رجاء النقاش - تلميذ السيدة زينب..

في الشهور الأخيرة من حياة يحيي حقي‏1905‏ ـ‏1992‏ اشتد المرض علي الأديب الكبير‏,‏ وأصدر رئيس الوزراء في ذلك الوقت الدكتور عاطف صدقي ـ رحمه الله ـ قرارا بعلاجه علي نفقة الدولة‏,‏ ودخل يحيي حقي المستشفي بناء علي هذا القرار‏,‏ وبعد أيام قليلة وقع زلزال مصر الشهير في‏12‏ أكتوبر سنة‏1992,‏ فأصر يحيي حقي علي الخروج من المستشفي وقال‏:‏ إن السرير الذي أشغله أولي به أحد المصابين في الزلزال‏,‏ ولم تطل حياة يحيي حقي بعد ذلك كثيرا‏,‏ فقد عاد إلي المستشفي وتوفي في يوم‏9‏ ديسمبر‏1992.‏
لم يكن موقف يحيي حقي عندما أصر علي ترك سريره في المستشفي لأحد المصابين في الزلزال نوعا من التمثيل لإثارة العطف أو لفت الأنظار‏,‏ بل كان موقفا حقيقيا صادقا من جانب أديب انسان عاش حياته كلها ملتزما بالصدق والأمانة من البداية إلي النهاية‏.‏
ولد يحيي حقي الذي نحتفل بذكري ميلاده المئوية هذا العام في حارة الميضة بحي السيدة زينب في‏7‏ يناير سنة‏1905,‏ وقد سافر يحيي حقي بعد إتمام تعليمه في كلية الحقوق سنة‏1925‏ إلي كثير من بلدان العالم‏,‏ وتعلم لغات عديدة‏,‏ وعرف العواصم الكبري وعلي رأسها باريس وروما‏,‏ وتزوج من السيدة جان الفرنسية‏,‏ بعد أن ماتت زوجته الأولي التي أنجبت له ابنته الوحيدة السيدة نهي ومع هذه التجارب كلها ظل حي السيدة زينب في قلبه علي الدوام‏,‏ لاينساه ولايبتعد عنه روحيا ولو بخطوة واحدة‏.‏ ويكاد يحيي حقي يقول لنا في كل ما يكتبه إن هذا الحي الشعبي العريق هو الجامعة التي تعلم فيها أحسن العلم‏,‏ وأحسن الأدب‏,‏ وأحسن الأخلاق‏,‏
وأحسن الألفاظ والعبارات‏,‏ ولاينافس يحيي حقي في عشق المكان إلا عبقري آخر هو نجيب محفوظ الذي عشق حي الجمالية بنفس الدرجة التي عشق بها يحيي حقي حي السيدة زينب‏,‏ ويكفي أن نلقي نظرة سريعة علي عناوين كتب يحيي حقي حتي نعرف أن قاموسه الأدبي مستمد من هذا الحي‏,‏ أو من هذه الجامعة الشعبية الكبيرة‏,‏ فمن عناوين كتب يحيي حقي نقرأ أم العواجز وهي لقب يطلقه الناس علي السيدة زينب نفسها‏,‏ وهناك ايضا قنديل أم هاشم وأم هاشم هو لقب آخر يطلقه الناس علي السيدة زينب‏,‏ ثم نقرأ من عناوين يحيي حقي الأخري خليها علي الله ومن فيض الكريم وعطر الأحباب ومن باب العشم وكناسة الدكان وكل هذه العناوين وثيقة الصلة بلغة حي السيدة زينب‏,‏ وهي لغة التواضع والتسامح‏,‏ والفرح بالحياة‏,‏ والتأدب في مخاطبة الناس‏,‏ وفتح الباب بالمحبة والمشاعر الطيبة للتعامل الكريم مع الآخرين‏.‏
إن تأثير أجواء السيدة زينب واضح جدا علي يحيي حقي وأدبه‏,‏ وشخصية يحيي حقي نفسها منعكسة تماما علي لغته الأدبية‏,‏ أي علي أسلوبه وهنا نجد تطبيقا حيا صادقا للقول الفرنسي المشهور بأن الأسلوب هو الرجل‏,‏ ونستطيع أن نقول بناء علي هذه القاعدة الصحيحة إن لغة يحيي حقي‏,‏ هي يحيي حقي نفسه‏,‏ وفي هذه اللغة نجد نوعا من الخشوع والتقوي والتدين‏,‏ وهو شعور نخرج به دائما من كتابات يحيي حقي‏,‏ ولا أظن أبدا أن الذين يحبون هذه الكتابات يخطئون حين يشعرون بأنهم يقرأون كتابة فيها روح دينية صوفية‏,‏ بالاضافة إلي ذلك فنحن نجد أننا مع يحيي حقي أمام لغة دقيقة ليس فيها طرطشة‏,‏ ولاثرثرة‏,‏ وليس فيها ذيول يجرها كاتبها وراءه دون أي ضرورة فكرية أو لغوية‏,‏ ومن أقوال يحيي حقي عن نفسه أنه دائما يلتزم بدقة اختيار اللفظ ووضعه في مكانه ثم يضيف إلي ذلك قوله إنني عاشق متيم باللغة العربية فهي من أغني لغات العالم‏,‏ وقواعدها بسيطة‏,‏ ومن الممكن معرفتها بسهولة‏.‏
هذا هو إحساس يحيي حقي باللغة العربية التي يعبر بها عن أفكاره ومشاعره‏,‏ فهو من ناحية يحرص علي الدقة في اختيار ألفاظه‏,‏ بحيث تبدو اللغة في كتابته لغة هندسية ومنضبطة‏,‏ ومن ناحية أخري فإن عشقه للغة العربية يجعله قادرا علي اكتشاف مافي هذه اللغة من جمال‏,‏ لانك لاتستطيع أبدا اكتشاف جمال شيء إلا إذا أحببته باخلاص وصدق واستمتاع‏.‏
وقد اندفع يحيي حقي من خلال حبه للغة العربية إلي قراءة الأصول الأدبية الأساسية في هذه اللغة‏,‏ فقرأ روائع الشعر العربي في عصوره المختلفة‏,‏ من الجاهلية إلي العصر الحديث‏,‏ وعندما نقول انه قرأ هذا التراث الشعري‏,‏ فينبغي أن نعرف انه قرأه قراءة متأآنية دقيقة متذوقة‏,‏ وقرأه بفهم عميق واحساس صادق أصيل‏,‏ ولم يقرأ هذا الشعر قراءة سريعة خاطفة‏,‏ وهذه نقطة ينبغي أن تلتفت إليها أنظار الأجيال الأدبية الجديدة‏,‏ حيث يظن البعض أن القصة لا علاقة لها بالشعر‏,‏ وهذا خطأ كبير‏,‏ يحذرنا منه يحيي حقي‏,‏
فهذا الأديب الكبير لم يصل إلي لغته النقية المكثفة الدقيقة إلا من خلال جهد واسع في قراءة التراث الشعري العربي‏,‏ وجهد آخر في استيعابه ودراسته وتذوقه‏,‏ بل لقد وضع يحيي حقي أمامنا معني بالغ الأهمية من خلال حبه للغة العربية وتراثها الشعري‏,‏ وقد عبر عن هذا المعني بقوله إنني أشترط أن يكون في أي قصة نفس شعري‏,‏ وتلك فكرة دقيقة ومهمة‏,‏ فالقصة إذا خلت من روح الشعر فقدت الكثير من أهميتها وقدرتها علي التأثير العميق‏,‏ وهذا مانحسه بوضوح في أدب يحيي حقي‏,‏ فإلي جانب إحساسه الصوفي الديني بالناس والاشياء‏,‏ وأفكاره العميقة في النظر إلي ال حياة والمجتمع‏,‏ فإننا نحس بروح الشعر وهي ترفرف علي أدب يحيي حقي كله فترفعه إلي مستوي فني وانساني بالغ القيمة والمتعة والجمال‏,‏ وتوفر له نوعا من الموسيقي الرقيقة الخفية التي لايخطئها القلب علي الإطلاق‏.‏
وفي أدب يحيي حقي نلتقي بظاهرة أخري شديدة التميز‏,‏ فهو أدب يخلو تماما من الصراخ والخطابة والوعظ والإرشاد والمناقشات الطويلة المملة‏,‏ وهو أدب شديد التركيز والكثافة دون أن يقوده ذلك إلي أي نوع من الغموض المرفوض‏,‏ وفي عبارة بديعة ليحيي حقي نسمعه يقول‏:‏ حين تكتب أغلق فمك‏,‏ وإياك أن تفتحه وهذه عبارة رائعة تستحق أن يضعها كل كاتب حقيقي صادق أمام عينيه‏,‏ وأن يقرأها كل يوم‏,‏ مرة واحدة علي الأقل‏,‏ فالكتابة المهمة غير الصاخبة والبعيدة عن الضوضاء والخالية من الزخارف الشكلية هي التي تصنع الناس وتؤثر في المجتمعات وتقود الحياة إلي الأمام وفي عبارة جميلة أخري عن الأدب المثالي في نظره يقول يحيي حقي‏:‏ إنني حين أقرأ هذا الأدب‏,‏ لا أشعر أنني أقرأ‏.‏
وهكذا يقدم لنا يحيي حقي مقياسا دقيقا للأدب الجميل المؤثر‏,‏ فقمة النجاح الأدبي تكون عندما يشعر قاريء الأدب انه لا يعاني من أي إرهاق روحي أو ذهني‏,‏ وأنه يقرأ كلاما قريبا إلي القلب‏,‏ وليس أدبا فضفاضا زاعقا مليئا بالضجيج والصخب‏,‏ فالأدب الجميل المؤثر هو الذي نقرؤه ونحس كأننا لانقرأ من فرط السهولة واليسر والتجاوب بيننا وبين مانقرؤه‏,‏ وليس ذلك لأن هذا الأدب سطحي يتناول الحياة والتجارب الانسانية بخفة وسهولة‏,‏ بل علي العكس تماما‏,‏ لأنه يكون أدبا صادقا يتسلل إلي النفوس دون تعقيد أو افتعال‏.‏
تلك بعض اللمحات من حياة يحيي حقي الخصبة التي تستحق أن نتوقف أمامها طويلا بمناسبة ذكري ميلاده المئوية‏,‏ والهدف من ذلك هو تجديد الاهتمام به‏,‏ والإشارة بوضوح إلي أن الذين يريدون أن يدخلوا عالما من الافكار الرائعة والفن الجميل ويريدون أن يلتقوا بشخصية انسانية ساحرة في حديثها إلينا عن طريق القصص أو المقالات من يريدون شيئا من ذلك‏,‏ فعليهم بالعودة إلي يحيي حقي وكتاباته الممتعة التي تفيض بالفكر والحكمة والجمال والتنوع غير المحدود فقد كان يحيي حقي إلي جانب موهبته الأدبية الرائعة صاحب ثقافة واسعة جدا‏,‏ كما أنه كان من أصحاب التجارب الكبري التي اتاحت له أن يعرف الكثير عن الدنيا والناس‏.‏ كل ذلك جعل منه شخصية فريدة‏,‏ وقد انعكست مواهبه وتجاربه وثقافته علي كتاباته‏,‏ فأنت مع هذه الكتابات تعيش في عالم ممتع متنوع الفكر والثقافة والتجربة‏.‏
كل ذلك في إطار من طيبة القلب والأمانة والدقة‏,‏ مع الإحساس الدائم بأن يحيي حقي يكتب كأنه يصلي‏.‏
ولاعجب في ذلك‏,‏ فهو تلميذ السيدة زينب‏,‏ وقد بقي تلميذا لها حتي بعد أن دار ولف في أنحاء العالم وعرف أهم لغات الدنيا‏,‏ وقد تعود‏,‏ مهما ابتعد‏,‏ أن يعود من جديد إلي رحاب الست الطاهرة أم هاشم‏,‏ فهناك فتح عينيه علي الحياة‏,‏ وهناك أقام بوجدانه وقلبه وروحه إلي النهاية‏,‏ وهناك استحق أن نقول عنه انه تلميذ السيدة زينب وياليت الذين يقرأون هذا الكلام‏,‏ ممن لهم كلام أن يطلقوا اسم يحيي حقي ولو علي حارة الميضة التي ولد فيها‏,‏ فلاشك أن ذلك سوف يكون خير نبأ تسعد به وتطرب له روح هذا الأديب العظيم‏.‏



.................................
الأهرام 22/5/2005م.




أحدث المراجعات

نص من قامة أدبية يفتخ الأعين على قامة أدبية .فيحيى حقي كان إضافة نوعية في عالم الكتابة و رجاء النقاش كان ناقدا متميزا.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي
أعلى