مقتطف خيرة جليل - تـــواطُؤٌ مع الكتـــابة.. الليلة 2 من رواية ليالي بلا ابواب ولا نوافذ

راوية الكتومة الخجولة تتمنى أن تحترف الكتابة الأدبية يوما ما . هي تعلم جيدا أن حِرفة الكتابة هي الحرفة التي توفر لها قليلاً من القراء ولا شيء من المال. و لماذا المال يا ترى؟ إن مهنتها توفر لها العيش الكريم، والفن يوفر ليها الأسفار العالمية ، والكتابة النقدية توفر لها لقاء أصدقاء يشاطرونها نفس الهموم الفنية. لكن لا أحد يعرف ما هي مهنتها ولا تريد أن يعلم احد ما هي ؟ إن أرادت أكثر من هذا ستكون جد جشعة بما تعنيه الكلمة من معنى.
هي ليست كفنانات الغرب أو بعض كاتبات الشرق. لا تهتم بالمظاهر ولا المجاملات ولا تعشق الحفلات الصاخبة .. لا تدخن لتبحث عن أفكار هاربة منها في زحمة الحياة ، ولا تشرب نخب كلماتها المعتقة... كل ما تتقنه هو نفث أصباغها على أثواب مجبصة لترسم أحلامها المتمردة بأحرف بلون قزح، لا تكلم أحدًا دون أن تنظر مباشرة في عينيه . تعشق قيادة سيارتها العتيقة بمفردها ولمسافات طويلة على موسيقى هادئة. لكي تسري في جسد الليل البارد رعشة حياة وحتى تحس هي بقدر من الثقة والوداعة والسكينة مثل روح بحّارٍ تجاوزَ خطر العاصفة تمارس هذا الاغتراب الاختياري ، ولا يلزم راوية لذلك إلا كتابا أو حاسوبا ومدفأة . إنها تعرفُ الغربةً وتعرفها منذ الطفولة . هي الحقيقةُ التي توجزها مثل عبارة عابرة بين سحب الحياة والشتاءُ الذي يقف على بابها مثل شيخ محدودب الظهر . هي تدرك انه حين ندمنُ العيشَ بين غرباء الوطن ، تتأصلُ الغربةُ السحيقة في أنفسنا . الغربة بالنسبة لها ليس بالضبط أن تهجر وطنك وأهلك، ولكن حين تعيش بين قوم بالدرب والشارع والمدرسة والعمل لا تجمعك بهم أية علاقة فكرية أو روحية . لا شيء يميزها عن الآخرين إلا أنها بطبعها كائن ليلي سقطت منه تاء التأنيث سهوا . تسرق الثواني من أعمال البيت لتصنع منها دقائق إبداع أدبي لا يرضي إلا غرورها . إنها تدرك جيدا أنه حين يأتي الليل يسلطن الخوف على الكل إلا هي، في الحقيقة ليس الخوف من الظلام ، لكن من المجهول الذي لا نعرفه ويطل علينا من نوافذ لا نراها ، وقد يقتحم خلوتنا من أبواب لم نعرف أنها كانت موجودة من قبل، كلما أوغل هذا الليل في سفره ، تصبحُ راوية أكثر انتباهـًا ويقظة وكائنا يفترس الكتب والأصباغ على حد سواء . هي ليست ممن يخفي كوابيسه تحت الوسادة، ولا من يرعى شؤونَ الملائكة في حديقةِ رأسه، ولكن ممن ينثر القرنفل على الثوب المجبص لينمو ياسمينا بعبق أسوار مدينة عتيقة وبرودة سجن نثن وسخونة رمال حارقة . ربما لأن ذنوبها تبدو أصغر في الليل مقارنة مع سارقي الملايير . لا يهم،السهر يبدد المسافات والأحجام، والأحكام تصبح نسبية والمخيلة مطلقة إلى ما لا نهاية. معادلة رياضية لا يفهمها إلا المجانين من طينة المبدعين والشعراء. إدمان من نوع خاص!. " هكذا نُقهر ولا تقهر أحلامنا، لأنها إبرةٌ دائما تطرِّزُ في النومِ نوافذَ تُفتح بليالي بدون نوافذ ولا ابواب. فخاصرةُ الندى لن تحبل بقطرتين من الماء، وراوية لن تنزع قبعة التحدي لأنها لا ترغب أن تستسلم لتدفن الضوءَ حيـًا. كتاباتها لم تكن إلا غناء فوق حرير سحابة. يقولون أن الكتابات تتشابه في همومها وأسلوبها، وهي تقول:" إن في الحياة قصة واحدة وبسيناريوهات مختلفة، لكنها كلها ترتشف من بقايا حكاياتٍ ورماد أيامٍ مرشوشة بالملح والفلفل الحريف حيث غاب العسل في معظمها حين أصبح الأخر قاضيا أخرسا في أمورنا."
قررت راوية أن لن تكتب قصصا عنها أو عن أي شيء من أي واقع او مجتمع كان ، لكن قررت أن تخطط سطورا بأوراق من مذكرة لأشخاص جمتعتها بهم الحياة صدفة، لكن مزقتها ذات يوم في ارتحالاتها المُتعَبة، من هنا إلى هناك، عبر كل الاتجاهات على سطح الكرة الأرضية ، وصولاً إلى نيويورك أو واشنطن أو أكادير أو أي مكان على سطح الكرة الأرضية... يا لها من مُدنٍ استنزفَ العابرونَ منها الهواءَ قبلَ أن يغادروها! والقصصُ بها كالخمر، تتعتقُ حين تُروَى بلسان الغائب الغاضب والحاضر المتمرد. هي تريد أن تكون هذه السطور كتابا،لكن هذا الكتاب ليست له بداية ولا نهاية وسيظل مفتوحا وقابلا للتراكم، وللطمي، مادام لم يسجن بصفحات ورقية صفراء مضغوطة بمطبعة تافهة مثل عقل مالكها الذي لا ينظر لقيمة المطبوع الإبداعية بقدر ما يفكر في قيمة ما سيجنيه من مبالغ مالية......

خيرة جليل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى