محمد خضير - مستعمرة العظايات..

تنفرد الظاهرة السردية المغتربة لمحمود سعيد بقوسها الجغرافي المتسع والمتعدد المحطات بين سرديات الأدباء العراقيين
المغتربين.
أولا لاختيارها موطن الهجرة الأميركي الذي احتضن أولى الهجرات العربية في مطلع القرن العشرين، واتخاذه مركزا لهذا القوس؛ وثانيالاحتكاكها بأنواع من الشرائح المغتربة هناك وتمثيلها في عمل روائي أساسي (ثلاثية شيكاغو)؛ وثالثا لربطها محطات القوس الثلاث: السجن والحرب والهجرة في نسق
واحد.

ميراث تاريخي

تمثل رواية محمود سعيد المهمة (أنا الذي رأى) محطة «السجن» التي تردد عليها الروائي مرات بين 1963 و1980 وارتبطت بقوس المحطة الثانية «الحرب» حين نشر محمود سعيد (فوهة في الفضاء) عن الحرب العراقية الإيرانية بعد اجتيازه الحدود إلى سوريا، أما (ثلاثية شيكاغو) فهي الرواية التي تقع في الطرف البعيد من قوس «الهجرة».
وعلى قوس هذا الامتداد التاريخي تلبث الروائي في محطات جغرافية ثانوية شملت مدنا عراقية وعربية وآسيوية ليقيم ستراتيجيته الروائية التي تؤلف رواية (صيد البط البري) حلقتها
الأخيرة.
وكانت مدينة شيكاغو مركزها الذي حمله الروائي المغترب ميراث نشأته وشفرات تحوله السردي من الإمكان إلى غير الممكن. ولعل الميراث التاريخي لهذا الروائي المولود على أرض آشور (الموصل) قد فوضه نشر شفرة عمله الاستثنائي (بنات يعقوب) وحثه على ضم الميراث العبراني إلى ميراثه الآشوري والتحقيق في صدق السبي البابلي (الدياسبورا) بقرائن معاصرة بدءا من قرينة الاحتلال الأميركي لموقع جبال حمرين الذي اتخذته بنات يعقوب الثلاث من قبل موطنا لهجرتهن من القدس إلى بابل.

صورة نمطية

لن نناقش الإشكالات الدينية والسياسية والفنية التي تثيرها رواية (بنات يعقوب، دار فضاءات، 2008) بحسب المراجعات «السامية» التي رافقت نشرها، ولن نتطلع إلى قراءة ثلاثية شيكاغو (حافة التيه، إيزودورا، زيطة وسعدان، دار آفاق، القاهرة 2008) بما أنها تقدم صورة نمطية عن مدن اللجوء الأميركية، بحسب المراجعات النوستالجية، كذلك فإن رواية قوس الهجرة المبكرة (زنقة بن بركة) قد طوت معها غبار الطريق ودهشة المكان الغريب وأصوات شخصياته المتنوعة؛ فما يوجه قيافتنا لآثار هذا الروائي الساعي إلى إدراك هدفه المستقبلي يكتفي بالشظايا المهملة على جوانب القوس الستراتيجي القائم مثل جسر على فضاء المحطات المطوية، نتخذها قرينة صغرى للتعويض عن تتبع القرائن الروائية الكبرى.
ونعني بالشظايا الصغرى قصصه القصيرة، وأهمها قصة (مستعمرة العظايات) المستقلة عن ثلاث مجموعات قصصية نشرها بين 1957 و2006، تجمع وحدها مضامين القوس الروائي كلها في أثر عابر
للمحطات. mahmood saed 7 (2)

أفضل قصص العام

نالت قصة (مستعمرة العظايات) استحسان مجلة (الأدب العالمي اليوم) الأميركية واعتبرتها أفضل قصص العام بعد نشرها بترجمة المترجم المعروف وليم هوتشنز في عدد تشرين الثاني 2012. وتنعقد حبكة القصة حول الهاجس القديم المتموج بقوة وإلحاح على قوس الرحلة الشاقة لمحمود سعيد إلى العالم الجديد، ونقصد به هاجس السجن. لم يتخلص المغترب في بلاد الحريات من الانغماس في هذا الرابط البشع، واستخدامه في عمل قصصي يعلق اعتمالات حبكته وأسبابها على قضية انتهاك حقوق الإنسان.
يحمل القاص ذلك الهاجس ويلقيه على عاتق امرأة عراقية تعمل مترجمة في معسكر اعتقال أميركي يقع في مكان ما بين الباكستان وأفغانستان، ويضعها في مواجهة معتقل مغربي متهم بالإرهاب، تشارك في استجوابه بأمر من قائد المعسكر.
ولكي يخصص تجربة الاعتقال هذه يفصل السارد مشاعر المترجمة التي تتعاطف مع السجين الإرهابي في معاناته التعذيب الشديد، ويتابع الحياة السرية للمعسكر من خلال سردها الموضوعي. كان أول ظهور للمترجمة في المعسكر الكبير، المؤلف من عشرات المقطورات المصفوفة، في صبيحة يوم ساخن ورطب مقارب لطقس موطن المترجمة الأصلي (البصرة)، مقرونا برمز غريب يتمثل في انتشار عظايات خضر لامعة، جاحظة العيون، تعترض طريقها بصحبة جنرال المعسكر عند ذهابهما للتحقيق مع السجين
المغربي.
وهو الظهور التالي لحادثة اغتصابها من جنود المعسكر في حفل جماعي، فيحفر رمز الزواحف المنتشرة على أرض المعسكر وممراته في داخلها مسافة الهلع والألم التي حصرت نفسها فيها، ويتمثل لها في كل لحظة قول الجنرال الذي تصحبه: «لا تخافي منها إلا إذا وطأتها بقدمك، حينئذ تترك عضتها وشما لا يزول مدى الحياة».

قوس على ثلاثة عقود

تسوغ المترجمة العراقية عملها في المعسكر بحاجتها للمال كي تعالج به ابنتها المصابة بالسرطان، لكن تعرضها للاغتصاب وبروز العظايات الخضر يشددان علاقتها الإنسانية بابنتها من جانب وبالإرهابي المغربي من جانب آخر، إذ يقع كلاهما على خط المصادفة المحبوكة في صيغة سؤال يوجهه المعتقل لها في نهاية كل جلسة تحقيق يتخللها التعذيب بجهاز كهربائي. كان السؤال باللهجة المغربية ثابتا لا يتغير: «للا العراقية، كم طفلا
عندك؟». وكانت هذه الكلمات الاعتراف الوحيد الذي استطاعت المترجمة انتزاعه من
السجين.
تنقل المترجمة سؤال المعتقل لرئيسها الجنرال، غير المكترث إلا لاعتراف كامل، لكن ترجيع الصوت العذب الذي يصمت أخيرا، يوثق رابط العدالة المهددة في أكثر من مكان في العالم، ويثير جوابا محرما دفينا في صدور الناس المغتربين، وهو الرابط ذاته الذي تتعاظم حبكاته في سرديات محمود سعيد الممتدة على قوس ثلاثة عقود.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى