن مخزي وتلعثم ثم أخرج كلاما فاحشا ما سمع به إنس ولا جن، اهتزت له مملكة سيدنا ومولانا، قال المنحوس "السلام عليك". فقام السلطان من مجلسه وهو يرتعد، وقد اجتمع دمه في وجهه وارتعش سيف السياف وهاج المجلس مستغفرا مستعيدا بالله، وارتمى الشيخ باكيا على رجل الأمير وطفق يجهش: عفوك يا سيدي ومولاي ورحمتك، لقد أنفقت مع خام الخشب هذا دهرا أعلمه فما تعلم، فجفل السلطان وركل الشيخ، فحمل غارقا في دمه، ثم قال السلطان للسياف وعيناه لا تزالان تزغردان من الغضب: اقترب من هذا، وارفع سيفك وانظر، فإذا رأيت وجهي على حال ما رأيت الساعة فلا تنتظر. قال

ابن مكذوب ثم التفت السلطان إلى ابن مخزي وتملاه طويلا ثم قال: ما أوصلك إلى مجلسي؟ فانقض جلال الدين اللحاس وقفز أمام الأمير، واقترب منه وهمس في أذنه، وهم ابن مخزي بالكلام، فامتدت إليه أياد كثيرة، انحشرت في فمه ومنعته من النطق، وسمع وخزا حادا في أذنه: هل أذن لك مولاك بالكلام يا عصارة الشر والخراب، فلزم الصمت، فلما انتهى السلطان من سماع الحاجب ولان الغضب في وجهه وهدأت فورته وارتاح عبوسه ثم استوى على عرشه، وهدأ معه المجلس، التفت إلى ابن مخزي وقال: أعد السلام يا هذا، قال وحين انفتح فم ابن مخزي اشتبكت الألسن والأنوف عند مسمعه: السلام على الطلعة البهية والنور الدافق والبدر المنير والحسن الرباني، السلام على مولانا الهمام صاحب الجاه والسلطان، قال فسمع ابن مخزي من عبارات السلام ما نيف على المئة، فلم يحفظ منها عدو الله شيئا وحين أذن له في الكلام قال: "السلام عليك".

قال ابن مكذوب فشهق السلطان شهقة واحدة ثم سقط على قفاه وانقلب معه عرشه، فلم يَبْدُ منهما سوى الأرجل، وهم السياف برأس ابن مخزي يريد أن يفصله، فصاح به الوزير، ماذا أنت صانع أيها المجنون، أتقتله وعينا الأمير في السماءِ، فتوقف السياف قريبا من وريد عنق ابن مخزي، واجتمع المجلس حول السلطان، فلم يسمعوا منه غير كلمتين، قال: اقطعوا دابر بني مغضوب واجتـثوا أصولهم وتعقبوا أعقابهم فإنهم أصل الداء.

قال سعد بن مكذوب فأُخذ بنو مغضوب ممن كان بالحاضرة، ومن كان على حدود العجم، وقتلوا نساء ورجالا وأطفالا وصلبوا في الساحة الكبرى ثم أحرقوا وألقي رمادهم في البحر، وشاع بين الناس أنهم حملوا داء فتاكا تحت إبطهم، أهلكوا به السلطان، وكادوا يعدون به الرعية، لولا لطف الله، والله أعلم بأمرهم.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى