أمل الكردفاني/ العري - قصة قصيرة

اختفي اختفي اختفي... أيتها الصفحة البيضاء كنهد فارسية.. تزركشي بأغاني راهب طواه نسيان الرب ، كالصبية التي تشاهد أول شعرة في عانتها.. امتلأي بحكايات الإنسان الملقى في أطراف الحس على جرف اليابسة... كعشبة يتيمة..وكصفير الريح المجروحة يعبر أشواك الذات. لا تبقي بيضاء تعتمدين على ذاكرة شاعر أصابه جفاف الينابيع. فالبذرة تنمو حتى لو مات المزارع وتخطفه لا معناه ما دامت تحت الأرض.
يقول...وكفاه مفرودتان تعجبا ، عيناه تبرقان ببياض يسيل عليها مزعوقا بخواء الروح. والشاعر يعرف أن الموت يقف على باب البيت الشعري ومعه الشيطان. يعرف أنهما يتعاركان بالجمود صبرا. الموت ؛ الشيطان ؛ كلاهما يقتحمان غراب جمجمة الشاعر.
رأى قايين غرابا يدفن آخر. كان ذاك الشيطان يعلمه الحرف الأول في لغة الأحياء الأموات. لا تدفن سر خطيئة جهلك حتى لا يعرفها الرب. كالطفل الذي يغمض عينيه كي لا يراه الناس. ما كان ذاك غرابا ؛ قال الشاعر.. ما كان ذاك غراب. كان الشيطان المسكين..يحاول ترميم النقص في الخدعة التي اعتمدت على جهل قايين... كان يقول له أنت مظلوم ولست ظالما لكنك لا تعلم. قايين الغر لا تصدق كل كلام الرب... تعلم كيف تدفن سر أخيك لكي تحمي نفسك.. قايين لا يفهم... يزعق: لا أفهم يا شيطان النحس... إني خائف.. مذعور .. يرد الغراب: لم تفعل شيئا.. أنت الصلصال الأول.. طازجا خرجت من رحم اللا شيء. فكيف تدان؟ يزعق قايين: لكني أشعر بالذنب.. بالغم... يرد الغراب: أيتها اللحمة النيئة... كيف يكون لك طعم وأنت لم توضعي في نار الوعي... أيها الفلاح المكسور بتضاريس الأرض ومناخ السماء.. كيف تعلم أن نواة التمر أقوى منك.. لأنك لست نواة. يرتمي قايين وذراعاه تخفي وجها مضرجا بالدموع الحمراء. إنهض ؛ يقول الغراب ؛ لم تفعل شيئا... ما دمت لم تعرف من قبل سر الروح... كنت تظن أن كل ما على الأرض قد هبط حيا من السماء... كيف تعاقب بقانون لم تعلم فحواه من قبل... أنت بريء يا قايين.. فلا تجعل روحك مهترأة بالوهم... أنظر... هذا غراب آخر مات...ينظر قايين فلا يجد سوى كومة تراب : أين هو؟ يقول الغراب: ألم أقل لك أنك لا زلت طفل غريرا... ألا تعلم أن الموت لا يشاهد فقط... أنفك لم تختبر من قبل رائحة الموت.. قرب أنفك من هذي الكومة.. وتشمم... يقرب أنفه..يتشمم..تنقبض خياشيمه ، يتساءل بدهشة: أو هذي رائحة الموت؟ يهز الغراب منقاره. تجزع عيناه ؛ يصيح وقلبه يكاد يتوقف: ربااااه... إنها اكثر إفزاعا من رؤية الدم...
ينظر الشاعر البائس لورقته تحت ظلال الشمعة ، يتراقص خيط لهب قصير ، فتتحرك هياكل الأشباح على نهد الفارسية. ألن تغتصبوها؟ ألن أشهد جريمة حرب من زمن السبي البابلي؟ لن تشهد شيئا.. ترقص السدم السوداء بشفاه ساخرة. والشاعر يعرف أن الشيطان سيهزمه الموت... فيخاف.....
اختفي .. اختفي.. اختفي أيتها الصفحة البيضاء كنهد فارسية... تزركشي بأغاني راهب طواه نسيان الرب... يتمتم ويداه ضارعتان... يعصر عينيه بخمر خشوع صادق.
لا تنهزم يا شيطان الشعر... لا يهزمك ملاك الموت... أتضرع إليك أن تشعل فتيل حماستك لتقلب خسارتك لكسب... لا أحتمل صفير الريح الجافة القارسة برأسي.. يكسر الموت قرن الشيطان الوحيد فالقرن الآخر لم يتمكن من غزو فروة رأسه... هكذا مكتوب عليه أن يلعنه الضعفاء قبل الأقوياء وهو يضحي لأجلهم... أيها الأطفال: لا تلعونني.. قلوبكم الطازجة لم تعرف كل الخطط السرية .. لم تشعر بفداحة ما ألقيت فيه الأبدان... يا أبناء قايين.. كونوا حواريي.. كونوا أنصاري... لا تقترفوا خطأ الأسلاف... لا تصدقوا كل ما يقال لكم... إني أنا النور... نور الشعراء... نور الفنانين... نور التعساء.. نور الطرق المعتمة الظلماء...
يحدق شاعرنا في كيد النهد الفارسي ، ويعرف من تطاول الزمان فوق شمعته الحيرى.. أن الشيطان انهزم.. فيرمي رأسه في الورقة البيضاء وينتحب بحرقة وأسى حتى الموت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى