مصطفى الحاج حسين - مقطع الزّاغ ...

كان " سامح " يتقدمنا بعدة أمتار ، حين بدأنا ندخل متسللين إلى" مقطع الزَّاغ"، ومنذ أن خطونا إليه ، تسرّبت إلى أجسادنا برودة عفنة ، فشعرنا بالرّاحة والنّشوة ، لأنّ حرارة الجّو في الخارج كانت خانقة .
اجتزنا الطّريق الضّيقة المتعرّجة مبتهجينَ ، ولكنّ إحساساً داخلياً بالإنقباضِ والوحشةِ أخذ يراودنا .
قبعت الظّلمة في المكان ، غير أنّ الجّدران الحوّارية البيضاء خفّفت منها فبدا المكان أشبه بكهفٍ مسحور .
صاح 'عثمان " :
- انتبهوا من الجنّ والعفاريت .
وتردّد صوته مختلطاً بقهقهات "سعيد الجّدع" ، الذي ظهر من خلال ضحكته شيء غير طبيعي ، يشير إلى خوفه وفزعه . وعندما سكتت الجّدران عن ترديد صدى الضّحكة ..
قال :
- أنا لا أخاف منها .. ففي رقبتي سلسال مكتوب عليه (( الله - محمد )) وهو يحميني من الشّياطين.
قلتُ معلقاً على كلامه ، وقد أخذ الممرّ الضّيق بالإتّساع والعتمة تتضاعف ، بينما الانحدار نحو الدّاخل يزداد حدّة :
- لكنّ سلسالكَ هذا لا يحميكَ من أرواح الأموات المنتشرة قبورهم على سفح الجّبل.
صرخ "عمر" وكان يمشي خلفنا :
- ياأولاد الحرام ، اتركونا من سيرة الأموات والجّن وإلّا سأرجع إلى الحارة .
البرودة تزداد قوّة وحلكة كلّما توغّلنا ، لدرجة أنّنا شعرنا بقشعريرة البرد تسري في عروقنا ، بينما كان الماء ينزُّ من السّقوف والجّدران مخرجاً خريراً منبعثاً من الأعماق يتناهى إلى أسماعنا .
صاح "سامح" أبن عمّي فجأة ، بصوت مليءٍ بالدّهشة والفرح :
- يا جماعة .. أشمُّ رائحة نار .
فأسرعنا نهبط فرحين ، وحقيبة" سامح " المدّرسية كانت تتأرجح خلف ظهري ، فقد كنتُ أحبّ دائماً حملها معي ، ليظنّ من يراني بأنّي طالب مدرسة .
زعق "عثمان" :
- رائع عندي سيكارتان " ناعورة " ولا أملك شعلة .
وصلنا إلى ساحة مترامية الأطراف ، يبدو أنّها في القاع تماماً . فسرقت عيوننا نار متأججة يتحلّق حولها ثلاثة شبّان . إلى جوارهم تناثرت زجاجات العرق .
انكمشنا في أماكننا جامدين ، بينما تتفرسنا أنظار الشّباب بدهشة وبهجة واضحتين .
قال أحدهم ، وكان يدعى " جمعة زقّان " ، بصوت خرجت بحة المشروب معه :
- تفضلوا ياحلوين .. تعالوا .. لا تخافوا ، لا يوجد بيننا غريب .. كلنا أولاد حارة .
بقينا على وقفتنا خائفين ، ودقات قلوبنا تطرق صاخبة عنيفة .. إنّ " جمعة زقّان " هذا نعرفه تماماً ، ونعرف شلّته أيضاً ، فكلهم مجرمون ، يغتصبون الأولاد . وكثيراً ما حذرني والدي منهم .
صاح الثاني ، واسمه " حمّود النّازل " ، وهو ذو يد مقطوعة :
- تعالوا .. دخنوا واشربوا العرق . وكرع جرعة من زجاجته ، ثمّ أردف قائلاً :
- "تقبروني ما أحلاكم " .
صرخ الثّالث ، وكان يدعى " لطوف النّابح "
، وكان له صوت يشبه نباح كلب ، يخرج من تحت شفته المشرومة :
- هربتم من المدرسة يا عكاريت ، جئتم وألله بعثكم لنا ، الحرارة متوتّرة معنا .
قال ذلك ونهض نحونا . صرخ أحدنا بفزع :
- اهربوا .. اهربوا قبل أن يمسكوا بنا .
انطلقنا راكضين صوب الخلف ، كان الانحدار صعباً هذه المرّة ، وليس من صالحنا ، وبدأت أقدامهم بدبيبها المرعب تضطرب خلفنا ، ونحن نلهث مذعورين، قلوبنا ترتجف بشدّة لم نعهدها ، وأنفاسنا تضيق حتى كأنها سوف تتفجر ، والحقائب خلف ظهورنا تزيد من توترنا وخوفنا بتأرجحها ، مما جعلني أندم على حملها في هذه المرّة ، وخطر لي أن أرميها لإبن عمّي " سامح " ، لكن لا مجال الآن ، ونحن نهرب مذعورين .
انبعثت صرخة ذعر حارقة من خلفي . لقد سقط " سامح ' ابن عمي في أيديهم ، تفاقم الفزع فينا ، أسرعنا بكلّ ما نستطيع ، صاعدين متوقعين أن تمتد يد غليظة الأصابع فتمسك بنا من ياقاتنا ، كنت الأخير خلف رفاقي ، وكان صراخ " سامح " وعويله المجنونان يدفعانني لبذل طاقتي النهائية في الصّعود .
أخيراً وصلنا إلى فوهة " المقطع " ، استدرنا للخلف، كانت أصوات الأقدام قد انقطعت ولم نر أحداً . لقد عادوا ليفترسوا " سامحاً " الذي لم نعد نسمع له أيّ صوت.
توقفنا على مسافة غير بعيدة ، وصدورنا تعلو وتهبط مسرعة كخوفنا ، وأجسادنا مغسولة بعرقنا الحارق ، كصوت " سامح " حين أمسكوا به .
قال " عمر " يخاطبني بصوت متهدّج :
- " رضوان " .. عليك أن تخبر بيت عمّك حتى ينقذوا ابنهم .
قاطعه " عثمان " :
- ماذا ؟ .. إذا قمنا بتبليغهم يافهيم فسوف يعلم أهلنا بهربنا من المدرسة .
قلت وقد بدأ التّعب يزايلني :
- ليس أمامنا وسيلة لانقاذ " سامح " غير تبليغ عمّي ، وبسرعة قبل أن يقوموا باغتصابه .
ضحك " سعيد الجّدع " ( صياد الجرابيع )
وعلّق على كلامي :
- منذ اليوم صار لقب " سامح " ( مفعول به)
قهقه " عثمان " حتّى آلمته خاصرته ، وقال:
- لأوّل مرّة يهرب من المدرسة فيتعرّض للإغتصاب .. وتابع قهقهته .
صرخ " عمر " بانزعاج :
- أنتم حقراء .. أولاد كلب ، تضحكون بينما لا نعرف ماذا جرى " لسامح " .
تخيّلت " جمعة زقّان " صاحب الرأس الكبيرة ، والأنف الممطوط ، وهو يشمّر " كلابيته " وينزّل " شرواله " واضعاً سكينه فوق عنق " سامح " ، بينما يحاول أفراد العصابة جاهدين تثبيت " سامح " .
- أنا ذاهب لإبلاغ " عمّي قدّور " .
قال " عمر " وهو يتبوّل من الرّعبة :
- اذهب بعجلة .. أمّا نحن فسنبقى هنا لنراقب الوضع ، فربما يأخذوا " سامحاً " إلى مكان آخر .
رميت حقيبة " سامح " من خلف ظهري وانطلقت كالصاروخ ، منحدراً من قمة الجبل نحو البلدة .
في غمرة هذه الأحداث ، وهذا الانفعال، كانت تداهمني موجات من الفرح ، فأنا لا أحبّ " سامحاً " منذ وعيت الدّنيا بسبب امتيازه عنّي بدخوله المدرسة .
غير أنني سرعان ما كظمت فرحي هذا، وعاودتني حالة الخوف والقلق ، " فسامح " ابن عمّي قبل أيّ شيء آخر ، وقد هرب من المدرسة لأوّل مرّة لارضائي بعد أن هدّدته بالزّعل فوافق . ثمّ ماذا سيكون موقفي من أبي وعمّي " قدّور " إن أعترف " سامح " بأنّي سبب هروبه من المدرسة ؟ .
في الطّريق ، بينما كنت أركض بين الأزقة ، وعند المنعطف تماماً ، برز والدي " بشرواله " وسترته " الكاكية " المعهودة ، توقفت في مكاني ، تجمّدت أمام نظرته الصّارمة .
- هارب من الشّغل " يابندوق " ؟!.
حافظت على صمتي المبدّد بلهاثي ، ماذا أقول ؟..هل أخبره بما يحدث " لسامح" ، لم أكن أتوقّع رؤيته ، فلم أرتّب كذبة في ذهني تنطلي عليه .. وتأكّدت أنّه ترك عمله ليبحث عنّي .
- عاقل باابن " القحبة " ، تتظاهر بالمسكنة ، والله لأريك نجوم الظّهر .
وهوت كفّه، ثقيلة خشنة ، صفعتني بقوة، تطاير الشّرر من عينيّ ، ترنّحت ، سقطت ، ركلني ، جاءت ركلته على خاصرتي ، طارت فردة " الصّرماية " الحمراء من قدمه ، نهضتُ ، فقذفني بها على رأسي .
- آخ يا " يوب " التّوبة . وحق المصحف ماعدت أهرب .
- امشِ إلى الدّار ياابن " الجحشة " بدّي ألعن أبوك على أبو أمك .
سبقته بعدّة خطوات ، خائفاً من ضربة مفاجئة ، ولهذا كنت ألتفت خلفي لأتأكّد من بعد المسافة عنه ، بينما أتنشّق مخاطي المختلط بالدّم المتدفق من أنفي .
سبقني صراخي إلى الدّار ، ففتحت أختي" مريم " الباب ، واستقبلتني أمي بوجهها الشّاحب ، وعينيها الفزعتين ، فتعالى بكائي ، وتضاعف تأوّهي :
- ياأمّي ... خاصرتي .
وقفت أمّي حائلاً بيني وبين أبي ، وقالت تسأله :
- خير إن شاء الله .. ماذا فعل " رضوان " حتى تعاقبه ؟.
وأتاها صوته ليرعب " مريم " وتنكمش على نفسها :
- ابن " الصّرماية " هرب من الشّغل . قال ذلك وهو بالكاد يلتقط أنفاسه.
- يلعن " أبو الشغل " ستقتل الصبي ، الولد لا يحبّ صنعة العمارة .
صرخ أبي وقد زاده غضباً كلام أمي :
- كلامك هذا يشجّعه على الهرب ، عليَّ الحرام والطلاق بالثلاثة سأشتري له قيداً وجنزيراً .
توقفتُ عن البكاء برهة ، مددتُ رأسي من وراء أمي ، وقلت :
- أنا لا أريد أن أشتغل في العمارة . أرسلوني لعند الخياط فلا أهرب .
هجم نحوي ، صوّب ركلة إلى مؤخرتي :
- عليّ الكفر لن أتركك تشتغل إلّا في العمارة ياكلب ، هذه صنعتي وستعمل بها .
ثمّ تابع قوله الصّارخ :
- تحرّك أمامي ألى الورشة .
صاحت أمي :
- ألا ترى دمه .. أتركه ليوم غد .
عدّل أبي " جمدانته " فوق رأسه وقال :
- أنا ذاهب للشغل ، وعندما أرجع سيكون لي معك الحساب .
سحبتني أمي من يدي ، أدخلتني الغرفة الشّمالية ، أخذت تمسح دموعي ومخاطي الدّامي .. وهي تقول:
- ألم أنصحكَ بعدم الهرب ؟.
صحتُ بصوتٍ مخنوقٍ :
- أنا لا أطيق العمل في العمارة .. لماذا لم تدخلوني المدرسة مثل " سامح " ؟ .
لم أكد أذكر اسم " سامح " حتى قفزتُ من مكاني ، غير عابئ باندهاش أمي ونداءاتها هي وأختي " مريم " ، صرختُ وأنا أجتاز عتبة الدّار :
- يجب أن أبلّغ عمّي " قدّور " لينقذ ابنه " سامح " .. لقد تأخرت .. لقد تأخرت .



مصطفى الحاج حسين .
حلب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى