الجنس في الثقافة العربية الوليد ادم مادبو - الجنس عند السودانيين (نزوة ام غزوة) (2-3)

استهلال المقال السابق بأكثر أجزائه صدمة كان مغامرة جريئة اردت ان اجري من خلالها مساومة بارعة مع القارئ "المتحفظ"، الذي لربما أشعرته في نهايتها (هذا إذا كان قد أكمل المقال، ولم يكتف بتمريره كإحدى الشمارات التي اعتاد السودانيون تناولها في ساحة التواصل الاجتماعي) بأنه خرج ظافرا حين اكرمته بعدم التوغل في اللغة الصادمة كما توقع لكنني نبهته إلى حجم البذاءة، التي يتم تداولها في الفضاء العمومي، خاصة في المركبات العامة، التي لا يراعي فيها حرمة لطفل أو امرأة او رجل مسن. بيد أن الانتقال من المشافهة إلى المكاتبة يتطلب شجاعة، عمق ونضوج أكاديمي، والأهم المقدرة علي الاستمساك بآليات البحث اللازمة لأعمال الحفر العميق في جذور المعضلة المطروحة وقد تستخدم اللغة الجميلة والأسلوب السلس، لا بل حتى روح الفكاهة، في تخير المصطلحات والتعابير والمفردات لترميم أي شروخ قد تتسرب منها الحاسة النقدية للقارئ الحصيف (أود ان اقترح علي الشباب عقد جلسات للتفاكر حول المقال، فجل الكبار لا يحسنون غير المكابرة).
اعود فأقول أن كل جريمة جنسية هي انعكاس لما اختزنته الذاكرة الجمعية من ممارسة شائهه، فلا يمكن النظر الي سجل الجنايات اليومية علي أنه نشاز عن الحالة السيسيولوجية والاجتماعية العامة. هذا اذا اردنا ان ننتهج نهجا جريئا ومفيدا اما اذا اردنا ان نستمر في الطرح البليد والكسول فيكفينا الادانة الشرطية والتغليظ فيالوعد الوعيد. قد يحلو لكل واحد منا ان يرجع طاهرا مطهرا، بيد ان صراخ الضحايا حتما سيؤرق مضاجعنا. الفقيه يعوي لأنه يعاني، هو لا يملك ان ينقذ نفسه كيف ينقذ الاخرين؟ ورجل الشرطة اسندت له مهمة الحراسة لمنظومة اخلاقية متداعية فوجد نفسه مجهدا في مطاردة افراد هم ضحايا طغيان ابوي ونفاق اجتماعي/سياسي. فهو محتار بين مطاردة المراهقين وحراسة نساء المسؤولين!
إيراد بعض الحيثيات من شأنه ان يذكرنا ليس فقط بفداحة الواقع ولكن ايضا بإشكالية الافصاح/الانكشاف في مجتمعات يحتل "الشرف" (انتبه انه شرف الاخر ورجولته المتخيلة) محورا في وضعيتها. عوض عن استحداث مجلس اعلي للأسرة وتصميم استراتيجية تتضمن سياسات ومعاهد تأهيل تربوي ومشرفين واطباء نفسانيين، بل وفتح خطوط ساخنة للإبلاغ عن الضررحيث يتم التعتيم في شكل التعاطف مع الجاني.فقد حكمت محكمة جنايات بإحدى مدن السودان العام الماضي على (ن.ه) بالسجن (10) سنوات والجلد (100) جلدة وذلك لاغتصابه الطالبة (ر.ح) وتعود حيثيات القضية إلى أن المجني عليها حضرت اليه باعتباره (شيخا) لمساعدتها في النجاح بالامتحانات ، وذلك ب (العزيمة) على قلمها فقام بتخديرها ومن ثم اغتصابها. بيد أنه لم يمض وقتا حتي تم إعفاء المجرم عن العقوبة بموجب القرار الجمهورى رقم 206/2013 (الراكوبة 29/8/2013)؛ فالرجل امام مسجد (أدين) ولا يجوز إتهام مروءته إنما التماس العذر له علي أسواء الفروض واستحسان الفعل علي احسنها إذ أن ذلك يدل علي فحولته وعظيم مرجلته التي يثبتها اقتحام الاماكن المجهولة ووطء الغياهب المأهولة علي سنة "بنات حواء عناقريب الليل مطامير الفلك!"
اذا تجاوزنا هذه الحالة البدائية وعزمنا علي اتخاذ تدابير مؤسسية، فلا بد من تضافر العمل الإحصائي مع العمل الجنائي، التحليل الاجتماعي مع النقد الثقافي (راجع مقالتي "الحوكمة وقضايا المرأة")، الاهم من ذلك اتخاذ سبل الوقاية اللازمة لتدارك الانفجار الجنسي الحالي واستحداث نظما للتعامل المنهجي مع انعكاساته وتداعيته السالبة.يزعم احد اميز الخبراء في مجال تنظيم الأسرة ان السودان يكاد يكون الأول في مجال الإصابة بالإيدز. إذا تركنا الانكار جانبا فهنالك موروثثقافي ومؤسسي هائل يمكن ان يفعل لوضع الأمور في نصابها.
إن الجاذبية الجنسية كانت عبر التاريخ قوة مقلقة للتراثية وخارقة للطبقة الاجتماعية: المهندس مع ست الشاي، رب البيت مع الخادمة، الموظفة مع المدير، الطالبة مع سائقالركشة، الي اخره مع المفارقات التي لا تحصر، بيد انني اتكلم عن العشوائية التي اتسع بها شكل التداول للبضاعة (وإذا شئت البضع). مثلا، كنا ونحن طلبة في جامعة الخرطوم لا نحلم بأكثر من تقديم زميلاتنا إلى الداخلية، اما اليوم فالطالب يكاد يكون له أكثر من عشيقة في الفصل الواحد. بل إن بعضهم يقع ببنت خالته أو عمته، وقد كنا نصون المحارم، حتى من بنات افكارنا. هذا مع بنات حلتنا، ما بال باديتنا؟
لم يكن احد يجرؤ في التعدي علي رويعيات الغنم أو المحتطباتليلا او نهارا حتي انهارت المنظومة الاخلاقية فأصبح الامر مستهجنا لكنه مثل غيره من المنكرات التي يتم التعايش معها وبعد فترة يغٌض الطرف عنها. خرجنا يوما للقنيص انا ورفاقي بالقرب من دحل عيش (إحدى دحول دار الرزيقات) فاستغربت لوجود بنت في سن الثامنة وأخيها تقريبا في سن العاشرة يرعون ابلهم ليلاً،حوالي الثالثة صباحا. فقلت لرفيقي ما بال هؤلاء؟ قال لي: دع ما يريبك فلا احد يجرء للاعتداء عليهم ولا الجن نفسه!ليته عاشحتي يرى حرمة للجار تستباح وحرما للفريق يجتاح.
سٌئل احد قادة المليشيات الحكومية عن سبب تعديهم علي نساء الفور والمساليت، فأجاب معرضا بأنه لا يشتهيهم أصلاً. لقد وقع في الورطة دون ان يحس لان الاغتصاب هو من صنف الاعتداء (Act of Intimidation) وليس فعل انجذاب واستحباب (Act of Intimacy). هو اثبت التهمة من حيث اراد ان يدرأهافجمع بين البلادة والعنصرية. ان تجاوز الاشتهاء إلى الوطء هو بمثابة الاجتياح لساحة المجني عليه والامعان في إهانته. بما إنك لا تشتهيه فقد عمدت على اغتصابه، لأنك لا ترغبه علنا فقد اهنته سراً. هو يريد ان يقول أنه يعافهم، لكن ذلك يقلل من فحولته لان "الفحل ما عواف" في ثقافتنا الشعبية. فالاعتداء لا يكون بدوافع غريزية محصنة، إنما استضعافيه قحة.إنه انهيار لمنظومة قيمية؛ يجب الا يخلط بينه وبين الاباحية التي هي بمثابة انتظام لقيم غير سوية.
إن مجرد النظرة غير المحتشمة هي بمثابة اعتداء عند الغربيين، أما في عالمنا فننتظر الجاني حتى يتعدى لفظا وفعلاً، وما ذلك إلا لأننا ابتسرنا مفهوم الجنس في الجماع، والاخير في (الحياكة)، (والحياكة) في العنف، والعنف في شكل الانتقام من الاخر. سئل احد الوجهاء الخرطوميين عن سر صحبته لامرأة قبيحة، ذميمة، بائسة، لئيمة، فقال إنه "يجد لذة بالتأمل في اسمها وليس التملي في …ها." هذه لغة دارجيه ذميمة لكنها عبرت عن نفسية صاحبها بصدق:الغزوة ثم النزوة. لعلك تذكر تعطش جند الريف لبنات ام درامين (يشمل ذلك ام درمان والخرطوم)فور اتفاقيتي نيفاشا وابوجا، والذين لم تألوبعض الجهات جهدا في توفير كربات (فتيات معشكبات) لهم، معظمهن كن مصابات بالايدز،وذلك للانتقام منهم بعد ان افرغت كآفة الاتفاقيات من مضمونها السياسي والاخلاقي.
أود أن اعود في هذه السانحة إلى المراحل الخمسة (الاغارة، العبودية، الاباحية، الخطف والافاقة) التي شكلت بصمة الثقافة الجنسية في السودان وأخذها بالتفصيل مع بعض التدليل والتمثيل.
عرف السودان الاغارة منذ القدم، فهناك إغارة القبائل العربية على القبائل النوبية، إغارة القبائل العربية على القبائل الافريقية، إغارة القبائل الافريقية على بعضها البعض (هذه كانت في إطار الغنيمة والشكيمة)، منها الاغتصابات التي حدثت بسبب تعقب السلطان تيراب للسلطان هاشم سلطان المسبعات الذي انتهي به الامر في ام درمان حيث هزم العبدلاب وكسب نحاسهم المشهور. وككل الجيوش مورس الاغتصاب وكسب النساء، إغارة الاتراك على القبائل النيلية (انتقم الدفتردار لصهره اسماعيل باشا فقتل الجند كل من وجدوا واغتصبوا الرجال والنساء)، إغارة جيوش المهدية على الملل الامدرمانية (اذ لم يتورع الجهادية عن قتل ونهب واغتصاب نساء الاخرين مستندين علي منشورات المهدي والتي اباح فيها مال ودماء وعرض كل من لم يؤمن بانه المهدي المنتظر)، إغارة جنود عبدالله التعايشي علي الجعليين (راجع مقالتي "المدينة الاثمة")، إغارة الانقاذيين علي الدارفوريين (راجع تقرير القضاة الخمس)، الي اخره. هذه الإغارات عمقت مفهوم العنف الجنسي وتركت بصمتها الأولى على ذهنية الإنسان السوداني ونفسيته لأنه في تلك الظروف كان يتعامل مع الأنثى على أساس أنها فريسة يجب الانقضاض عليها.
لو كانت هنالك كاميرا سينمائية يومها لصورت لنا مشهد النساء الافريقيات وهن يعرضن في سوق ام درمان. ما إن يأتي السمسار حتى تعتلى إحداهن الدكة، تدُق الدلوقة، وترقص على انغامها الأنثى المجهدة وهي مكبلة بالقيود. كل ذلك لا يعفيها من التمايل (والتتني) الذي يثير غرائز المناقصين، الذين يرون كل شيء إلا ما حجبه الرهط، فيهرعون لبذل المال الذي يناسب فخامة ما عرض عليهم من بضاعة.
يصحب التاجر المرأة (الخادم) إلى المنزل، فالمحظوظة من تصادف في تلك الليلة عرمة تكاد تطيح برأس تومة صاحبها، فيجامعها عله يلد منها تاجراً يصبح من بعد "سرا للتجار". والتعيسة من لم تستطع التحايل علي سيدها فتبقي علي نزوته الاولي او تزيدها استعارا في الطريق من ساحة المشتري الي باحة المنزل. حتي اذا ما بلغ الحوش زهد فيها بل اغفل عنها عمدا كي يجد الصبيان فيها مجالا للاستكشاف.
قبل قرن من الزمان اشتكي رجال الدين الي الحاكم العام تواجد النساء (الخدم) وتعرضهن للمارة تارة ايحاءا وتارة باللفظ:
سموني حركة ام حريكة ابوي اداني ليك …
طلبتك ب الله يا ود امي تديني . . كة
تري هل اختلف الامر اليوم؟ لم يختلف البتة، بل ازداد الامر سوءا اذ لم يعد التحرش في الشوارع مختصرا علي "الخديم" او كما يحلو للسادة ان يسموهم (تقول الاحصائيات ان 60% من سكان العاصمة كانوا يوما من العبيد!).
عندما اسمع عن قصة تاجر هذه الأيام له قوادة تأتي له كل ستة شهور بشابة في سن ال 18 عاما ليعقد عليها عقدا يناسب شرعة المسيار، فأنا اربط هذا الأمر مباشرة بالخلفية التاريخية أعلاه، وأقول لربما تركت تلك الحادثة بصمتها في جينات هذه الشقي. هل يختلف هذا عن حال السبعيني الذي يستغل حوجة المراهقات فيذهب بهن الي وكر اعد لقضاء الوطر؟
تعيسة تلكم "الخادم" التي لم تصادف هوى في نفس سيدها ولم يمن عليها الخالق بجمال يخلب خلد بنيه، إذ أنها لا محالة ستكون من نصيب احد العبيد المقربين. يحدث تماهيا لا محالة بين العبودية الاجتماعية وتلكم الاقتصادية في حال انجب منها السيد وطلقها ام سيَبها، لأن ابن التاجر يتداخل مع أخواله فيحس بالتفوق الاجتماعي نهاراً وبالخسة ليلا. وقد يكون هذا سببا لعقدة كآمنة لا يداويها تعليم أو تدين.
هذه امرأة
تعشق الحر، لكن
هل تفئ الي العبد في نومها؟
(تاريخ يتمزق في جسد امرأة، ادونيس، ص: 76)
هناك نوعا أخر من أنواع العبودية قل ما يتحدث عنه الناس، الا وهو العبودية الدينية. يهمس الناس في نسب احد الوزراء النابهين فيقولون ان زعيما دينيا كان في زيارة تفقدية لإحدى المناطق فكان من كرم احد الرعية ان تنازل له عن زوجته لتحل عليها وعلى ذريتها البركة. وعندما تنظر اليوم إلى احفاد ذاك الزعيم وتراقب تصرفاتهم، تعلم يقينا بأن الإنسان مهما اجتهد لا يمكنه ان يفلت تأثيرات الموروث الجيني. إذ أنهم علي سنة جدهم (الافَاك) الكبير ما زالوا رغم التطور الانساني لا يرون حرمة لبشر إنما ينظرون الي الكل كساحة يجوز اجتياحها.
حمَل ابن احدهم إحدى التابعات الجميلات، فجيء بإحدى الاتباع لتزويجه المسكينة ليدرأ عنهم الفضيحة (وليس عنها فهي مجرد رقيق في نظرهم)، وذلك بإشراف إحدى السيدات اللائي يشار اليهن بالإسهام في الحركة النسوية. "يا حليل ام درمان زمن بابكر الخناق" (الرواية الامدرمانية تقول انه واحدا من الرقيق الذين كان اشراف ام درمان يكلفونه بخنق من لم ينستر حالها فحملت بالحرام)، فات الزمن الذي كان يتولي فيه الرقيق مثل هذه المهام. ابعد ذلك يتعجب السودانيون عن محنتهم واسباب غضب ربهم عليهم، بل ويزعمون ان الانقاذيين هم سبب محنتهم؟ هم جزء اصيل منها، بيد انهم لم يفعلوا اكثر من كسرهم لبيضة النعام التي كان بداخلها مخلوق مشوه. لو انهم صبروا لخرج اليهم ذلك الطفل الخلاقة، لكن بأوانه.
تعارف الناس على أن العاهرة هي امرأة، لكنها قد تكون رجلاً وسيما ينتمي إلى شريحة اجتماعية راقية، نذر لنفسه لتقديم خدمات إنسانية جليلة لنساء من علية القوم. أوت إحداهن إلى احد هذه الاوكار فوجدت فيها عاهر اخلص اليها واجاد، لكنها سرعان ما شكت من كثرة طلباته المتزايدة التي لم يفي بها حتى بيعها لبعض عقودها الذهبية فقالت لصاحباتها "بيعني دهبي يا بنات امي!" الأمر الذي لم تدركه هذه الجدة (الحبوبة) حتى لحظة فراقها لهذا المتعطل أنه يمتهن هذه المهنة حينا من الدهر ليعول بها عياله، لا ليمتع بها جوارحه. أنه يمارس الجنس احترافيا وليس شبقيا.
إن هذه المترفة تتمتع بحرية مدنية لا تختلف عن حرية العزبة في الريف، إلا من حيث التنوع المكاني في الخلوة، بل هي تمارس دعارة مقننة لا تختلف عن تلك التي مارستها المومسات في "سبع بيوت" إلا من حيث التقنين المهني أي الرخصة والفحص الدوري.
يتبادل الرجال اراء هي بمثابة مذكرة أو مدونة تتضمن الهوايات الجنسية لهذه المرأة او تلك، وكل يمني نفسه بمغامرة قد تجعله الأول في فتح احدى مغاراتها العديدة. هذا الاعداد لا يختلف عن اصطفاف الرجال في "الزقاق" لدخول إحدى "البيوت"، إلا من حيث الفارق الزماني. إذ قد ينالها احدهم اليوم وينالها الاخر بعد سبع اعوام، كل قد اعد عدته للاقتحام. هل هذه نزوة ام غزوة ام الاثنان معا؟
واقع الامر ان الخرطوم (وكافة المدن الرئيسية في السودان) انتقلت من المشاعية الي الطهرانية ومن الطهرانية الي المشاعية وبالعكس وتقلبت وغلبت في شأنها حتي استقرت علي مرحلة بين المرحلتين: لا هي بالطاهرة ولا بالعاهرة.
كل لي عم هو بمثابة الصديق الملامتي الذي لم يؤثر فجورة على نبله، بل هو الانبل في كل صحبتي، خاصة من عشيرتي. قال لي أنهم دخلوا ذات يوم الزقاق وازمعوا على قفله ليلة خم الرماد. فلما افاقوا من سكرتهم خرجوا إلى الشارع وقد اصابهم الملل فلم ينتبهوا إلا لزجرة احدهم إذ قال لهم المارة "يا ناس اتقوا الله، مولعين سجايركم في نهار رمضان!"
قالوا له : رمضان دخل !؟
قالت المارة : الكترااااابة، الليلة 17 رمضان !!
وإن هي عجزت عن تحقيق استنارة تكون بمثابة الوسيلة لإحداث بعث روحي واخلاقي وفكري حقيقي، فليت الانظمة الايدولوجية تركت السودانيين في خمهم للرماد فلم نكن نسمع حينها بإمام جامع خدَّر حماته التي جاءت لنفاس اختها فوقع بها، لم نكن نسمع بشيخ لاط تلميذه او جار تحيل فرصة ذهاب جاره الي الزرع لعيوث فسادا في حرمه. لم نكن برآء يوما لكن تعدينا لم يكن يخرج عن دائرة الفطرة. يتكدر المرء متما نازع الفطرة لكن استمراء النزوة من شأنه ان يحدث اختلالا في توازن خليته الصغرى (الاسرة) كما لا يحدث شرخا في سيمفونية الخلية الكبرى (المجتمع).
لم يكن السودانيون في حوجة إلى التجريم (Shame) قدر حوجتهم إلى المعافاة (Blame). المجرم لا تصبه معاناة من جرمه، أما المنيب فلا يكاد يفيق إلا وقد غفر له (كتب علي نفسه الرحمة، انه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده واصلح فأنه غفور رحيم. وكذلك نفصل الآيات ولستبين سبيل المجرمين)((الانعام، 54،55)). قال احد المتصوفة رادا علي احد الوشاة الذين شكوا له تسكع ابنه في الآنادي (حانات الخمر)، "الم ينبأ بأنا قد برئنا من ذلك في الازل؟" مفاد قوله (رضي) أن الروح لا يعلق بها ما اصاب الجسد من خطل، شريطة ان يكون صاحبها موحدا قدم الي ربه لا يشرك به شيئا.
ختاما، ليس الأشكال في اكتظاظ مجتمع من المجتمعات بهذه النماذج البشرية او تلك مع اختلاف ميولاتها الفطرية، إنما في مكابرة هذا المجتمع وادعائه طهرانية تجعل من الصعب علي المتنكبين الطريق الرجوع الي جادته. ومن رجع فلا يرجع متسقا مع ذاته إنما ممتثلا لأوامر الجماعة أو مزايدا عليها في الاستقامة (والجماعة هنا جماعة تنتمي الي رقعة محددة تريد أن تفرض مشروعا وهميا بسبل جزافية علي سائر أنحاء البلاد التي لم تسلك مسلكا إباحيا إنما ارادت أن تعيش حياة طبيعية)، قد تأخذ هذه المزايدة شكلا اجتماعيا فينتمي الي جماعة تكفيرية أو تتخذ شكلا سياسيا فينتمي الي مجموعة أيديولوجية تدعي تطبيق الشريعة الإسلامية. وهنا تكمن العلة ويحصل التشوه ليس لأن المتشدق ينطلق من رؤية غير واقعية تنافي الطبيعة البشرية او سيرورة التاريخ بل لأنه اتخذ شعارا كبيرا ليداري به جرحا صغيرا كان يمكن التداوي منه بالإنعتاق من التدين بمعناه الفقهي الطهراني الي التدين بمعناه الأخلاقي الإنسانوي. الأول يجعلك فظا غليظ القلب ومعياريا في حكمك علي الاخرين والثاني يجعلك متعاطفا بل ملتمسا العذر للناس ومتفهما لنزاواتهم وسقطاتهم.
ليس كل من تصلف او تشنج في المناداة بمبدأ كان له عاهة اخلاقية جبرت ماضيه اوعلة اجتماعية طالت ذاته او ذويه، فاولئك فعلوا ما فعلوا متصالحين مع انفسهم مستنظرين رحمة ربهم، بيد ان ابنائهم او ذويهم قد اتخذوا قرارات اضرت بشان المواطن والمواطنين؛ قرارات مصيرية اتخذوها لتجاوز محن شخصية (وذلك بعد تخطيهم للمؤسسية). فلا يمكن أن يذهب مسؤول في أي من بلاد الدنيا لضمان قواد محترف وهو لابس الزي الرسمي، وهو ذات الضابط الذي أعدم مواطنين في الحزام الأخضر ودفنهم وهم إحياء لمجرد اشتباهه في انتمائهم الي غرب السودان (استشهد اولئك بل دفنوا احياء فيما ظل هو يعاني لاسكات اصوات ظلت تصرخ برحة من الدهر بداخله)؛ لا يمكن أن يجترئ ضابط أن يعدم ضباط من عيون القبائل السودانية ويرمهم في حفرة كالكلاب ثم يرجع لينام في بيته غير مؤنبا علي فعلته كالعقاب (الصقر)؛ لا يمكن أن يترك المجال لصحفي غير محترف أن يبث الفتنة في بلد حتي يفصل ثلثه دون أن يتسأل الناس عن علته؛ وأساس نقمته من المجتمع. اما آن لنا ان نستكشف علاقة السلطة بالجنس او ملحقاته، هل تختلف بيوت الظار في ذلك عن بيوت غير الاحرار؟ لا أسعي لتفسير التاريخ جنسيا لكنني أود أن أقول أن المكون الثقافي يعتبر مدخلا أساسيا لحل الاشكالات السياسية، والا فالمزيد من التستر، التخبط والدمار.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى