محمد جمال طحّان - عندما تكون كاتباً

لو كنت ضابطاً، ماكان ليستطيع أن يفعل مافعل. بل كان سيحاول التودّد إليّ، ومن المؤكد أنه سينحني لـ… - عفواً - من أجل أن يحصل على رضائي لأخفّف عنه عبء العمل، أو لأمنحه إجازة يزور فيها أسرته… بل ماكنت لأسمح له أن يسكن في الطابق الذي يعلو طابقي… لأنه جندي وأنا ضابط.
ولكنني لست ضابطاً، وهو ليس جندياً عندي، ولهذا فعل مافعل.
عندما كنت في الصف العاشر، شرح لنا مدرب الدفاع المدني أهمية أن يكون المرء عسكرياً، فالمزايا التي يحصل عليها كثيرة… يأخذ راتباً جيداً… يحترمه الناس.. ويتجاوز المرور في الازدحام. في الفرن يأخذ خبزه بسرعة ويمضي… وفي وسائط النقل يقدّم له الناس أدوارهم .. الشرطة المدنية لاعلاقة لها معه . وكنت أعرف أيضاً إن بإمكان العسكري أن يتخطى شارة المرور من غير أن يجرؤ شرطي المرور على مخالفته .. الناس لايحترمونه فقط، بل يهابونه أيضاً .. وياويل من يدوس له على طرف .
حين سألت مركز التطوّع قالوا: تأخذ راتباً مقداره أربعمائة ليرة كاملة، وتصبح رقيباً بعد ستة أشهر.. ولك مؤسسة خاصة من أجل التموين والدخان .. بأسعار مخفّضة .
قلت في نفسي: هذه فرصة جيدة .. أتخلّص من الدراسة المملّة ومن سيطرة والدي، ويمكنني فوراً أن أتزوج الفتاة التي أحب .
حين سألت والدي عن رأيه بعزمي على التطوع، قال: اصطفل.
وكنت على وشك أن (أصطفل) لولا أنني - بعد أيام قليلة - رأيت بأم عيني ضابط الفتوة ينهال بالضرب على تلميذ، لمجرّد أنه يرتدي قميصاً أحمر تحت بزّة الفتوة… كان يضربه على وجهه بكلتا يديه وبعنف شديد.
لذلك كرهت أن يكون المرء ضابطاً … وتراجعت عن قراري.
ستقولون أني غبي… لاتقولوا ذلك… أعرف أنني مجرد رقيب قادم… أو مشروع رقيب ولست ضابطاً.. أعرف ذلك .. لم أنسَ أنني سأصبح رقيباً إذا تطوّعت .. ولكنني - لاشك - سأدرس لآخذ الثانوية ومن ثم أقدّم طلباً كي أتحوّل إلى سريّة الضباط… الوضع يصير أسهل حين يكون المرء طالباً يأخذ أربعمائة ليرة كل شهر… يدخّن بسعر مخفّض ويتزوج من يحب.
ولكنّني - على كل حال - لم أتطوّع .. ولم أغدُ لا رقيباً ولا ضابطاً، والمارديني لم يصبح عسكريّـاً عندي.. ولهذا تجرّأ جاري صلّوح المدهّن وسكن الطابق الذي يعلو طابقي.. ثم تمادى في جرأته وفعل مافعل.
لو كنت رئيساً للبلدية، كان سيقدّم الشكوى ضدّي وستُرفع - بالنهاية - إليّ، فأمزّق شكواه أو - عفواً - أمسح بها …
ستقولون - مرة أخرى - إنني غبي.. نعم .. في هذه أنتم محقّون .. لو كنت رئيساً للبلدية ، ماكنت لأسكن هنا … ثم ماكنت لأنصب عريشة فوق شرفتي المكشوفة .. لأنني - كما تظنون تماماً - كنت منحت بعض الاستثناءات .. وتغاضيت عن بعض التجاوزات.
وسيشرّف أي متعهّد أو تاجر بناء أن يقدّم لي أرضاً في المكان الذي أحبّ .. ومن خلال الدخل الإضافي الذي يتمتع به رئيس البلدية في (هيروس) يستطيع خلال أسبوع أن يبني أفضل (فيللا) في منطقة (طسوا قرش)… ولكنني لست رئيساً للبلدية، ولذلك فعل مافعل.
طبعاً عنده أموال كثيرة جاء بها من ماردين - مسقط رأسه - من خلال إتجاره بالـ… والعياذ بالله. بدر جزءاً تافهاً منها ليهدم العريشة فوق رأسي ورأس أجدادي الذين تمتد سلسلتهم إلى (سلدنا) حيث قدموا مفاتيحها صاغرين وولّوا الأدبار وهم يحمدون الله أن أمراءها لم يطالبوهم بالإيجار عن الفترة التي قضوها هناك.
لهذا هدم شجرة العائلة حين أزال العريشة واستراح. والذي ساعده على ذلك هو طبيعة عملي. فالكاتب صار ممسحة للجميع… الناس يطالبونه : أنت متعلّم .. فهمان .. تستطيع أن تعبّر بأسلوب لبق مقنع .. قل للحكومة إن الرواتب لاتكفي .. وأن الموظف يعمل ليل نهار حتى (ينتعل سلسفيل أبيه) ثم تقدّم له الحكومة راتباً شهرياً لايكفيه (أسبوع).. المجاري تصعد حتى الطابق الثاني في أكثر الأحيان، لأنها لم تصمَّم بشكل يراعي الكثافة السكانية والتوسّع العمراني .. الناس غرقوا بالرشاوي .. (والعترة) على المسكين - المعلّم وأمثاله الذين ليس لديهم باب يرتشون منه، ومع ذلك سُدّت عليهم منافذ التعليم الخاص والدروس الخاصّة والدورات.
نعم - والله - مالكم عليّ يمين - قال لي صحفي يعمل في جريدة (ريهامج) الرسميّة :
ياأخي (طفرت) .. مالك عليّ يمين .. والله لو استطعت أن أرتشي أو أسرق لما قصّرت .. ولكنَّ الأبواب مسدودة بوجهي .. منذ أكثر من عشرين سنة أعمل في هذه الصحيفة .. قلبي بكفّي من أي خطأ قد يحدث .. ومع ذلك … راتبي .. أخجل من شرح ظروفي …
وهكذا، كلّما قابلت أشخاصاً من شرائح مختلفة … يتذمّرون … ولأنّني لاأجرؤ على كتابة شيء مما أسمع .. أكتفي بأن أشاركهم أحزانهم ..
نعم .. لاتسخروا مني، … ماتفكّرون به صحيح وأعرفه تماماً : حتى لو تجرّأت وكتبت.. لن تجرؤ أي صحيفة أو ناشر على إذاعة ماأكتبه … الأعذار - تعرفونها طبعاً - لقمة العيش والحرص على استمرار مورد الرزق فما فائدة الكلام.
صحيح مافائدة الكلام .. لأنّني - من جهة أخرى - مطالَب من الحكومة … لا… لا… ليس من الحكومة بالتحديد .. إنّني مطالَب من أي شخص أقابله .. ليس وزيراً أو مديراً بطبيعة الحال .. ولكن أي قارئ في دار نشر، أو مسؤول عن أي صفحة من الجريدة ، أو أي برنامج إذاعي .. أو ماشابه..
أي واحد منهم أكون مسؤولاً أمامه ويطالبني بشيء من العتب الممزوج بالتعنيف : ياأخي أنت فهمان … عليك توعية الناس .. هل نستطيع تخريب عقول الأجيال وإفساد تربيتهم من خلال السماح بالدروس الخصوصية التي غدت تجارة .. العلم يجب أن يُحترم كي تتقدّم بلادنا … هل يمكن أن نرفع الرواتب ومواردنا محدودة وما زلنا نواجه نظاماً عالمياً جديداً غازياً ..؟.. ثم مافائدة رفع الرواتب إذا كان سيتلو ذلك ارتفاع في الأسعار ممّا يؤدّي إلى زيادة التضخّم ..؟ إن التحمّل واجب على كل مواطن في الوقت الراهن …
وهكذا أمسيت - بوصفي كاتباً - أمسيت ممسحة للجهتين : الناس يحملونني مسؤوليّة شقائهم، ومن يعدّون أنفسهم مسؤولين في الحكومة يحمّلونني مسؤوليّة تبرير تجويع الناس.
ولأنّني مطالَب من الجهتين، تهملني الجهتان معاً : الناس يظنون أنّني بجرّة قلم أستطيع إجبار الحكومة على تغيير سياستها .
والحكومة تريدني أنموذجاً في التحمّل، ويجب أن أكون مثلاً للآخرين في الصبر على المصائب، وإيكال أمري لله في الملمّات، والخنوع إلى ماتؤول إليه أحوالي بوصفه قضاءً وقدراً، وبالطبع لايستطيع أحد الادّعاء بأنه قادر على ردّ القضاء.
ولهذا لم يتدخّل أحد حين هدّ الدهّان القادم من ماردين عريشتي فوق رأسي…
عفواً .. عفواً … تدخّل الجيران من خلال تشوّقهم إلى ماسيحدث وترقّبهم له : … الكاتب المرموق لابدّ أن تسانده الحكومة التي لاتردّ له طلباً .. ولهذا ستكون إعادة العريشة بداية مؤشّرات (خاطره) عند الحكومة.
والحكومة تدخّلت أيضاً .. نعم .. لقد استجابت إلى شكوى جاري فوراً وأرسلت كتيبة لهدم العريشة مغتنمة فرصة ممكنة لتطبيق القانون، ولمنحي شرف أن أكون مثالاً للآخرين في الخضوع لمواده التي دُوّنت منذّ ستين عاماً ولم تُتَح الفرصة لتطبيقه حتى الآن…
نعم .. الآن فرصة سانحة … المارديني دعم البلدية بدخل إضافي لبعض موظفيها، ومنحها مناسبة كي تخرج من صمتها الرهيب وتجد عملاً لموظفين يتقاضون رواتبهم منذ عقود ولا شغل لهم سوى التوقيع على جداول الدوام والانصراف.
وأنا لست ضابطاً ولا رئيساً للبلدية .. إنّني كاتب .. والكاتب رسول عليه أن يحمل خطايا الآخرين دون تذمّر أو تمرّد … كما أنّه قوّال .. لايستطيع أن يدعم البلدية .. ولا خوف منه ..
ولو أنه كان مسنوداً أو يده تطول لما وصلت الشكوى إلى المسؤول عن شجرة البلح في هيروس بعد أن غدت ملفّـاً عليه آلاف التوقيعات المرصوصة في أوراق كثيرة لايستطيع أن يحملها حمار.
لاشك أنّكم تتساءلون الآن عن سرّ غبائي الذي منحني طاقة على إخباركم بكل هذه القصّة المزعجة..
لا… لست غبياً … أخبرتكم كل هذه القصّة كي أقنعكم بمطلبي .. كل ماأرجوه منكم أن تقاوموا فكرة إقامة نصب تذكاري لي بعد أن أموت …
لماذا ؟… لأنّني لاأريد أن أغدو مكاناً أميناً يلجأ إليه من يريد أن يبول …
لست ضابطاً .. ولست رئيساً للبلديّة … ولكنّني - أيضاً - لست مبولة للآخرين .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى