الفرفار العياشي - مفهوم الديمقراطية في خطاب فلسفة ما بعد الحداثة

شكل اكتشاف مفهوم اللاشعور نقطة التحول، فالإنسان لم يعد سيدا حتى على ذاته، فكيف يمكن له أن يكون سيدا[1] على الطبيعة كما رسخ ذلك في فكر عصر النهضة، فمقولة الكوجيتو أصبحت مجرد مزحة فارغة لا تعني شيئا وبالتالي تحول الكوجيتو كشعار وعنوان لمرحلة عصر الأنوار إلى كوجيتو جريح أمام انتقادات رواد التحليل النفسي ونظريات التصور البنيوي وانتعاش خطاب هيجل وفوكو ياما نموذجا.
لاكان Lacan يستبدل الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر، أنا موجود" بمفهوم آخر "أفكر حيث لا أكون وأكون حيث لا أفكر" في إشارة واضحة إلى أن الفكر ليس علامة للوجود بقدر ما هو إلغاء ونفي له، الوعي والفكر في تصور لاكان هو مجرد تمثل زائف ومغشوش عن الوضع الإنسان داخل العالم[2].
لحظة فرويد شكلت وفق تصور التوسير الصدمة السيكولوجية التي زحزحت الذات المستمتعة بوجودها الأنطولوجي وكبرياءها العقلاني إلى مجرد ذات فاقدة للوعي حيث اللاشعور هو أساس الشعور واللاوعي هو محدد الوعي. إضافة إلى التحليل النفسي واستكشاف بنية اللاشعور، برز الاتجاه البنيوي (ستراوس، بياجي، التوسير، دوشوسير، لاكان، بوريو وفوكو) الداعي إلى انتصار البنية والمؤسسة وانتهاء فاعلية الذات، إنها لحظة تزحزح الذات عن مركزها لصالح البنية وفق المنظور البنيوي. وقد عملت الماركسية على تعميق هذا الانشطار والتزحزح من خلال التأكيد على أن الوعي الاجتماعي مشروط بالوجود الاجتماعي وفق عبارة كارل ماركس: "ليس الوعي الاجتماعي هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي وأن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي".
بذلك وضمن هذا الأفق، يمكن الحديث عن مقولة نهاية عصر سيادة الإنسان المستمد من عصر الأنوار "كنا عبيدا بجهلنا وأصبحنا سادة بعلمنا" بيكون. وسيتحول الإنسان إلى مجرد ذات تائهة ومسحوقة داخل بنيات اجتماعية وثقافية واقتصادية، سيصبح التاريخ الإنساني مجرد "عملية بدون ذات" بحسب التوسير حيث شروط ومحددات مادية ولا مادية هي التي تتحكم في توجيه حركة التاريخ بشروط خارجة عن وعي الإنسان وإرادته. بتغييب الإنسان ونفيه وإخفاءه في بنيات شارطة هو "براديغم" المميز لعصر ما بعد الحداثة. لقد حدث انقلاب شامل في دلالة مركز الإنسان حيث استبعدت فاعلية الذات وأصبح ينظر إليها كذات تابعة مشروطة بمحددات خارجة عن إرادتها حقيقة مشروع ما بعد الحداثة يجد أساسه في هذا التغييب والنفي للكائن الإنساني بإخفاء هذا الكائن وتذويبه في بنيات شارطة ومتحكمة فيه، سواء كانت بنيات نفسية أو اقتصادية
[3]. هذا النفي المتعدد للكائن الإنساني والذي تحقق مع سيكولوجية فرويد وبنيوية بارت وفوكو وأفكار ماركس والتوسير ودولوسير ودوكرو أحدث قطيعة مع التصورات المستمدة من عصر الأنوار المؤسس على العقلانية والحرية والإيمان بالفرد كقيمة لم تعد الحداثة بما هي لحظة انتصار العقل والعقلانية على الوهم والخطأ والشعوذة والأسطورة، بل إن للحداثة نفسها أساطيرها وأخطاؤها ونفطها المظلمة وهو ما عمل نيتشه على إبرازه في تحليله الجينالوجي خطاب الحداثة.
أولا: نقد العقلانية
يقول نيتشه: "منذ زمن بعيد، اصدر كبار الحكماء نفس الحكم على الحياة، إذ اعتبروها فاقدة لكل قيمة... وسقراط نفسه صرح لحظة احتضاره: "ليست الحياة سوى مرضا عضالا"
[4]، ويؤكد في إطار رؤيته الناقدة للفلسفة الميتافيزيقية أن "كل من يذهب مذهبا سقراطيا يستند في ذلك على سوء فهم يتم عبر ما يلي: النور الوهاج، العلانية التي ينبغي أن تحصل بأي ثمن، الحياة المتنورة والساكنة... الواعية والمقاومة للغرائز أو تريد أن تستقيم بدونها، مثل هذه الحياة ليست سوى حياة مريضة... فيها تكون مضطرا أن تقاوم غرائزك، إن هذا هو ما يشكل صورة الانحطاط"[5].
فالفلسفة الميتافيزيقا لم تنتج سوى بأفكار باردة وميتة لا حياة فيها لأنها لا علاقة لها بالواقع الفعلي للإنسان، فكل ما أبدعوه ليس سوى أفكار مجهضة منذ الولادة، أفكار جاءت لتحط من قيمة الحواس والغرائز بوصفها قوى لا تعمل سوى على تشويش رصانة العقل. فلكي تكون سقراطيا والحالة هذه يتوجب عليك أن تتحول إلى مومياء لا جسد لها ولا غرائز ولا حواس، إن المنطق السقراطي يدعو الإنسان لكي يضحي بذاته ويكيف عواطفه أو مشاعره من أجل ضمان المصلحة العامة.
وهو مجهود ينبغي أن يؤدي بصاحبه إلى الاندماج الطوعي بشكل قطيعي داخل الجماعة. وبهذا يتحول الإنسان قصرا إلى جسد طيب يسلك سلوكا جمعيا يقوم على التعاطف مع ما يعانيه الجميع من ألم ويكابده من حسرة اتجاه الحياة المذنبة. هذا فهوية الفرد لا يمكن أن تحقق ذاتها إلا من خلال الإمحاء داخل الكل من أجل الاهتمام بالآخر والإشفاق عليه وإنقاذه أو إسعافه. يرى نيتشه أن هذا نداء يحول دون إثبات الذات وقدرتها على الإبداع والخلق.
من داخل هذا السياق النقدي يعمل نيتشه وفق المنهج الجينالوجي حيث التفكير بضربات المطرقة عمل على فضح خطاب الحداثة باعتباره خطاب الحداثة في نظره خطاب مخادع وماكر، فهو يعاني بحسب نيتشه من تناقض بين المنطوق والمسكوت عنه: فما يقوله الخطاب هو أن الحداثة عقلانية ظافرة محررة للإنسان توهم الإنسان أن السيد الوحيد في هذا العالم، وما يحجبه الخطاب هو لا معقولية وبأن وعود العقلانية والحرية والحقيقة مجرد أوهام تنعها العقل الحداثي
[6].
وهذا يعني في المنظور الجينيالوجي أن لتجربة الحداثة مناطقها المعتمة وأوجهها المظلمة، ما دامت تتستر عن علاقتها المشبوهة مع السلطة والمال. ولذا يعمل نيتشه على فضح كل ما آل إليه تقديس العقل والتجربة وتأليه ما أنتجاه من مفاهيم وأفكار وتصورات، والسعي إلى تأليه العقل الذي يجد تجسيده في سيطرة التقنية وعقلها الحسابي.لقد جعلت الحداثة من هذه العقلانية الحسابية ومردوديتها بمثابة المقياس الأوحد، واعتبرت كل دعوة للعودة إلى الغريزة والجسد بمثابة خطيئة وفضيحة أخلاقية على اعتبار أنا الجسد أحمق أو هو قبر للروح. وهكذا صارت القيم الإنسانية قيما مقلوبة: السماء تحاكم الأرض، والوعي يحاكم العالم، والحقيقة تحاكم الإنسان، كما تم الاستنجاد بسلطة الأخلاق لمحاصرة "الرذيلة" وتحصين "الفضيلة". تلك هي رهانات الحداثة: إدانة الجسد، وتأليه العقل والاعتقاد في عظمة العالم، وضبط الإنسان وإخضاعه للحساب. وهذا ما جعل نيتشه لا يكتشف في عمق الحداثة سوى إرادة عدمية تجد تجليها الواضح في الاقتصاد الرأسمالي الذي يستعمل الإنسان لمضاعفة إرباحه، ويمتص طاقاته فيحولها إلى طاقات لاستعباده، بحيث لم يعد الإنسان ولا حتى الأشياء تستمد قيمتها من ذاتها، بل من الاستعمالات والمنافع التي تدرها. ولقد نتج عن هذه التسوية بين الناس والأشياء، فانتهى هذا إلى خلق نوع من المجانسة المطلقة، وإلغاء الفوارق، والخصوصيات الحميمية، مما جعل الفرادة، والتميز، والاختلاف، تفقد حظوتها، وأصبح كل شيء له قيمة تبادلية، وقابلا للاستعاضة والاستبدال. وبكلمة واحدة، لقد صارت روح العصر روحا قطيعية. نيتشه يتقاسم نفس الهواجس الرافضة للحداثة مع كل من الوجودية ومدرسة فرانكفورت. وهكذا فهمت المساواة كتنكر للخصوصيات الفردية والجنسية لصالح التشبه بالنموذج المهيمن نموذج الإنسان الأبيض العقلاني والمتفوق، فلقد ترجمت المساواة إلى مبدأ الديمقراطية، والتي أصبحت تعني ترجيح حكم الأغلبية على حكم الأقلية. ولقد أدى تطبيق هذا المعيار الكمي على أرض الواقع، وبعد ان تم تكييفه مع الأغلبية إلى تهميش مطالب الأقلية، مما أدى إلى إقصاء النخبة والعبقرية والفردانية والتجربة[7]، وهذا ما حول الديمقراطية إلى إيديولوجية للقطيع وأداة لهيمنة الضعفاء على الأقوياء، لقد أضحت الديمقراطية في نظر نيتشه عبارة عن حكم مسبق، بمعنى أنها أصبحت إيديولوجيا تقر بأن الواحد والمتجانس والمثل، هو الأساس والمبدأ والأصل، أما المتعدد والمختلف والمغاير فهو ثانوي وأخير وفرع. إنها إرادة تنزع إلى محو ما يوجد في الأصل من مسافة واختلاف وتراتبية وذلك دلالة على ضعف البصر حين تسوي. هذا الموقف سيدعمه دولوز في كتابه محاورات، فهو يرى بأن الاختلاف بين الأغلبية والأقلية اختلاف كمي، فالأغلبية تفترض معيارا أو نموذجا تقاس بالنسبة إليه، وهذا المعيار هو الرجل الغربي / الأبيض / الذكر / العاقل / الذي يقطن المدينة / ويتحدث اللغة الرسمية والمسيطر.
واضح وتبعا لهذا المعيار، فالأقلية تتحدد باعتبارها تلك المختلفة في اللون، والجنس، والقومية، وتسكن البوادي، وتحيد عن المنطق الأبيض، وتتحدث لهجات مختلفة... إلخ وتبعا لهذا المعيار، فالأقلية يمكن أن تكون أغلبية على مستوى الواقع، (يمكن للنساء مثلا أن تشكل أغلبية مقارنة بالرجال أو سكان البوادي بسكان الحواضر...) لكنه مع ذلك تبقى الأغلبية لعقلاء المدن والمتشبعين بمنطق المدينة[8].
إنها لحظة انتصار فلسفة اللاوعي والمنسي والمهمش والمغاير حيث لم تعد الحقيق تقيم في عالم العقل، قد تكون الحقيقة بنت الخطأ / باشلار أو هي خطأ تم تصحيحه / ادغار موران Edgard Morin.
إن فلسفة ما بعد الحداثة تعادي النزعة العقلانية وتنفتح على ما تم إقصاؤه، يؤكد نيتشه في نقده للعقلانية أن أصل العقل لا عقلي، وأن أصل المنطق لا منطقي. فجمال اللاعقل أوسع بكثير من مجال العقل، بل إن العقل أساسا شيء نادر في الوجود، لأن معظم ما يسير بدون عقل: "والجنس البشري – على حد قول روسو – هو إلى الفناء، وما كان ليدوم لو أن بقاءه معلق على قياسات رجال المنطق وبراهينهم"
[9]. في هذا السياق برزت فلسفة موت الواقع / جان بودريار التي استمدت مشروعيتها الفلسفية ضمن رؤية ما بعد حداثية، انطلاقا من فرضية أن القوى الأساسية في الإنسان تظل منفلتة وخارج سلطة الوعي.
فالحداثة أخفقت في تحقيق أحلامها حول الحرية، المساواة، والتنوير لأن القرن 20 كان مشحونا بالحروب والكوارث وظهور أنظمة مستبدة وكليانية، أحداث أدت إلى انهيار الحلم ببناء مجتمع التنوير والعقلانية أو إفلاس مشروع الحداثة / مدرسة فرانكفورت. حيث أصبحت مقولات الحرية، المساواة، العدالة، مجرد عبارات فارغة، فالعقلانية اللاذاتية حولت العالم إلى سلعة وتحالفت مع العنف والقوة والمال وتخلت عن صوابها وإنسانيتها. لذا يفهم لماذا عملت البنيوية والتفكيكية مدرسة فرانكفورت إلى تقديم نقد جدري للحداثة لأنها أوصلت العالم إلى وضع مأزوم عموما ونحن نستحضر فلسفة ما بعد الحداثة في رؤيتها للإنسان المتشظي والمغيب والمحكوم بسلسلة من الشروط والحيثيات في علاقته بالجانب السياسي. فالديمقراطية ستلزم إطارا ديكارتيا حيث المواطن فاعل، عاقل، مريد، أما حين يصبح الإنسان مغيب وخاضع لجملة لإشراطات، كيف يمكن الحديث عن ديمقراطية في إطار لا ديكارتي.
المفاهيم الديكارتية التي نهض عليها مشروع الحداثة مفاهيم أصبحت مهزوزة هامشية، فالشعور والعقل والإرادة ليست سوى ألفاظ زائفة تحمل تصورات ودلالات غير مطابقة لحقيقة الذات البشرية. إذا فسيغدو وقتها دفاع فلسفات اللاوعي عن الديمقراطية مجرد ادعاء غير مسنود بأي أساس منطقي أو واقعي. ففلسفة ما بعد ما الحداثة أعلنت التمرد على المطلق وعلى العقلانية وانفتحت على ما تم إقصائه وتهميشه / الأحمق الأسود المغاير الشواذ.
يمكن أن يستنتج أنه إذا العلوم الإنسانية قد انتعشت وازدهرت في عصر الحداثة باعتبارها تخصصات لدراسة الذات / الإنسان الأبيض العاقل الحر. أما تيار ما بعد الحداثة عرف ازدهار علم الأنثروبولوجيا باعتبارها علم لدراسة الآخر المغاير. أما ترجمة هذا التوجه سياسيا كان ببروز الديمقراطية التوافقية كإطار سياسي لإشراك الآخر المغاير في تجربة الحكم.
يمكن ان تلاحظ أن هناك نزوعا عند كثير من المثقفين غلى نقد الحداثة وإلى تحميلها مسؤوليات خطيرة. انطلاقا من تجارب التاريخ على أنه لا يمكن أن نتناسى أن أغلب الاتجاهات الفكرية والسياسية المعارضة للحداثة كانت معادية للديمقراطية
[10] في ذات الوقت على سبيل المثال، الاتجاهات الرومانسية في ألمانيا الاتجاهات القومية والعرقية في فرنسا... إن صعود وتنامي الفاشيات في أوربا ارتكز على أطروحات مناقضة للحداثة والديمقراطية في آن واحد، إن النقد الراديكالي للحداثة قد يفضي إلى نسف الديمقراطية وتحطيمها.


[1] - التحليل النفسي من فرويد إلى لاكان، عدنان حب الله، بيروت، مركز الإنماء القومي 1988، ص:15.
[2] - التحليل النفسي للذات الإنسانية النظرية والممارسة، فيصل عباس، دار الفكر اللبناني، بيروت، ص:7.
[3] - ما الحداثة، هنري لوفيفر، ترجمة كاظم جهاد، دار ابن رشد للطباعة والنشر 1983، ص:69.
[4] - نيتشه وقلق الكتابة، حسان بورقيبة، مجلة العرب والفكر العالمي، عدد 11، صنف 1990، ص:135.
[5] - نيتشه الفيلسوف الثائر، جمال مفرج، إفريقيا الشرق، ص:55.
[6] - Critique de la modernnité, TOURAINE, ed fayard, Paris, 1992, p:462.
[7] - أسس الفكر المعاصر، عبد السلام بنعد العالي، دار توبقال، الطبعة الأولى 1991، ص:147.
[8] - Généalogie de la morale, Nietzeche, op
[9] - أصل التفاوت بين الناس، جان جاك روسو، ترجمة بولس غانم، سلسلة الأنيس، موفم للنشر، 1991.
[10] - هذه المقالة هي في أصلها مداخلة ألقيت في الندوة التي نظمها مركز الأبحاث في التحولات المعصرة (دجنبر 1996 مراكش) في موضوع: "في الحداثة" من طرف الدكتور رشيد العلمي الإدريسي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى