أمل الكردفاني/إعدام الإستنارة..خنقا حتى الموت

يقول الشاعر مصطفى معروفي:

نبذ الزمان ذوي الفطانةْ=وقد اصطفى الغوغا بطانةْ
فـأخو الفطانة لــــــــم أجـدْ=خــصـــــمـًـــــــا لـــــــه إلا زمـــــــانَهْ
يحيا الغبي مـــــنـــــــــــــــعّما=و المال رغـــــــــم الشينِ زانهْ
و جــــــــواره فــــــطـــــــــــنٌ له=زيــــــنٌ و ثـــــــوب الفقر شانهْ
ذاك الغـــــــبــــــي مــــــــبـــــــرأٌ=لـــــــــــكـــــــــنّ هــــــــــــذا في إدانةْ
عـــــــــــجــــــبا لدهر ما يــــرى=مــــــــــن عـــــــــــاقـــــل إلا وخانهْ

وهي قصيدة رائعة جدا.. فهي خلاصة الخلاصة..وقد كتبت منذ عهد مضى أشبه بها. غير أن نكتة المسألة كامنة في سياقات التفاعل البشري وهنا يترادف الزمان بالعقل الجمعي او مجازا له. وقد نحى العلماء ذلك المجاز جانبا عندما بدأ علم النفس يبرز إلى حيز العلوم متفرعا عن العلوم الاجتماعية ثم تفرع عنه علم نفس الجماهير ثم تناثر ضؤه يمنة ويسرة فظهرت علوم الادارة والتسويق والحرب النفسية...الخ وكلها تعتمد على معضلة انحطاط العقل الجمعي فتستغله استغلالا ممنهجا ومنظما بعد أن كان ذلك يحدث على مستو الوعي الفردي البسيط. وهكذا استغلت الأنظمة والحكومات السرية والامبريالية ذلك على نحو علمي مدروس.. لذلك أصبحت تقمع المثقفين كلما حاولوا رفع أصواتهم ، مبقية -تلك الأنظمة- على التجهيل ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. مصطفية الغوغا بطانة لافظة ذوي العقل سافهة لهم أو مسيطرة عليهم حفاظا على استقرارها. لا يعزب عن ذلك غربي ولا شرقي...فكم هذا مؤسف بعد أن عقد المستنيرون آمالهم على حداثتهم المغتصبة.

لقد نهضت الإستنارة على العقل ، ورغم ليونة مفهوم العقل فهناك من ينظر له نظرة قداسة وهناك من يحط من قدره ؛ وكلاهما له سند ودليل ، إلا أن العقلانية التي ألهبت الحداثة سعيرها حقبة من الزمان كان لها عمادها من الفهم التوسطي ، حيث يقول كانط في مقاله الشهير إن التنوير هو أن نفكر بأنفسنا ؛ لا يدعو بذلك إلى إنكار السماء ولا تأليه الأرض ، وإنما ذلك الحد الذي قيل فيه أن الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل.
وكنت كلما قرأت عن موت الحداثة عند الغرب ورأيتهم ينوحون بذلك معتبرين أن الحرب العالمية الثانية هي التي أزهقتها ؛ ما كنت أفهم شيئا من ذلك ، وربما لا زلت إلى اليوم لا أستطيع تخيل ذلك الرابط بين المسألتين...وربما كنت حينها متفقا -إلى حد كبير- مع هبرماس بأن الحداثة مشروع لم يكتمل..وأعتقدت على نحو جازم بأن الحداثة لا زالت ماضية في طريقها وإن كان مضيا بطيئا لكنه متوجه نحو الأمام وما لا يؤخذ كله لا يترك جله.
أما اليوم وبعد اطلاعي المستمر للعلوم المتعددة التي نشأت معتمدة على إلغاء العقل على نحو منهجي مدروس ومعلوم وما تبع تلك العلوم (كنظريات) من تطبيق عملي نرى أثره رأي العين فإنني لا أجزم فقط بقتل العقلانية بل أؤكد على شنقها حتى الموت واستبدال نظرية السيطرة بها.
ونظرية السيطرة control theory هي اليوم غاية العلوم ، فبعد أن كانت العلوم تنزع نحو السيطرة على الطبيعة ، صارت غايتها اليوم هي السيطرة على الإنسان نفسه ، لحماية مزايا قلة ذكية ، تتحسس مسدسها كلما طاف طائف من الوعي الجمعي فوقها. صار غرض العلوم هو توجيه الوعي وليس نشر الوعي ، وتوجيه الوعي ليس فقط كسلاح سياسي محض ، بل كسلاح اقتصادي وقانوني ، هذا التوجيه الذي يحدد للمرء الحسن من القبيح ، والصواب من الخطأ ، والمرغوب من المتروك ، والشر من الخير ، والأخلاقي وغير الأخلاقي....الخ...
فاليوم يمكن توجيه الوعي نحو شيطنة إنسان أو فئة واغتياله معنويا حتى لو كان رسولا نبيا. والعكس من ذلك ، يمكن رفع أكثر الخلق وضاعة إلى مكانة العظماء. ولقد تبحرت الرأسمالية في نظرية السيطرة تبحرا جعلها قادرة على توجيه الشعوب حتى في اختيار ملابسها على حسب (الموضة) وحلاقة الشعر ، واختيار رئيس الدولة ، والسيارة بل وحتى معايير الجمال الإنساني ، والحيوانات الأليفة الأجدر بالتربية المنزلية ، وطرق التربية وأساليب التعبد ، بل وعاداتنا اليومية... وهكذا استطاعت باجتماع المال بالسلطة في السيطرة علينا كبشر سيطرة مطلقة. وقد كتبت قصتين عبرتا عن ذلك وهما بعنوان (أنفاس القشطة) ، و (رتق على جرف القارات). ونحن اليوم نشهد كيف تضخمت تلك الشركات التي تخصصت تخصصا دقيقا ومعمقا في سيكولوجية الشعوب ، تدير أمزجتهم ، وتدفعهم إلى ما ترغبه فتارة تدفعهم لحب الحياة وتارة أخرى تدفعهم لحب الموت بحسب المصلحة المتوخاة سلما وحربا ؛ تضخما وانكماشا.
ولا يصدق الكثير من الناس أن نظرية السيطرة على سيكولوجية البشر تلعب دورا كبيرا -في الخفاء- على كسر كل إرادة للإنسان. فهذه النظرية دخلت حتى في ألعاب الفيديو قيم ، أو العاب الفيديو ، فكل لعبة تتم برمجتها لتحقيق أكبر إثارة ممكنة وتدفع بالأطفال والكبار على حد سواء نحو الإدمان وهكذا تضمن استمرار تدفق مليارات الدولارات للشركات المنتجة لها ، وبغير نظرية السيطرة وعلم التحكم لما رأينا الناس في شوارع العالم يسيرون زرافات ورؤوسهم منحنية على هواتفهم تتبعا للبوكيمون. بل ولا رأينا ألعابا تفضي إلى الانتحار أو القتل... ولولا نظرية التحكم لما استطاعت الحكومات السرية إدارة الديومقراطيات بحيث لا تتخطى الحرية الحدود المسموح بها في اللعبة السياسية ، ولولا نظرية التحكم لما استطاعت تطبيقات الانترنت السيطرة على أكثر من ثلثي وقت الإنسان لتعريه حينما تسجل وتوثق كل شيء عنه ، بداية من علاقاته العاطفية والمالية ، مرورا بعقائده ، وانتهاء بساعة موته.
فهذا العلم لا يلغي العقلانية فقط بل يوجه العقل بحيث تكون خيارات الإنسان تبدو وكأنها نابعة من إرادته الحرة وهي في الحقيقة منبثقة عن توجيه مسبق خفي من الإعلام والتكنولوجيا. وإذا كان سؤال الجبر والاختيار قد نشأ قديما كمواجهة بين الغيبي والوضعي ، فهو اليوم منبثق عن مواجهة بين الوضعي والوضعي. فالقلة التي تتحكم في العالم تقمع ذلك السؤال ، بل وتتعاون في قارات العالم على ذلك. حتى أن العقل ذاته لم يعد عقلا ، بل أضحى برنامجا أو تطبيقا يغذى قبل أن يفكر ، فيفكر في حدود ما تمت تغذيته به.
لذلك ؛ لو ارتددنا للوراء قليلا وتتبعنا حركة الأدب والفن لوجدنا الماضي أكثر ثراء من الحاضر لأن الجيد كان هو ما يخرج بذاته متكلا على جودته. أما اليوم فإن المتحكمين في العقول هم من يحددون للبشر ما هو جيد ، فترتفع قامات المتضعين وتنحط قامات أولي الذكر. متى ما شيء ذلك. وإن كان ذلك لم ينحسر في أي زمان من أزمنة البشرية إلا أنه كان يتم على نحو عفوي وفق قانون الاجتماع البشري الطبيعي. أما اليوم فهو منظم وممنهج ، له علماؤه ومتخصصوه ، وضحاياه من غالبية البشر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى