كتاب كامل نـمر سعدي - غبارُ الوردة.. ايقاعات نثريَّة - ( تابع2)

صورةُ الشاعر بينَ الذئبِ والمرأةِ
(تأملاَّت سريعة في كتابةِ الشاعر الفلسطيني يوسف أبو لوز)

أردتُ هنا أن أكملَ ما بدأتهُ في مقالةٍ سابقةٍ عن الشاعر الفلسطينيِّ المقيمِ في دولةِ الإماراتِ العربيةِ يوسف أبو لوز فما زالتْ في نفسي تخيُّلاتْ كثيرة بشأنِ قصيدتهِ الحداثيَّة وطريقةِ كتابتهِ النثريَّة.
بعدَ نشري مقالي السابق طافت بنفسي تأملاَّت سريعة أحببتُ أن أوردها هنا في هذهِ الإطلالة العجلى على عالمِ الشاعرِ المسكونِ بالضجرِ والقلقِ والجمال.
ليسَ من بابِ الصدفةِ أو العبثيَّةِ إذن أن يقولَ الشاعر محمود درويش عن يوسف أبو لوز أنَّهُ مستقبلُ الشعرِ الفلسطيني فقد تلقَّيتُ ردَّاً آخرَ من شاعرٍ مصريٍّ عريق هو عزَّت الطيري يؤكِّدُ أنَّ يوسف أبو لوز بحساسيَّتهِ المفرطةِ وطبعهِ الحادِّ كسيفٍ يمانيٍّ من أروعِ وأبدعِ الشعراءِ العربِ المتطلِّعينَ إلى قصيدةٍ جديدةٍ حداثيَّةٍ بكلِّ ما تحملُ الكلمةُ من معنى.. فقد كانَ يعرفُ درويشُ جيِّداً في أوائل التسعينيَّات أنَّ هذا الشَّاب الأسمرَ المعروقَ المتحدِّرَ من أسرةٍ فلسطينيَّةٍ من ملحِ أرضِ النقبِ والمترعرعَ في شمالِ الأردنِ في بيئةٍ جبلِّيةٍ وعرةٍ.. يملكُ أدواتهُ الفنيَّةَ ولغتهُ الشعريَّةَ الطازجةَ المركبَّةَ والجديدةَ وطبيعتهُ البريَّةَ المتشوِّقةَ إلى هدمِ أطلالِ الرتابةِ والتكرارِ والجمودِ في الذائقةِ العربيَّةِ..والبناءِ المحكمِ لنصٍّ مغايرٍ غائصٍ على المعاني الفريدة يخوِّلُ صاحبهُ الخجولَ الغاضبَ أبداً أن يكونَ أميرَ شعراءِ فلسطينَ الشباب عن جدارة.

أبو لوز شاعرٌ صعبُ المراسِ لا ينقادُ للناسِ بسهولة.. وربمَّا يأتي هذا الطبعُ من طبيعةِ شاعرنا المتقلِّبةِ القلقةِ والشديدةِ الحساسيَّةِ والرهافةِ إلى جانبِ الحسِّ الحادِّ والصراحةِ العجيبةِ في زمنِ المداهناتِ والتملقِّ والرياءِ والمحاباةْ.وأوردُ هنا ما
يقولُ الشاعر ذياب شاهين عن يوسف أبو لوز في تقديمهِ لأمسيةٍ شعريَّةٍ لهُ: "يوسف أبو لوز شاعرٌ خارج الالتزام والأدلجة، وهو نموذج الأديب اللا منتمي، فلا يعمل بوحي من سلطة أو رقيب أو إيديولوجيا. الكتابة لديه تعني الحرية بكل بهائها، ولا يمكن له أن يكون بوقاً لأي كان، وهو يعمل في منطقة لا تنتمي للسرب، يغرد خارجه فروحه عصية على التدجين، ولا تطيع إلا ما ينبثق من داخلها إبداعياً. يجد في نفسه ذلك البطل الذي لن يترجل عن صهوة حصانه أو يغمد سيفه، بل إنه مطمئن على أن الذي سيأتي هو الأجمل والأبهى، كما أن غزارته في الكتابة التي أفنى حياته بها ونذر نفسه لها لن تتوقف، فالشاعر ما انفك مولعا بالحياة وما تنطوي عليه من شعر ونثر وحب وسفر وجنون."

أودُّ أن أشيرَ إلى أن العمودَ النثريَّ الذي يكتبهُ الشاعرُ تحتَ عنوان " رفيف" في صحيفةِ الخليجِ الإماراتيَّة يتميَّزُ بدِّقةٍ عاليةٍ وعشقٍ واضحٍ جليٍّ لهذا النوعِ من النثرِ الذي يتدفَّقُ على الورقِ بكاملِ الحريِّةِ والشفافيَّةِ والموضوعيَّةْ... وعمودُهُ الذي لا يتجاوزُ أربعمائةَ كلمةً يصلُ إلى أعلى حدودِ التكثيفِ اللغوي الإيحائيِّ البليغِ حتىَّ أنَّهُ من خلالِ الكلماتِ القليلةِ هذهِ يوفي الموضوعَ المتناولَ حقَّهُ على أجملِ وجهٍ وأحسنِ صورةٍ.. أكثرُ ما ترهبني ليونةُ الحبرِ في يدِ شاعرنا عندما يكتبُ نثرهُ الحرَّ والمنفلتِ من بوتقةِ التراكيبِ المألوفةِ كطيرٍ سحريٍّ ملوَّنْ..
ومواضيعُ شاعرنا التي يكتبُ عنها كثيرةٌ ومتنوعةٌ منها الأدبيُّ ومنها السياسيُّ ومنها المعيشيُّ الراهنُ.. ومن أجملِ مقالاتهِ ذلكَ المقالُ الذي أسماهُ " في مديحِ الكتابة" ومقالهُ عن الشاعر المصريِّ الراحل أمل دنقلْ في ذكرى سبعينَ عاماً لولادتهِ.. وتلكَ المقالات الكثيرة التي يدافع بها عن شعرِ التفعيلةِ ومن أهمِّها مقالهُ المعنون" هل أنقرضَ شعراءُ التفعيلةِ في مصر".
الشاعرُ يولي النثرَ أهميَّةً خاصَّةً ونجدهُ في روحهِ النثريَّةِ كما في شعرهِ أيضاً محتشداً بالحنينِ ونارهِ الوجوديِّةِ القاتلةِ ومملوءاً بالزخمِ الموسيقيِّ العالي والغضبِ العربيِّ الأبهى.. وروعةُ نثرِ الشعراءِ المطبوعينَ تنطبقُ على العديدِ من الشعراءِ العربِ المتأخرِّين كنـزار قبَّاني وأدونيس ومحمود درويش وعبد اللعزيز المقالح وأنسي الحاج وسميح القاسم وشوقي بزيع وغيرهم وربمَّا استثنينا بدر شاكر السيَّاب من هذهِ القائمةْ على حدِّ تعبير بعض النقَّاد العرب.

عندَ قراءتي لشعرِ يوسف أبو لوز فأكثرُ صورةٍ ترتسمُ في خيالي لهُ وأحسُّها مطابقةً لتجربةِ الشاعرِ ومناسبةً أكثرَ من غيرها لوصفهِ فهيَ صورةُ الشاعرِ بينَ الذئبِ والمرأةِ فكلُّ كيانهُ الشعريِّ يتراوحُ دائماً بينَ هذينِ المخلوقينِ فهما موتيفانِ أساسيَّان صديقانِ ولا يفترقانِ عن بعضهما في أغلبِ ما كتبَ أبو لوز من شعر.. فكلامهُ وروحهُ يعكسانِ في نظري العطشَ الذئبيَّ للشاعرِ إلى جمالِ المرأةِ غيرِ المحدود واللا متناهي.
على الرغمِ من قولهِ :
لستُ ذئباً
ولا من طباعي العواء على الليل ظناً من الحيوانِ
بأن الليالي قطيع
وما جعتُ يوماً
ولا نبتُ صيداً
فمثلي من دون ناب
لستُ ذئباً
ولكن، تقنعتُ وجهاً لذئبٍ
لكي لا تعضُّ حياتي الكلابْ.

يقول الناقد والشاعر الفلسطينيُّ علي الخليلي عن الشاعر يوسف أبو لوز في مقالةٍ جميلةٍ بديعةٍ تناولَ فيها ديوان الشاعر الأهمَّ "ضجر الذئب" : "ولكنني أستطيع أن أمحو مسافة ثلاثة عشر قرناً بين الفرزدق وأبو لوز، بقراءة غير مألوفة لكليهما، وصولاً إلى الذئب الشعري الذي صاغته الـمخيلة العربية بخبرة الدهر، أو أنها تجدد صياغته على الأصح جيلاً بعد جيل، بغير ما صاغته الطبيعة بتلقائية الصيغة منها وسكونها الـموروث، حتى جعلت منه ثباتاً مادياً لا يتحول ولا يتبدل على الأرض.
قد يبدو للوهلة الأولى، أن ذئب الفرزدق هو ذئب الطبيعة، لا اختلاف بينهما، إلا ما شاءه الشاعر من "صحبة" بينهما غير عادية إلى حد الاستحالة، في القصيدة. ولكن التمعن النبيه، يخترق هذه الوهلة، ويعبر إلى ذئب خاص بهذا الشاعر، أراد، من خلال صياغته له، أن يحدثنا عن نفسه، أو عن الإنسان بشكل عام. هل ثمة في هذا الـمعنى (في هذه الصياغة - الصيغة الشعرية)، علاقة متنامية إلى درجة التماهي، بين الإنسان والذئب؟".
ومقالتهُ تلك المنشورةُ في الأيامِ الفلسطينيةِ من أجملِ ما وُصفَ بهِ هذا الشاعرُ الجامحُ كحصانٍ بريٍّ إلى أقصى فضاءِ اللغةْ.

كم نحنُ بحاجةٍ إلى حفَّارينَ في ذاكرتنا الجمَّاليةِ على شاكلةِ هذا الشاعرِ المُصابِ بلعنةِ الحرفْ والمرهونِ لأبدِ النعناعِ... كم نحنُ بحاجةٍ إلى استفزازيين نبوءيين جدد... وإلى شعراءٍ يملأهم جوعُ الذئابِ إلى الحريِّةِ والجمالِ والمعرفةْ .

كانون ثاني 2010

***

أُنوثةُ القصيدةِ لدى الشاعر اللبناني شوقي بزيع

هو شاعر لبنانيٌّ من مواليدِ الجنوبِ في مطلعِ الخمسينيَّات. له حتى الآن أكثر من عشرةَ مجاميعَ شعريةٍ بدأها بعناوين سريعة لوطن مقتول عام 1978 ولا زالَ من ألمعِ الشعراءِ العربِ وأرقِّهم حاسَّةً وأصفاهم شفافيَّةً.
لا أعرفُ في الحقيقةِ بماذا أُشبِّهُ قصائد هذا الشاعر المُتجذِّرِ في أديمِ الأنوثةِ وفي خميرةِ الجمالِ.. أأشبِّهها بلمعانِ أجسادِ النساءِ اللواتي كانَ يتلصَّصُ عليهنَّ طفلاً من وراءِ أوراقِ الأشجارِ التي تشبهُ بريقَ الذهبِ؟؟ أم أأشبِّهها بالأزهارِ البيضاءِ اللوزيَّةِ ؟؟ أم بالأرضِ الجنوبيَّةِ التي عشقها بكلِّ سهولها وجبالها وفتنةِ وديانها وروعةِ تضاريسها؟.. فهذا الشاعرُ يستطيعُ أن يُدخلكَ إلى حلقاتِ الوجدِ الصوفي الجماليِّ الشعريِّ بلمحةِ البصرِ... وبدفعةٍ واحدةٍ يستطيعُ أن يُبلِّلَ قلبَكَ بالماءِ الغامضِ والبرقِ الحزين.
في قصائدهِ الكثيرُ من فتنةِ الأنوثةِ العصيَّةِ على الفهمِ.. فأنتَ تقفُ وكأنكَ أمامَ إعجازٍ يملأُ قلبَكَ بالانبهارِ وروحكَ بالإعجابِ الرفيع.
ألفاظُ شوقي بزيع منتقاةٌ بدقةٍ ورهافةٍ وحسٍّ موسيقيٍّ بارعٍ وذكاءٍ شعريٍّ نادرٍ قلَّما وجدتهُ عند الشعراءِ الذينَ يكتبونَ قصيدةَ التفعيلةِ. فعباراتهُ الشعريَّة شفافةٌ كالماءِ وليِّنةٌ كالغيومِ تنسابُ في نفسكَ كما ينسابُ النهرُ الحافي في دروبِ الحصى. فتدغدغُ عواطفكَ وتوقظُ ما هجعَ من أحلامكَ الخضراء. وتحملكَ وتحرضِّكَ على فعلِ الحُبِّ والتأملِ في شظايا الأملِ.. والحلولِ في بهاءِ الكونْ.. يقولُ في إحدى قصائدهِ عن مأساةِ الشاعر الحديث:
دائماً يكتُبُ ما يجهله
دائماً يتبع سهماً غير مرئي
ونهراً لا يرى أوّلَهُ
ينهر الأشباح كالماعز عن أقبية الروح
وكالسّاحر يُلقي أينما حلّ
عصا الشك
ليمحو بعضُهُ بعضاً
مقيمٌ أبداً في شبهة البيت
ولا بيت له
كلما همّ بأن يوضح يزداد غموضاً
وبأن يفصح يزداد التباساً،
والذي يكتبه يحجُبُهُ
هي يدري أن بعض الظنّ إثمٌ
ولذا
يومئ للمعنى ولا يقربُهُ
يدّعي الشاعر أن الشّعر ذئبٌ
فيقول الناس:
إن هو إلاّ شاعرٌ
والشّعر أضغاثُ رؤىً خادعةٍ
لم يصدّق أحدٌ ما زعم الشاعر،
لم ينتبه الناس إلى الموت
الذي ينهش في هيئة ذئبٍ
جسمُه الرثّ
لكي يستخرج المعنى الذي في قلبه،
الناسُ نيامٌ
فإذا الشاعرُ مات
انتبهوا!.
في هذهِ القصيدة استشرافٌ لنبوءةِ الشاعرِ وفيها بعدٌ رمزيٌّ لعبثيَّةِ ما يحاولهُ في حياتهِ. ولكن الصياغة في قمةِ الذكاءِ الشعريِّ والمكاشفة.

أوَّلُ معرفتي بالشاعر شوقي بزيع كانت من خلالِ قصائدَ متفرقة في الصحافةِ العربيةِ وما كانَ يصلنا من نتفِ أشعارهِ في صحافتنا المحليَّةِ في الداخلِ الفلسطيني وقد كانَ دسماً على قلَّتهِ. ثُمَّ في أيَّار عام 2001 وقعَ بصري في معرضِ الكتابِ الذي تقيمهُ مكتبةُ (كلُّ شيء) في حيفا على ديوانيهِ الصغيرين ( قمصان يوسف) و( كأني غريبك بينَ النساء) فولجتُ عالمهُ الشعريَّ السحريَّ من خلالِ ديوانيهِ هذين وخصوصاً الديوان الثاني الذي راقَ لي.. دخلتُ إلى مملكتهِ المعلَّقةِ فوجدتُ في أروعِ دواوينهِ هذا اشتغالاً مُتقناً على الصورةِ الشعريَّةِ وعلى تركيبِ الجملةِ في القصيدةِ وعلى التدويرِ البديع الذي لا يخرجُ بكَ عن سياقِ الحالةِ الموسيقيَّةِ العامةِ في النصِّ.. للوهلةِ الأولى تشعرُ أنَّكَ أمامَ شعرٍ جديدٍ تعبَ صاحبهُ عليهِ كثيراً..
فهو موصولٌ بأصالةِ اللغةِ المصفَّاةِ وصرامةِ أساليبها وغزارةِ معانيها ومفرداتها الشعريَّةِ التي كأنها قد نُحتت من الصخرِ الليِّن.. وفي الوقتِ نفسهِ نجدُ أخيلتهُ وكأنها تنهمرُ علينا بصورهِ المخترعةِ من عالمِ المستقبلِ وفضاءاتِ قصيدةِ النثرِ الرحبةِ الزاهيةِ بالأقواسِ القزحيَّةِ. والمشبعةِ بالرذاذِ الضوئيِّ.
فنيَّةٌ التجاورِ والتناصِ والمحاورة موظفةٌ بدقةٍ متناهيةٍ في السياقِ وفي الجملِ المحمولةِ على أنفاسِ الأنثى المعشوقةِ البعيدةِ أو ربمَّا المستعصيَّةِ على يدِ الشاعرِ.
وهذا ربما تأثيرٌ من شعراءِ النثرِ البارعين ومنهم عبده وازن وعباس بيضون.. فشاعرنا يعترفُ أنهُ يصبُّ تقنياتِ قصيدة النثر وجمالياتها في قوالب موسيقية عبر مجال التفعيلةِ اللينةِ الطيِّعة.. التي ترشِّحهُ مع شعراءٍ قليلينَ ليكونَ أجملَ فرسانها بعدَ رحيلِ أميرها محمود درويش.

تروقنا في قصائد شوقي أيضاً براعةُ السردِ الذي يدخلُ في الحوارِ الذاتي للقصيدةِ حتى أنَّ بعضَ النقادِ العرب عزا هذا الأمرَ إلى تأثُّرِ شاعرنا بالفنِ الروائي وأساليبهِ. وهذهِ الميزة من خصائصِ شوقي بزيع بل من أهمِّ ميِّزاتهِ.

للأشياءِ في شعر شوقي بعدٌ آخرُ غيرُ محسوسٍ فللصيفِ طعمٌ غريبٌ يختلفُ عنهُ في الواقعِ وللفتةِ الأنثى أيضاً مسحةٌ تليقُ بحفيداتِ دعد وليلى وجولييت وكليوبترا وإلزا.. حتى الليل والأزهار ومسمَّياتُ الطبيعةِ تكتسبُ روحاً وقيمةً وملمساً خاصاً يشي بالسحرِ وينضحُ بمعناهُ الكامنِ وغموضِ تكوينهِ.
فإنني عندما أقرأُ لشوقي أجدُ أنَّ النساءَ جديراتٌ بهذا الحدبِ الذي يمحضهُ لهنَّ الشاعر العاشقُ فها هو يُضفي عليهنَّ جمالاً على جمالٍ ويوشحهنَّ بالفتنةِ الغريبةِ المستغلقةِ ومناديلِ الهيام.. ويجعلهنَّ كائناتٍ من أحلامٍ وسرابٍ.. وهذا أجملُ ما في عملِ الشعرِ وأروعُ ما في لعنةِ الكلام.
فلشاعرنا مقدرةٌ عجيبة على تنقيةِ عالمهِ الشعريِّ من الشوائبِ والزوائدِ وإضفاءِ مسحةِ الحلمِ على الواقعِ المجبولِ بالحديد.

فشوقي وعمر بن أبي ربيعة سهمان شعريان جامحان يصدران عن قوس واحدٍ كما قالت العرب. فهما يتداخلان هذا في ذاك ولا تفصلُ بينهما لغةُ التماهي الحسيِّ.. ولا ينفصلُ وجدُ أحدهما وهيامهُ عن لهفةِ الآخرِ تجاهَ الأنوثةِ ومعناها. تلكَ الأنوثةِ التي يحبَّانِ كلٌّ بمقدارٍ والتي طفقا يصورانها حسيَّاً رغمَ أن أشواقهما تجريديةٌ بحتةٌ وسرياليةٌ حداثويةٌ تنهضُ من انكساراتِ اللغةِ وأفراحها المخبوءةِ..
أستطيعُ القولَ أنَّ عمر بن أبي ربيعة قد بُعثَ لنا بعدَ أكثرَ من ألفٍ وأربعمائةِ عامٍ في ثيابِ شوقي بزيع الشاعر الثائرِ على رتابةِ أحلامهِ الشعريَّةِ.

للشاعر قصائدُ بالغةُ الجمالِ والخصوصية اللفظيةِ والشفافيةِ.. قصائدُ تبلغُ حدَّ النشوةِ والكمالِ بامتيازٍ.. منها قصيدة كأني غريبك بينَ النساء فهيَ من الروعةِ والدقةِ في التصوير بحيثُ تجعلكَ تذهلُ عمَّا قرأتَ قبلها من شعرٍ..
يقولُ في مطلعها:
يدُكِ الأرضُ رابضةٌ منذُ أكثرَ من صخرةٍ فوقَ صدري
وطافيةٌ كالزمانِ على قُبَلي الخاسرةْ
تتجلِّينَ لي كمآذنَ مضمومةٌ حولها قبضةُ الريحِ
أو كبلادٍ تضيءُ لها كالسماواتِ أطيافك الغابرةْ
تتجلينَ لي مثلما يتجلَّى الكسوفُ على جبلٍ شاهقٍ
أو كعاصفةٍ تتواجهُ مع نفسها في خريفٍ بلا شرفاتٍ
لكي أتنسَّمَ تفاحكِ الدنيويَّ
كما يتنسَّمُ وردُ المقابرِ رائحةَ الآخرة.

ألا نسمعُ هنا أصداءً للمزاميرِ ولنشيدِ الإنشادِ؟ ألا نلمسُ تقاطعاً حتميَّاً مع أنغامٍ أوركستراليةً تتنـزَّلُ من سماءٍ حزينةٍ وبعيدةِ الجرح؟
ألا تذكِّرنا انسيابيةُ هذهِ القصيدةِ وتهاديها بموسيقى الغرفِ الهادئةِ؟
والمطالعِ الهوميريةِ العاليةِ النبرةِ.. ؟ والحادةِ كالسيفِ اليمانيِّ؟
هذهِ القصيدة العامرةُ تستولي عليكَ وتخلبُ قلبكَ.. إنها نشيدٌ رزينٌ صارخٌ لتمجيدِ الأنوثةِ.

حتى لو كنتَ لا تعرفُ شوقي بزيع فإنَّكَ ستختارهُ من قراءةِ أوَّلِ سطرٍ شعريٍّ لهُ في قصيدةٍ عابرةٍ تجدها في مجلةٍ هنا أو جريدةٍ هناكَ ولكنكَ لن تنساهُ أبداً.. لا تستطيع أن تتفلَّتَ من سحرِ ماروتهِ الطاغي وتوحشِّ انهماراتهِ وبوحهِ العالي.
وسيحصلُ لكَ كما حصلَ لقارئٍ إتصلَ بقناةِ الجزيرةِ وكانت تبثُّ برنامجاً أدبياً وقالَ مصارحاً المذيعَ بأنَّ في العالمِ العربيِّ شعراً جيِّداً يستحقُّ القراءةَ وعندما سألهُ المذيعُ بعضَ أسئلةٍ يحاولُ فيها استجوابهُ.. قالَ هذا المواطنُ العادي جدا والمثقفُ أنَّ هنالكَ في لبنانَ شاعرٌ غيرُ معروفٍ كبقيةِ النجومِ من الشعراءِ ولكنهُ شاعرٌ حقيقيٌّ وساحرٌ بكلِّ ما تنطوي عليهِ هذهِ الكلمةُ من أبعادٍ ومعانٍ.. يستحقُّ القراءةَ والاهتمامَ في محيطِ هذا الغثِّ من الشعرِ. قالَ القارئُ الحقيقيُّ أن الشعراء الجيِّدين كشوقي بزيع يجرفهم طميُ القصائد الركيكة في عصرِ الكمِّ ولا يجدهم إلاَّ من يُحسنُ اكتشافَ اللؤلؤِ تحتَ الرمالِ.. لم أستغرب حينها كلامه وابتسمتُ ابتسامةً خفيفةً وقلتُ في سرِّي شكراً لشوقي بزيع الذي يزيدُ أحلامنا جمالاً.. وينقعُ جفافَ أرواحنا بالرذاذ.. ألفَ شكر...!

***

قُبلةٌ للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي
(في ذكرى رحيلهِ العاشرة)

عبد الوهاب البياتي أحدُ أعمدةِ الشعرِ العربيِّ الحديث الثلاثة.. إضافةً إلى بدر شاكر السيَّاب ونازك الملائكة. ويحتلُّ البياتي في اعتقادي المكانَ الثاني بعدَ السيَّاب من حيثُ الأهمِّية والدور الريادي الذي لعبهُ في تطويرِ الشعرِ العربي الحديث.
خصوصاً في فترةِ الخمسينات.. أما بعد ذلك فقد انطلقَ وحلَّقَ عالياً في تجربتهِ الشعرية.. بعدَ احتكاكهِ بحركة الشعر العالمي وتأثرهِ بها.
حينَ أخلى السيَّابُ لهُ الساحة الشعرية برحيلهِ عام 1964 فجدَّدَ في نظري في مضمونِ القصيدة وأعطاها بعداً إنسانياً أكثر.
نستذكرهُ اليومَ بعدَ مرورِ عشرِ سنوات على رحيلهِ عن عالمنا فنسترجعُ تلكَ الضجة الهائلة والدويَّ الكبير اللذين أحدثهما برحيلهِ. فنحسُّ ونحنُ نعيدُ تقليبَ صفحاتِ الماضي ونُمعنُ النظرَ في عناوينِ ذاكَ الحدثِ المفجعِ مثلِ( رحيلُ آخر العمالقة) و( انهيارُ آخر ناطحةِ سحابٍ للشعرِ العربي) وغيرها الكثير.. نحسُّ بأننا أمامَ تجربةٍ شعريةٍ عظيمةٍ أرهبَت حتى السيَّابَ في أوائل الخمسينيَّات.
وجعلَت صوتَ البياتي ندَّاً قويَّاً ومنافساً يُحسبُ لهُ ألفُ حسابٍ في الخصومةِ الشعريَّةِ وأيضاً في الزمالة اللدودةِ في اجتراحِ القصيدةِ الحرَّة للسيَّاب ونازك.

خلالَ تعرُّفي على البياتي عام 1998 وقراءتي لدواوينهِ كلِّها في مرحلةٍ لاحقةٍ على تعرُّفي بخصمهِ الألدِّ السيَّاب لم يجذبني كثيراً حينها.. فقد اكتشفتُ سرَّهُ بعد عدةِ سنوات من قراءتي الأولى لهُ. في البدايةِ وجدتُ لغتهُ مختلفةً عن لغةِ بدر.. وكانت تتمحور حولَ الهمِّ الإنساني وتنفخُ في بوقٍ ثوريٍّ حميم وشموليٍّ جامعةً أطيافاً ذاتيةً رفيعةً في أفقٍ إجتماعيٍّ وإنسانيٍّ رحبْ.
فالبياتي عرفَ منذُ البدايةِ أنَّ عليهِ أن ينطلقَ إلأى سماءٍ العالمِ وينعتقَ بالألوانِ الكثيرةِ محرِّراً ذاتهُ من قيودِ الرومانسيةِ والذاتيةِ التي أثقلتْ روحَ السيَّاب.
كانَ عليهِ أن يسبحَ في فضاءٍ جديدٍ لم يسبقهُ إليهِ أحدٌ.. فها هو يسافرُ إلى عاصمةِ روسيا موسكو ويزورُ دولَ شرق أوروبا وإسبانيا ومصر (التي مكثَ فيها زمناً) وأمريكا اللاتينية طامحاً في فتحِ كوَّةِ الطائرِ الحبيسِ في قلبهِ منذُ الفِ قرن.

تعانقَ البياتي فكريَّاً وروحيَّاً مع شعراء عالميين كثر من بينهم ناظم حكمت وبابلو نيرودا وأكتافيو باث ورافائيل ألبرتي وغيرهم من مثقفي الشيوعية وثوَّارها وعلى رأسهم تشي جيفارا. ولا أنسى علاقتهُ بالروائي الكولومبيِّ الكبير والمتوَّجِ بنوبل جابرييل غارسيا ماركيز وإشادةِ الأخيرِ بقيمتهِ ومنزلتهِ في أكثر من مناسبة ومهرجانٍ أدبي.
اكتشفتُ فيما بعد أنَّ البياتي يؤثِّر في القارئِ أكثر من سواهُ من الشعراء العرب المعاصرين. فأصوات البياتي قلَّما تغيبُ من ذاكرة أيِّ شاعرٍ عربيٍّ ستينيٍّ أو سبعينيٍّ أو حتى ثمانينيٍّ .. حتى أنا لم أستطع أن أتفلَّت بسهولةٍ من تأثيرِ جملتهِ الشعريةِ وسحرِ تعابيرهِ الطاغي.
مرحلةُ الشاعر الذهبيةُ تفتَّحت ما بعدَ سنواتِ الستين خصوصاً في السبعينيَّات فما قبل هذهِ المرحلة كانَ البياتي يميلُ إلى سهولةِ القصيدةِ وقصرِ جملها بالرغمِ من براءةِ ألفاظهِ فقد كنَّا نجدُ في ثمارهِ بعضَ الفجاجةِ ربمَّا لكثرةِ قوافيهِ التي كانت توحي بالسجع وتبعثُ على الملَلْ.. وأيضاً لتكرارهِ الجملة الواحدة في قصائد كثيرة. مرحلتهُ التدويرية أنضج بكثير وأكملُ وهيَ التي غيَّرت المفهوم السائدَ بالنسبةِ للقصيدة الوجودية الرازحة تحتَ أعباءِ الحياةِ والمشرَّدة في سهوبِ العالمِ الثالث. البياتي شاعر شموليٌّ بالمفهوم الحديث والدقيق للكلمة. ولكنهُ أحد أعظم ممثلِّي تيَّار السهل الممتنع في القصيدة العربيةِ الحديثة.

يأتي ولعُ البياتي بالصوفيين من شعورٍ عميقٍ بانتمائهِ لتراثهِ الديني وارتباطهِ بالموروث الجماليِّ الضخمِ للشعرِ الصوفي. فقد أغرمَ بالحلاج وابن الفارض وابن عربي وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي منذُ نعومةِ أظفارهِ. ولم يضفي عليهِ هذا التعلُّقُ بهولاءِ إلاَّ قدسيةً وأصالةً وبريقاً وبهاءً في عيونِ مجايليهِ وأندادهِ من الكتَّابِ والشعراءِ العالميين. فهو لم يختر أقنعتهُ عبثاً ولم يتقمَّص شخصيات أبطالهِ من بابِ اللهو والتلاعبِ والمجانيَّة. فهو يحملُ من وضاحِ اليمن وحافظ الشيرازي وبابلو نيرودا ولوركا الأشياءَ الكثيرة. حتى أنهُ في النهايةِ قد انكسرَ تحتَ أعباءِ أشواقِ ابنِ عربي أستاذهِ وشيخهِ على مقربةٍ منهُ في دمشق منفاهُ وقدَرهُ.

ولا أردِّد الآن إلاَّ ما ردَّدتهُ منذ عشر سنوات في مرثيةِ شاعرِ الحبِّ والمنفى والعذاب والأمل:
ومن بعد سبعينَ عاماً من الحبِّ والجوعِ والذكرياتْ
يعود الغريبُ إلى دارهِ من بلادِ الشتاتْ
ومن بعد هذا النـزيفِ الحرورِ بصحراءِ نجدِ
وثلجِ سيـبيريا يسافرُ من بحر وجد لوجدِ
يعودُ السنونو إلى وكرهِ
يحطُّ الرحالَ ويُلقي ذخيرةَ شوقٍ قديمٍ على ظهرهِ
سلوهُ لماذا يعانقُ صمتَ الدجى والبحارْ ؟
ويرقدُ في جفنِ هذا النهارْ ؟
سلُوهُ وفي مقلتيهِ الجوابْ
كضوءٍ بهِ يستنيرُ الضبابْ
لماذا يصيرُ لهيبُ العذابْ
رماداً ويُطوى جناحُ السفارْ ؟
ويبردُ كالثلجِ قلبُ الحياةْ ؟
وتنطفىءُ النارُ...
تخبو قناديلُها الذكرياتْ ؟

***

محمد علي شمس الدين..
بين لغةِ الحلمِ وهاجسِ الحداثة

أُعجبتُ بكلامهِ عندما رأيتهُ يتحدثُ على فضائيّةٍ سعوديةٍ عن سرياليةِ المتنبي..قالَ أنَ بيت المتنبي المشهور( نحنُ قومٌ ملجنِّ في ثوبِ ناسٍ فوقَ طيرٍ لها شخوصُ الجمالِ ) أروعُ ما لدى العرب من تراثٍ سرياليِّ..ولو عاصرَ دالي المتنبي لرسمَ هذا البيت رسماً يدهشُ كلَّ نقَّادِ الفنِ الحديثْ. كانَ ذلكَ منذُ سنواتٍ عدَّة.. كانَ الشاعر ذكيَّاً في طريقةِ نقاشهِ وعرضهِ لمشكلاتِ الشعرِ العربي الحديث.. ومراوغاً في الإجابةِ على الأسئلةِ الشائكة ومحدِّثاً لبقاً وشاعراً يملكُ ثقافةً استثنائيةً فذَّةً لا زالت تبهرني وتدهشني حتى اليوم.

كانَ يتدفَّقُ في كلامهِ كالنهرِ البريء وكنتُ في شوقٍ مُشتعلٍ بكلِ حرائقِ الشعرِ لسماعهِ.
ولا أُنكر أنني متأثِّرٌ بالشعرِ اللبناني تأثُّراً جارفاً وخصوصاً بالجنوبي منهُ وشاعريهِ الجميلين محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع.. اللذين خلخلا بقصيدتهم التفعيلية وتجديدهم الجمالِّي الجريء مسلَّمات القصيدة العربية الحديثة وغيَّرا مسارها بقوة كأنهما أحفادُ بروميثيوس وحملةُ مشعلهِ المقدَّس في الأرضِ المظلمة.أو أحفادُ ديكِ الجنِّ الحمصي في بلادِ الشام. ديكِ الجنِّ الحمصي الذي تغنَّيا بهِ وبعشقهِ وغيرتهِ وجنونهِ طويلاً.

محمد علي شمس الدين شاعر يدينُ لهُ فنيَّاً وعلى مستوى بناءِ القصيدة الحديثة الكثيرُ من الشعراءِ العرب فهو يعرفُ ماذا يريدُ من الشعرِ ومن نفسهِ أيضاً. تعرفتُ إليهِ عبر دواوينهِ الشعرية التي لا تتركُ القارئ في اطمئنانهِ الشعري أبداً وتدفعهُ للقلقِ المضني والبحث عن الآفاقِ الجديدة المجهولة.
كنتُ قد قرأتهُ بنهمٍ ضارٍ قبلَ عدَّةِ سنواتٍ فأدركتُ انني أقفُ أمامَ قامةٍ سامقةٍ وضاربةٍ في أقصى سماءِ اللغة. لمستُ في كتابتهِ الشعريةِ نموذجاً شعرياً حداثوياً نقيَّاً من الزوائدِ والشوائبِ ومكتوباً بحساسّيةٍ عاليةٍ وتركيزٍ جمٍّ قلما وجدتهما عند غيرهِ من الشعراءِ المعاصرين. فهو يتغلغلُ بحسِّهِ الصافي وذكائهِ الفطري إلى جوهرِ الحداثةِ وسرِّها الدفين متشرِّباً بها حتى النخاع. ومشبعاً ظمأ فؤادهِ وروحهِ التي ترفرفُ في محيطٍ يلهثُ شعراؤهُ في شمسِ الصحراءِ العربيةِ القاسية.
أظنُّ أنَّ الكثير من الشعراءِ العربِ تأثروا ظاهرياً بالحداثةِ المستوردةِ من الغربِ وربما بأفكارها أيضاً ولكنهم ظلَّوا بعيدينَ عن نفسِّيتها والخوض في غمارها ذلكَ أنهم لم يرضعوا لبانها في المهادِ ولم يدرجوا على هواها في الطفولة وإنما تلَّقوها عن مدارسَ ومنظرِّين وشعراءٍ تأثروا بها أكثر من معانقة نارِ حقيقتها. ومعرفةِ خفاياها.
ولا أريد أن أشيرَ إلى شعراءَ كأدونيس وعبد العزيزِ المقالحِ هنا وهم في نظري مجدِّدون في الأشكال الشعرية أكثر منهم مجدِّدين في المضامين. بل أكتفي بالقولِ أنَّ شعراءَ الحداثةِ المرموقينَ بذلوا قصارى جهدهم لكي يصلوا إلى حالةِ الرضى النفسي حولَ تجاربهم الشعريةِ. ومنهم محمود درويش وسعدي يوسف ونزيه أبو عفش وحسب الشيخ جعفر ولكنهم لبعدهم عن منابعِ الثقافةِ الفرنكفونية في فترةٍ مبكِّرةٍ على تفتُّحهم الشعريِّ أخفقوا في كتابةِ قصيدةٍ عربيةٍ ينطبقُ عليها مقياسُ الحداثةِ بكلِّ الجماليَّاتِ والعناصرِ المتعارفِ عليها.
يقول حولَ سؤال عن الماضي في شعرهِ وتجليَّات الحياةِ الجميلة : ( عمليّة القطع مع السيرة ليست سهلة ولا صحيحة. الحداثيّون في الغرب Modernists قطعوا مع الماضي، حتى إن (ماياكوفسكي) اعتبر الرومنسيّة كعضو مريض في جسم حيّ. ايضاً (يوجين يونسكو) المسرحي السوريالي الفرنسي، كتب هجائيات لفكتور هوغو. ثمّ استيقظ العالم على ما بعد الحداثة ليجد أن الحداثيين لم يفهموا جدل العلاقة مع الماضي. لا شيء يموت. كلّ شيء يولد. الولادة هي تجدّد. كلّ قصيدة تخزن كلّ الشعر. لا يؤسّس تجاوز على أي جهل. المعادلة هنا دقيقة جدّاً وخطيرة.)

شمسُ الدين شاعر ثقافةٍ مركبَّة كما يقولُ عنهُ المستشرق الإسباني بدرو مارتينيز مونتافيز فما أن فتحَ عينيهِ على دنيا الشعرِ إلاَّ وجدَ نفسهُ متوفِّراً على منابعِ الكبارِ من الشعراءِ النبوءيونَ أمثال ملارمه وبودلير ولوتريامون ورمبو هؤلاء اللذينَ جعلوا للقصيدةِ رؤى مجنَّحةً ولما يتصِّلُ بها من طقوسٍ لكتابتها أداةً لفهمِ واقعِ الحديدِ والذهب.. وخيطاً رفيعاً من النورِ يربطهم بالوحيِ ولغةِ الأحلامِ الشفيفِ الرفيعة.
لا أعرفُ سبب قلَّةِ انتاج الشعراءِ اللبنانيين وعلى رأسهم محمد علي شمس الدين الذي لم ينتج نصف ما أنتجهُ مجايلوهُ فلهُ عشرة دواوين صغيرةِ الحجمِ كبيرةِ القيمةِ أولها( قصائد مهرَّبة إلى حبيبتي آسيا) وآخرها (الغيومُ التي في الضواحي) الصادر عام 2008 الذي نلمسُ فيهِ لوعةَ ومرارةَ حرب تموز عام 2006ولا يفارقنا شبحُ الحزن على ما حصلَ بالجنوب.ولهُ أيضاً ثلاثةُ كتبٍ نقديةٍ هي رياح حجرية ..والطواف.. وحلقاتُ العزلة. ويحضرني الآن أيضاً الشاعر اللبناني أنسي الحاج فقد بنى مجدهُ الشعري على أقَّل من سبعةِ دواوين.فالمسألة مسألة كيف لا كم في الكتابة.

منذُ ديوان شاعرنا الأوَّلِ ( قصائد مهرَّبة إلى حبيبتي آسيا) الصادر عام 1975 وهو في ارتقاءٍ تعبيريٍّ مستمرٍ نحوَ الكمالِ المجازيِ. فهو يشدِّد كثيراً على الناحيةِ الصورية والحسيَّة في قصيدتهِ. ونجدُ في ديوانهِ هذا أنهُ منذُ بداياتهِ لا يقولُ كلاماً مجانياً ولا يحفلُ بالشعاراتِ المستهلكةِ ولا بالتقريرية. هناكَ فقط ايحاءٌ شعريٌّ فذٌّ وتراكيب منحوتةٌ من أقصى الروح.
نراهُ بعدَ ذلكَ يصعدُ في أُفقٍ تخييلي مزركش بالألوانِ الضاريةِ وفي اتجاهٍ عموديٍ في أعمالهِ اللاحقةِ مثل( أما آنَ للرقصِ أن ينتهي؟) فنلمسُ هذا التمرَّدَ الخطيرَ على ترسُّباتِ القصيدةِ العربيةِ من أواخرِ الستينياتِ إلى يومنا هذا.ونجدُ أيضاً التبرَّم الواضحَ بأساليبِ اللذينَ يرتكزونَ على التراثِ من غيرِ أن يفهموا متطلباتِ الكتابة الشعريةِ الجديدةِ ووعيها العميق. فهم لا يعترفونَ بأنَّ وراءَ الليلِ التتريِّ شمساً للحرية.
فالقصيدةُ مشروعُ مغامرةٍ وتحدٍّ دائمٍ وليسَ في الشاعرِ الإشكاليِّ أيَّةُ صفةٍ تدعو إلى القناعةِ والكفافِ على مستوى الخيالِ والرؤيا.. فهو في بحثٍ مستمرٍ عن الأمثل والأجدر.
وفي قلقٍ وجوديِّ كأنَّ الريحَ تحتهُ وكأنهُ على سفينةِ السندبادْ.
إذن نحنُ أمامَ شاعرٍ عربيٍّ اشكاليٍّ يبلغُ في كتابتهِ أقصى حدودِ الاشكاليةِ والجمالِ وما بعدهما تغني قراءتهُ كلَّ بضعةِ شهور عن عشراتٍ غيرهُ ولهذا السبب أجدني أعودُ إليهِ كُلَّ بضعةٍ شهورٍ لأقفَ على مصادرِ الرحيقِ والشهدِ. لا لشيٍ فقط لجدَّةِ معانيهِ وكثافةِ صورهِ وأصالتهِ. وهذا ما حدا ببعضِ النقادِ العربِ إلى الإشادةِ بأهميةِ تجربتهِ والإشارةِ إلى قدرتهِ غيرِ المسبوقةِ على استعمالِ الرموزِ والأساطيرِ وتوظيفها بالشكلِ اللائق.

فهو قيس وجميل وكلُّ العشَّاق العرب في آن واحدٍ وهو يستندُ على التراثِ العربي بقدرِ ما يستندُ على التراثِ الغربي.. يقولُ في آخرِ دواوينهِ (الغيوم التي في الضواحي) في قصيدة (وجهٌ لليلى) ويرتكزُ على ما تبقَّى من الضوءِ في عينيِّ ليلى العربيةِ كما ارتكز أراغون على عينيِّ إلزا من قبلهِ:
باب ليلى
كان عشقي لها يعذبني
وموتي جميلا
على قاب قوسين من بابها
يصطفيني
تقول: وهل أنت قيس العليل؟
أقول: نعم
وأضيف: القتيل
إن ليلى
التي لا تزال هناك
محجبة لا تراني
تحيط بها نسوة من حديد
ورجال عبيد
ونسر عجوز على بابها
يرصد القادمين إليها
فيا أهلها في العراق
اسمعوا زفرتي
وهي تمضي مع الريح
أو دمعتي
وهي موصولة بالفرات الجريح
من الشام تمضي
مواكب عشقي
وتحمل راياتها
في الفلاة
وتحدي لها
بالغناء الحداة
ولكن ما حيّر العقل
حتى براه الجنون
أن ليلى
-التي مت في حبها ألف عام-
تخون

أعتقدُ أننا نحنُ العرب محظوظونَ بشاعر مثل محمد علي شمس الدين متمِّم مسيرة بدر شاكر السيَّاب الذي أحبَّهُ وتأثَّرَ بهِ ولكنهُ اختلفَ عنهُ.

***

الطيِّب صالح يهاجرُ جنوباً

لم أقرأ رائعة الطيِّب صالح موسم الهجرة إلى الشمال إلاَّ مؤخَّرا قبلَ عدةِ شهور وكم عاتبتُ نفسي لذلكَ.. منذ سنينٍ وأنا أتلهَّفُ لقراءتها ولم أفعلْ رغم ما كنت أسمعُ عنها من أهميَّةٍ أدبيةٍ رفيعة منذ سنواتٍ عديدة وأنها تضيفُ لقارئها الكثير.. حتى أنها اختيرتْ عام 2002 ضمن أهمِّ مائة رواية عالمية وقد اشترك مئةُ ناقد وكاتب عالمي من أكثر من 50 دولة لتقييمِ الأعمال المختارة.
موسمُ الهجرةِ إلى الشمال روايةٌ تستحوذُ على كلِّ مشاعركَ بلا استئذانٍ وتضربكَ كأنها إعصار إفريقيٌّ قادمٌ من الشمالِ حيثُ عاشَ بطلها وغامرَ وقاربَ بينَ جسدِ أوروبا البضِّ الفائرِ المنادي بألفِ فمٍ المشتعلِ بالرغباتْ وجسدِ أفريقيا الذائبِ شوقاً ولهفةً إلى حريَّةِ المعرفةِ وحريَّةِ الحبِّ والحياةْ.
تعتبر هذه الرواية الخالدة من أروع الروايات العربية التي تناولت الصراع الإنساني بين عقليَّة الغرب وروحانية الشرق حتى أن بعض النقاد ومنهم الناقد المصري رجاء النقَّاش قد تعاطفَ جدا مع هذه الرواية بزعمِ أنها فريدةٌ في موضوعها وطريقة سردها وفلسفتها بين الرواياتِ العربيةِ الأخرى المعاصرةِ لها حينها. وقالَ أيضاً أنَّ لها بعداً خفيَّاً لا بدَّ من الوصولِ إليه.
بينما ربطَ البعض بينها وبين توارد أفكار أو خواطر في روايات أخرى مثل قنديل أم هاشم للكاتب المصري يحيى حقِّي وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم . والحيُّ اللاتيني لسهيل ادريس وقارنَ البعض بينها وبين مرتفعات وذرنغ للكاتبة الإنجليزية إميلي برونتي.
بطلُ رواية الطيِّب وهو مصطفى سعيد شخصية عميقة وغامضة تجمعُ في كيانها العبقري والشرقي الرومانسي والإفريقي الباحث عن ذاتهِ والرجلُ المتمرِّد.
ويقول الطيِّب صالح أن بعض النقاد والدارسين وجدوا في الرواية ثقافات من مختلف الأجناس ولمسوا أيضاً فلسفات لشعوبٍ كثيرة ولم يستطيعوا أن يجدوا أثرَ المتنبي وكبريائهِ العربيِّ فيها. أي لم يعثروا على العنصر العربي في تكوينها.
يبدو الكاتب في روايتهِ تائها يبحثُ عن نفسهِ في كيانِ غيرهِ. كبحثِ مصطفى سعيد عن أسئلتهِ في علاقتهِ بجين موريس... وفي أجسادِ نسائهِ الأخريات اللواتي تهاتفنَ على سمرةِ جلدهِ وبريقِ عينيهِ وحدَّةِ عقلهِ وطقوسهِ السحريةِ الغرائبيَّةِ.
لا أريدُ أن أثقلَ الروايةَ بالبعدِ الجنسي الذي اعتمدتهُ الرواية في بعض تصريحاتها وتلميحاتها هنا وهناك على لسان بنت مجذوب أو ود الريِّس . فهنا يشفعُ للكاتب جمالُ تصوريهِ الواقعيِّ للحاضر السوداني الرامز إلى الشرق العربيِّ بكلِّ ما يحتوي من خرافات وسحر وضلالات وتجاوزات.هيَ مواجهة بينَ انسان العالمِ الثالثِ بكلِّ ما لديهِ من أدواتٍ وخصائصْ وبينَ انسانِ العالمِ الأوَّلِ المتقدمِ.
في حديث للطيَّب صالح يقولُ فيهِ أنه التقى بجين موريس بطلةِ روايتهِ موسمِ الهجرةِ إلى الشمالْ واحتسى معها القهوة في متحف الفنون بلندن. وهناكَ دارَ بينهما حديث طويل حولَ الحضارة الغربية والشرقية وأسباب الخلاف وأوجهِ الشبهِ وحولَ مفاهيمِ الحريَّةِ والحبِّ. وافترقا بعد ذلك ولم يلتقيا. وكان ذلكَ الحديث هو الخيط الرفيع الذي راحَ الكاتبُ ينسجُ بهِ أولى أحلامِ الروايةِ العظيمة. التي كانت نقطة تحوُّل في الروايةِ العربية الحديثة.
موسمُ الهجرةِ إلى الشمال رغم رصانةِ لغتها العربيةِ وجدَّتها روايةٌ حديثة بكلِّ ما في الكلمةِ من معنى ذلك أنها تلتصقُ التصاقاً وثيقاً بالواقعِ من حيثُ الصور والإيحاءِ وتسلسلِ الأحداث بينما هيَ تبحثُ موضوعاً فلسفياً رمزيَّاً وتحملُ أفكاراً ساميةً تعبرُّ عنها بزخمٍ وحسٍّ كونيين من منطلق الحبِّ والمعرفةِ واللذةِ والموتِ وهذا ما منحها عالميتها وشهرتها إذ تُرجمتْ إلى أكثر من ثلاثين لغةٍ حيَّةٍ . وأظنها كانت جديرة أن توصلَ صاحبها إلى مصافِ نوبل التي زهدَ بها لتطَّفلِ العرب عليها حسبَ قولهِ.
إذن الطيِّب صالح هو مصطفى سعيد أو ربمَّا هو جزءٌ لا يتجزَّأُ منهُ. أو يجوزُ القولُ أنَّ مصطفى سعيد شخصيةٌ مثيرةٌ للجدلِ من صنعِ الطيب صالح قد جعلَ منها خلطةً غريبةً مزجَ فيها تجاربَ من عرفهم من سياسيين وأدباءْ وأصدقاء سودانيين في لندنْ.
في هذهِ الشخصيَّةِ استلهمَ الكثير من الأفكار الناجحةِ أدبيَّاً وعلى المدى البعيد.
وهذا رأيي الشخصي.. أذكرُ منها تمسكَّهُ بواقعهِ وحضارةِ شعبهِ وتمازجَ الأضدادِ في موضوعاتهِ والبحثِ عن وسيلةٍ جديدةٍ يعرضُ من خلالها حلمَهُ باكتشافِ الغير وهو في قمةِ اعتدادهِ بنفسهِ وحضارتهِ وفي أوجِ طموحهِ ورغبتهِ المتأججةِ المُحرقةْ.
لا تهمُّني تفاصيل الرواية بقد ما يهمُّني مغزاها المُبهم والمفتوح على الاحتمالات فلا هيَ رمزية في نظري لا هيَ واقعية صرفة هي تمازج بين هذا وذاك وإناء شفَّاف عرفَ كيفَ يستعملهُ الطيِّب بحيثُ يصبُّ في داخلهِ ما يشاءْ من رؤيةٍ جديدة مفعمةٍ بالأملِ والندِّيةِ تجاهَ الغربِ المتعجرف وعنجهيتهِ واستعبادهِ للرجلِ الأسودِ وموطنهِ أفريقيا . هيَ وثبةٌ في وجه الظلمِ والإستعلاءِ الغربيينْ .وردُّ اعتبارٍ للكرامةِ الإفريقية المستلبةِ منذُ قرونٍ عديدة على يدِ ذاتِ الجمالِ والحضارةِ والسطوةِ والنفوذِ ( الإمبراطورية البريطانيةْ ).
عودةُ مصطفى سعيد إلى الوطن بعد مغامراتهِ العاطفيةِ ورحلتهِ العلميةِ العريقةِ في بلادِ الضبابِ فيها الكثيرُ من الغموض وموتهُ في قريتهِ فلاحاً فقيراً يجعلُ الروايةَ من أعصى الرواياتِ وأعظمها في آنٍ واحد. بل أنَّ موتهُ على ترابِ وطنهِ أخيراً يذكرُّني اليومَ بهجرةِ الطيِّب صالح الأخيرةِ إلى وطنهِ جنوباً بعدما ملأَ الدنيا وشغلَ الناسَ ووطنَّ النفسَ لينامَ قريرَ العينِ في ظلِّ نخلةٍ عاشقةٍ على ضفةِ نهرِ النيلِ الذي أحبَّهُ بكلِّ كيانهِ... فوداعاً أيُّها الطيِّبْ.

***

الشاعرُ الفلسطينيُّ حسين مهنَّا: علاقةٌ متجددَّة مع مسمَّيات الجمال

لم أكن أحسب أنني على موعدٍ باذخٍ مع كل هذا النقاء، وهذه الأصالة التعبيرية التي ذكرتني بالشعراء العذريين العرب أو بأقرانهم الأبطال العشّاق في القرون الوسيطة، ولكن... أن تجد شاعراً حقيقياً بكلِّ ما تنطوي عليه الكلمة من مغزى ودلالة، ومتواضعاً ونبيلاً كطيران الفراشِ الأنيق إلى سدَّةِ الحلمِ، في هذا الوقت بالذات، فهذه نادرةٌ قلمَّا يجودُ الزمن البخيلُ بمثلها.
حتى أنني عندما أهداني الشاعر ديوانيهِ الأخيرين الصادرين عن مؤسسة الأسوار في عكا بطبعةٍ أنيقةٍ مخمليَّةِ الطراز، وهما " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" و" الكتابان :ويبدأ بالأوَّل وينتهي بالثاني" تيَّقنتُ أنني أقفُ على كلمةِ الشاعر وبيت قصيدهِ، ولم أتفاجأ أبدا من حجم الطاقة النورانية والزخم الشعوري المنفلت منهما.

الديوانان عبارةً عن سجلَّين للندى، والأزهار، والتراب المعشوق، والضبابِ الطفوليِّ الناعسِ في ظلال أشجارِ اللوزِ والزيتونِ والسنديانِ، وعن سمفونيَّة عشقٍ لا تحاول المآلفة بين فوضى حواسها ومشاعرها، بينَ الحسيِّ والمجرَّد.
لم أكدْ ألمسهما حتى انبثقت من أصابعي الأنهار، وخفَّت في القلبِ المسكون باشتهاءِ شتاءٍ بعيدٍ كلُّ العصافير المُلوَّنة بألوان الفرح الخفيِّ والغناء، والنجوم الخريفيَّة المبتلَّة بدموع كيلوباترا وليلى وجولييت والزا وفاطمة ومي.

كيفَ لا وأنا على موعدٍ مع كُلِّ هذا الاحتفاء بالجمال والأنثى والحبقِ النسائيِّ؟
كيفَ لا ... وأنا على موعدٍ مع مملكة النقاء الأبجديِّ؟

ما أن بدأتُ بالقراء المتأنيَّة التي ينبغي أن يُقرأ بها شعرٌ في مثل هكذا حجم، حتى انزاحت الحُجب والستائر عن ذاكرتي المثقلة بعشبِ الصحراء، وعن الديوانين، وتأكدَّ رهاني من جديدٍ على صاحبهما، رهاني الذي بدأتهُ منذُ سنين عديدة وأخذَ ينمو رويداً رويداً حتى اكتملَ اليومَ بدراً مبينَ النورِ والهالةِ في سماءِ شعرنا العربي الفلسطيني، وأظنُّ أن الناقدة والشاعرة الأمريكيَّة "إميلي ديكنسون كانت محقَّةً عندما قالت إنَّ أجمل الشعر في نظرها ذلكَ الذي تقرأهُ فتحسُّ أنَّ قمة رأسكَ قد أُنتزعتْ من مكانها، أظنها لم تكن تعني الاَّ شعراً كشعر حسين مهنا، ذلكَ أنَّ شعر حسين مهنا ينتزعُ قمة رأسك وقلبكَ وأحاسيسكَ معاً وفي لحظةٍ ضوئيةٍ واحدة، أو هو كالمغناطيس الهائل الذي يجذبكَ الى ذاتك الجميلة الأخرى، أو أشبه بغناءِ الأمازونيات في الأوديسة، ذلك الذي لا يختلفُ كثيراً عن النغمةِ الشجيِّة المتدافعة بحرارة من أقصى قلبِ شاعرنا وكأنها بركانٌ احتبسَ طويلاً، وها هو يتكأُ اليومَ على قريحةٍ سيَّالةٍ تجددُّ أشياءها باستمرار وبهجة، وتشحذُ ذاكرتها الايروسية وذائقتها الرفيعة المتجددَّة بالبلوَّر النسائيِّ الناصع الرهافة والحساسيَّة والصوت.

في هذينِ الديوانين الصغيرين حجماً، الكبيرين تأثيراً وقيمة جمالية، يحاولُ شاعرنا كما في أعمالهِ الشعرية السابقة تجديدَ العلاقة الشعرية والمجازية مع مسميَّات الحبِّ والجمال والأنوثةِ، التي يرتكزُ عليها شعرهُ الرقيقُ المخمليُّ بالأساس، والمراوحُ بينَ الخطابِ الذاتي الوجداني المكاشفِ للنفسِ ولواعجها وحريَّةِ الدفق الشعوريِّ العذب في فضاءٍ مُلوَّن بأناشيدِ الحُبِّ والصوفيَّة، في عناقٍ واضحٍ وجليٍّ لمناخات يستحضرها الخيال المرهف ويستعذبها القلب، لخلق رؤى مزهرة واستدعاء طقوس غنائيَّة سيالَّةٍ بالوجد الصافي، يصعدُ منها بخورُ الأنوثةِ العبق جنباً الى جنبٍ ورذاذَ لغةِ البوح، والكشف. حتى لتظنَّ في وهلةٍ أنَّ ما كان يريدُ أن يفرغهُ الشاعر، قد اختمرَ في روحهِ دهراً طويلاً، ربمَّا يرجعُ الى حنايا الطفولةِ، قبلَ أن تتبلوَّر تجربتهُ أخيراً وتخرجُ لاهثةً على الورق ونابضةً في النصِّ.

وكما عهدناهُ دائماً. صلباً. حُرَّاً. مترفِّعا. أبيَّاً. يقفُ الشاعرُ في قصيدةِ " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" طوداً شامخا في أرضيِّةِ التمرِّد على أشكال القهر التاريخي ويعلنُ موعداً له في انتظارِ الحياة، يقول:
لي موعدٌ في انتظارِ الحياةِ / كأني أراكم / كما قد رأتكم دمائي / على بابِ عايَ
تشدونَ خيلاً وتعدونَ خلفي / ويومَ صرختم ببابِ أريحا / تموتُ .... تموتُ / وراحابُ تحيا / حملتُ الحياةَ على راحتيَّ / وسرتُ على مهلٍ / أنثرُ الحبَّ والشعرَ / سرتُ ... وسرتُ .... وسرتُ / أنا أستزيدُ الحياةَ حياةً / وأنتم تشدُّونَ خيلاً وتبغونَ حتفي/.
نجدُ استلهام الرموز التوراتية في هذا النص يتحدُّ اتّحاداً فذَّاً مع المشهدِ الشعري، نراهُ يرتفع ويذوبُ ذوباناً رائعاً في تركيبِ اللغة، وينصهرُ طواعية في النغمةِ الحزينة المتحدِّية، المستمدَّة كلَّ شموخها وصفائها وجلاءِ اللحظةِ الشعرية المتوَّترة المتجذرَّةِ في لهبِ القلبِ المُحبِّ وعنفوانهِ.

الشاعر لا ينحني الاَّ للجمال ولا يدين الاَّ بدينهِ حتى لو وقفَ أمامَ ربَّاتهِ الكثيرات. وحتى لو ذرفَ سخيَّ دمعهِ على أطلال علاقاتهِ فإنهُ يعلنُ أنهُ لن ينكسرَ أمام أحد. وسوفَ يساجلُ عدوَّهُ وتاريخه الدامي معاً. كما نقرأ في هذا المقطع:
عناةُ يا عناةُ .../ ها أنا أدقُّ بابَ قصركِ المنيفِ / نازفاً قطعتُ دربيَ الطويلَ /
حاملاً على يديَّ بعضَ جثَّتي / وخالعاً أمامَ ناظريكِ ثوبَ خيبتي / فباركي إن
شئتِ موتيَ الكبيرَ / أو باركي قيامتي ....../ وعلمِّيني كيفَ أستطيعُ أن أساجلَ الطغاةَ / طعنةً بطعنةٍ / وطلقةً بطلقةٍ / فقد سئمتُ رقصةَ المذبوحِ في محافلِ السلام.

وممَّا يلفتُ نظري في قصائد حسين مهّنا أنها تتقاسمُ البهاء اللفظي والرعشة الموسيقية مع باقي المنثورات والشعر العمودي، في جدَّةٍ لا ينقصُ شيءٌ من ضيائها وأصالتها المعهودة، وفي تكثيف دافق للأحاسيسِ، يشدنُّي بما يحتضنُ من خيالات، وأوصاف بكر، ومناخات، وقوَّة لهفةٍ الى المطلق، والتغنِّي بما يتركُ سحرهُ – المطلق- في الروحِ والقلبِ من فراشاتٍ وكائناتٍ جميلة، ضوئيَّة.

والرائع أنَّ الطبيعةَ أيضاً تمتزجُ امتزاجاً وثيقاً بروحِ شاعرنا وتنعجنُ بموادهِ الأوَّلية وأفكارهِ، وأصواتهِ القرمزيَّة، فحيناً نرى السنونو تمرحُ في فضاءِ قلبهِ كما تبتغي فتغمرُ دربَ حياتهِ الجديبَ بوردٍ كثيرٍ وشوكٍ أقلَّ، وحيناً آخر نراهُ على بابِ عناة نازفاً، مطالباً َّإياها أن تعلِّمهُ مساجلة الطغاة، وحيناً في غمرة الغوايةِ لتسميَّةِ حبيبتهِ الاسم الذي يليق بحبِّهِ لها وشغفهِ بجمالها، وحيناً مسائلاً معذَّباً. يقول:
لماذا جعلتِ الفؤادَ يودُّكِ هذا الودادْ ؟/ وكيفَ دخلتِ حياتي على غيرِ وعدٍ ؟/
وهل يا تُرى أصدقُ الحبِّ / ذاكَ الذي يطرقُ البابَ / _ من أنتَ....... ؟؟/
ما أنتَ ....؟ / من أينَ ....؟/ ...... ما تبتغي ؟؟!/
مطرقٌ لا يردُّ / كأني على رقعةٍ الحبِّ بعضُ مداد.
مع هذا النبض الشعري الدافئ الغنيِّ تحوَّلنا نحنُ أيضاً إلى مدادٍ غامضٍ بلا لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ، فوقَ الصفحاتِ البيضاء المحترقةِ بجمرِ الحُبِّ.

وكأني بحسين مهنا الشاعر يراوغُ قصيدته ويستلُّها من لهيبِ العنقاء ومن رمادها الأخضر الطريِّ بطريقةٍ غايةً في الأناقة التعبيريَّة والتصويريَّة والايحاءِ المعنويِّ والدلالي، وفي كثافة شعورية وصُوَرية وزخم موسيقي هادئ الجرس يذكرُّني بموسيقى الغُرَف الهادئة، الباعثة على الاسترخاء الشعوري والراحة والسكينة.
كما في هذه القصيدة:
لكِ اللهُ / ما تفعلينَ بقلبٍ أحبَّكِ / حُبَّ الرسولِ لأهلِ الكتاب
ذبحتِ مُحبَّاً ..../ فماذا عساكِ تقولينَ / في حضرةِ اللهِ يومَ الحسابْ ؟
تجسيد البعد النوستالجي هنا وتوظيفهُ بهذا الشكل الرقيق والبالغ النعومة يفتحُ أفقاً مموسَقاً من الغنائيَّة المتردِّدة العذبة، والمرهفة النَفَس، واستخدام لغة المخاطبة يشكِّلُ دلالة معرفية نورانية، إشراقية متوهجة كما في الأدب الصوفي. على الولع الظاهرِ والملموس حتى في الخفيِّ من أنَّاتِ ووجعِ قصيدة حسين مهنَّا ونصِّهِ.
ها هو يقولُ في مزجٍ بالغِ العذوبةِ والشاعرية بينَ النبرةِ العالية وحساسيَّةِ الوجدانِ العميقة، في مقطعٍ من قصيدةٍ شفيفةٍ شفَّافةِ الضوء:
سألتكِ موتاً جميلاً
اذا كنتِ حوَّاءَ / من يا تُرى قد أكون؟
سأحملُ عريكِ في مقلتيَّ / وأمشي على جمراتِ الظنونْ
ودربيَ دربُ الشقاءِ المقيمِ / وتدرينَ أني طريدُ النعيمِ
غداةَ لبسنا العراءَ وشاحاً......./ سألتكِ أن تستظلِّي / بما قد يقيكِ
من النظراتِ المريبةِ / بئسَ الزنى في العيون.
لا أعرف بماذا أصفُ روعة هذا الكلام؟ وخصوصاً الشطر الأخير، إنهُ ولا شكَّ أعلى بكثيرٍ من السحرِ، وأغلى من غار النصر.

وفي فسحةٍ أخرى، من أريجِ العبارة وعطرها الأنثويِّ، ومن تجليَّات قيس بن الملوَّح في عشيَّاتِ ليلى العامرية، يطلُّ شاعرنا في قصيدةٍ عذراء فتدهشني مزاميرهُ إذ أسمعهُ يقول:
أُجُمِّعُ حُبَّ النساءِ / بحبِّ أُسميهِ .../ ماذا أُسمِّيهِ... ؟ / قيسٌ يسمِّيهِ ليلى / إذن / أُسميهِ باسمكِ / - لا لن أبوحْ : وعدتكِ الاَّ أبوحَ / فحبكِ سرِّي الجميلُ
وبعضُ الغرامْ / إذا كانَ بالسرِ أحلى.
التساؤل في هذه القصيدة يبلغُ قمة الذكاء الشعري في انسيابيةٍ تحملُ الكثير من الخفةِ والرقة والشفافية واللوعة والحنين، أكادُ هنا أن المسَ بجدارة بعض الوهج النابع من المهارة الفردية والحذق الشعري العالي الذكاء، والرؤى الصادقة، أكادُ في هذه القصيدة كما في قصائد كثيرة غيرها أن ألمسَ الدموع العاشقة الحقيقية التي لا تفيض الاَّ من أحداقِ العشَّاق، وأشعرَ بصدى هذا الكلام يتوِّجُ في نفسي حلماً غائباً، حلما بالظفرِ ربمَّا أو بالخسارةِ، بالحزنِ على فقدانِ شيءٍ ما، بالفرحِ الذي يعدُ باستردادهِ مرةً أخرى، ويمنحُ لذةَ الشعورِ بالعثورِ على نجومهِ الضائعة.

أعترفُ أنني نادراً ما يشدُّني شعرٌ لقراءتهِ، حتى لو كانَ للكبار، نادراً ما أقرأُ شعراً بكلِّ هذا الحنوِّ والحدبِ والتفاعل الخيميائي العجيب، وبكلِّ هذا التأثرِّ العاطفي الإنساني والوجداني، ولا أذكرُ إلاَّ دواوين تُعدُّ على أصابعِ اليدين، مثل "خذ وردة الثلجِ، خذ القيروانية " لسعدي يوسف أو "كأني غريبكِ بينَ النساء" لشوقي بزيع أو " سرير الغريبة " و"لماذا تركت الحصانَ وحيداً" لمحمود درويش أو "ضجر الذئب " ليوسف أبو لوز، أو "أوَّل الجسد آخر البحر "لأدونيس" أو "طعم قديم للحلم" لوليد منير، أو "إنَّ بي رغبةً للبكاء" لأحمد العوَّاضي، مرجعيَّات شعرية نمتْ تحت جلدي ونامتْ منذُ نعومةِ الأظفارِ في الأشعار، لا زلتُ أعتبرها نقاط تحوُّل، أو كواكبَ تسكنني، أو مخلوقات غامضة تركت شيئاً غريباً فيَّ، أنحني أمامها بخشوعِ راهبٍ وبرهبةِ عاشقٍ للأبجدية، وأضمُّ إليها اليوم ديوانيْ حسين مهنّا الصادرينِ مؤخراً، وبكثير من الاعتزاز والفخر، وبدفقٍ هائلٍ من المحبة النقيَّة.


حزيران 2008

*****

" ففي الصيفِ لا بدَّ يأتي نزار "
(في ذكرى عقدٍ على رحيلهِ)

أذكرُ ذاتَ صباحٍ ربيعيِّ غائمٍ وماطرِ في مطالعِ أيَّار بعيدٍ قبل عشر سنوات كيف سافرت إلى مدينةِ الناصرةِ لشراءِ بضعة دواوين للشاعر السوري الكبير والمُختلفِ عليهِ نزار قبّاني. كان حينها قد رحلَ قبل أيامٍ معدودات، وكنتُ في شوقٍ لأقفَ على ماهيَّةِ وسرِّ هذا الشاعر المثير للجدل والاهتمام والاعجاب، خصوصاً وأنني لم أقرأه تلك القراءة الكافية العميقة إلَّا في نطاقٍ محدود كانت تتيحه مكتبة المدرسةِ أو منهاج التعليم أو الجرائد التي وصلت الى يدي آنذاك.
إنتقيتُ أكثر من أهمَّ عشرة دواوين لنزار من بينها ديوانه الأوّل " قالت لي السمراء" الى جانب " الرسم بالكلمات" و"هل تسمعين صراخَ أحزاني " و"قصيدة بلقيس" وغيرها. وحاولت الغوص في شعريَّة واحدٍ من ألمعِ وأغزر وأمهر وأصفى الأصوات في قيثارة الشعر العربي لا في عصره الحديث بل في عصورهِ جميعها.
لا أظنُّ أن رحيل الشاعر كان محفِّزاً لي لقراءتهِ واستكشاف لمعان ابداعهِ الخفيِّ كالمحارِ والظاهرِ كالشمسِ في عليائها. بل الإختلاف عليه من طرف النقاد وكثرة الهمز واللمز فيه ولم يوارى جثمانه الغضُّ الثرى بعد.

رغم قراءاتي الكثيرة للمدرسة الرومانسية الساذجة بأفكارها في النصف الأوَّل من القرن العشرين، التي انتمى اليها نزار ولم ينتمِ، أقصد أنه إستفادَ منها ولم يسرْ في نهجها، ورغم إعجابهِ بشعر شعرائها الكبار أمثال إلياس ابو شبكة وعلى محمود طه وعمر أبو ريشة. فإنني وجدت لاحقاً أنه مختلفٌ كثيراً في أدقِّ تفاصيلِ كتابتهِ الشعرية حتى عن أكثرهم وأعمقهم رومانسيةً وتجديداً وتمرداً على القديم، إنَّ نزار قباني شيءٌ آخر مختلف ومتغيرٌ ولا يمتُّ الى ما قبلهِ من رؤى شعرية ورؤيةِ الى القصيدة المستقبلية وطريقة تفكير، وموضوعات فنيَّة، بأية صلة، أنهُ من أعظم أوائل المؤسسينَ لمدرسة الشعر الحديث وأحدُ أولئك الذين حوَّلوا الشعر العربي الى " خبزٍ يوميٍّ " على حد تعبيرهِ، بعدما كسروا التابوهات المقدَّسة تكسيراً يليق بها على أعتاب القصيدة، وبعدما أشعلوا الحرائق في الذائقة العربية العامة الجماهيرية والنخبوية وفي اللغة المتوارثة وثيابها الرثَّة.

لم يُحارَب نزار قباني من جهات ثقافية أو دينية أو سياسية أو إجتماعية إلاَّ لأنَ صدقهُ الفطري الإنساني قد أخذ بفضحِ جهلها وتخلَّفها ومحاولة التمردَّ عليها، كلُّ النقاد الذينَ فتحوا نيرانهم عليهِ كانوا ينتمونَ بوعيهم الى ضلال مرحلة بائدة ولم يروا أبعد من سياج أنفسهم أو ما وراءَ نوافذ أرواحهم، أرادوا للشعر العربي أن يبقى ممثِّلاً مملَّ الدور، وللمرأة أن تبقى تمثالاً خزفياً جامداً في النصوص والأدبيَّات.
أظنُّ أنَّ أعظم ما في نزار قباني صدقهُ الذي يجعلك لا ترى في سهولة كتابتهِ الشعرية وقرب المجاز والصور والمعاني من المُتخيَّل أيَّ نقصانٍ أو مذمةً شعرية، بل ترى اجتياحاً طاغياً نبيلاً لذائقة جماهيرية استعبدتها زمناً ليسَ قصيراً كليشيهات فارغة من أيِّ مضمون حيٍّ، جديد، وطازج، يلمسُ قضايا تهمُّ الإنسان المعاصر في القرن العشرين، ولا يستوحي ويستلهم الماضي بالضرورة.

عشقَ نزار سوريا عشقاً أسطورياً وتغزلَّ بها وأحبَّ مدينتهُ الأم بامتيازٍ قلَّ نظيره، رغم طوافه في كلِّ أرجاء الدنيا بقيَ خيطٌ واحدٌ من اللازورد، من الضوء، من المخملِ الشاميِّ، من الدانتيل الدمشقيِّ يشدُّهُ إليها، وإلى أزهارها وشوارعها وحاراتها وروائحها وطيورها. حتى أنه لم يستطع التفلَّت من الحنين الشديد الممضِّ الى الكتابة عنها كما يكتب عن امرأة أو حبيبةٍ في شعرهِ، لقد ملكت حواسه وملأتها بالعطر النفَّاذ، اسمعهُ يخاطب شقيقه صباح القباني في تقديمهِ لكراسة معرض رسومهِ وتأمَّل كيف كان وطنه بالنسبة لهُ لوحةً فريدةً تضمُّ كلَّ فنون الرسم والتجريد، وتحوي جميع العناصر التي خلعَ عليها صفة السحر، يقول:

"عندما نثر صباح قباني مئات الصور التي رسمها لبلادي أمامي لأكتب عناوينها، شعرت أن جميع اشجار التين، والحور، والصفصاف، والزيتون، والورد البلدي تنبت في راحة يدي.. وان الخراف الربيعية تترك بعضا من صوفها الأبيض على أصابعي. ‏
صارت يدي ـ وهي تقلب الصور ـ يداً أخرى: عليها يسقط المطر، وتكبر سنابل القمح، ويسرح الرعيان، ويدبك الراقصون، ويغني الحصادون، وتملأ القرويات من ينابيعها الجرار، وتتناثر عليها مضارب البدو، وإيقاعات المهباج، وعبق القهوة العربية الطيبة. ‏
صارت يدي مسرحاً تمتزج فوقه الألوان، والأصوات، والأهازيج، وتذوب كلها في نشيد واحد.. هو نشيد الأرض. ‏
صارت يدي ـ والشكر لصباح ـ مرعى جَمَال. ‏
وكما أخصبت يدي، وهي تتنزه مع صباح على طرقات بلادنا الجميلة التي نعرفها ولا نعرفها، ستخصب أيديكم، فصباح قباني يضع الوطن في راحة يدنا كما توضع التفاحة في يد طفل يرى التفاح للمرة الأولى. ‏
سورية، تفاحة شهية، سكرية الرحيق، لكن أكثرنا مع الأسف لم يجرب أن يصل الى منابع النكهة والحلاوة في داخلها. ‏
سورية، عند أكثرنا تفاحة ذهنية، تفاحة من المجردات، والخرائط، والأناشيد المدرسية. ‏
لكن الوطن، ليصبح وطناً حقيقياً، لابد أن يخرج من نطاق التجريد ليكون وطناً نراه، ونشمه، ونلمسه بالأصابع. فلا وطن خارج نطاق الحواس الخمس. ‏
وصباح قباني حاول بمعرضه الصغير أن يُخرج التفاحة الجميلة من دهاليز الذهن وأقبيته.. ويضعها بكل ملاستها واستدارتها في تجويف يدنا. ‏
صور صباح الجميلة أهدتنا وطننا الجميل.. مرة ثانية". ‏
نزار قباني

منذُ زمن وفكرة الكتابة عن نزار تلحُّ عليَّ ولكن ماذا أكتب عن شاعر ربمَّا لم يكتب عن أيَّ شاعر عربي آخر مقدار ما كُتبَ عنه ؟ في مقالات وشهادات وحوارات وكتب نقدية وأدبية ورسائل جامعية وغيرها .

نزار في نظري المتواضع مزيجٌ نادرٌ وفي غاية الروعة للشاعرين الفرنسيين
"بودلير " و"بريفيير " في مزجهِ بين النزعة الإباحية الجنسية والعادي اليوميِّ أو الشيء وضدهُ في بساطةٍ غنيةٍ، لا يحقُّ لأيٍّ كان أن ينكرَ فضلهُ على القصيدة العربية وعلى ايقاعاتها وتطوير موضوعاتها واغناء صوَرها وتجريب أساليبها وتراكيبها. شعرهُ خير من حطمَّ الذهنية الشعريَّة الى حين، لمائيَّة الحياةِ فيه.

نزار ليس شاعر عمقٍ فكريٍّ بل هو شاعرُ عمقٍ عاطفيٍّ وهذا ما أخذه عليه النقاد وعابوهُ. ولكنَّ شعريَّتهُ الحقيقية لا توجبهُ أن يكونَ الاَّ كما يريدُ هو لا كما يريدُ له الغير، لا أرى في هجوم النقَّاد عليه أيَّ مبرِّرٍ، هو أرادَ أن يجعلَ من الشعر طيراً صباحيَّا يحطُّ على نافذةِ معشوقتهِ، حراً من أغلال الفكر والأسئلة الوجودية. وهو من قال ذات يوم " أعتقد أن التغيير الكبير الذي أحدثته، هو إنزال الشعر إلى الشارع العام، وتحويله إلى مادة متفجرة، وحركة عصيان شعبية. لا أحد يستطيع أن يقول لك اليوم إنّه لا يحب الشعر، أو لا يقرأه أو لا يفهمه. فلقد مزجت الشعر السياسي والشعبي في كأس واحدة، وأزلت الكلفة نهائياً بين القصيدة وبين من كتبت من أجلهم. بكلمة واحدة، ألغيت فاكهة الشعر من حياة الناس، وأطعمتهم حنطة الشعر".

وكما يقول الكاتب وائل عبد الفتاح عنهُ " بحث عن لغة مختزلة، كما فعل يوسف إدريس عندما عثر على لغة سرد خارج التطوّر الرتيب لكتابة القصص. بدايتهما كانت تقريباً في وقت واحد. «أرخص ليالي» كتاب يوسف إدريس الأول كان في 1952، قبلها بسنوات قليلة، كانت مجموعة نزار الأولى «قالت لي السمراء» تصدر في بيروت. الاثنان طالعان من نكبة فلسطين وما تلاها من تفكيك لمؤسسات الفن والذوق، ناهيك بالسياسة والسلطة.
ولم يكن جديداً على الشعر العربي الأوصاف الحسية للمرأة، لكن نزار ظهر في فترة استعارت البرجوازية أخلاقها من العصر الفيكتوري، ولم يتمرد شعراؤها على الرومانتيكية الساذجة. كان جواً خاملاً، تقليدياً، وكان طبيعياً أن تكون قصائد تتحدث عن النهد والحلمات والنبيذ والحشيش والأفخاذ... قنبلة في ساحة معبد فرعوني ".

فهمَ نزار عقليَّة الرجل الشرقي وعرفَ كيفَ ينقلُ أقدامهُ في حقل الألغام العربي. وعرفَ جيداً كيفَ يغتنمُ فرص النجاحِ والفتح، في حينَ ضيعَّ الكثير من مجايليهِ الفرص الذهبيَّة الكثيرة، ممَّا أبقى رنينهُ يصلُّ الى ما وراء المجد والزمن بينما تلاشت أصوات شعراء عرب آخرين أتوا قبلهُ وبعدهُ في رياحِ الخمول وكثرة الأسماء.

أنا أنتمي الى نزار قباني، أنتمي الى هذه الظاهرة الفريدة والحالة الشعرية الهائلة التي دوَّخت العالم العربي من أقصاه الى أقصاه أكثر من نصف قرن، أنتمي الى قصائده التى تربَّى عليها كلُّ الشعراء العرب الآتين بعده لا أستثني أحداً، اعترفوا بذلك أو أنكروا، ولا أريد له أن يكونَ عميقاً كما أرادوهُ هُم والنقَّاد، بل أريدهُ ماضياً كالسيفِ وخفيفاً كذاكرة الندى ومؤجلاً كقرنفلِ الصباح وحاراً كمطرٍ في نيسانْ.

************

نزيفُ الأسئلة
بين التكرُّس الأدبيِّ وهموم الواقع

منذ تلك المساءات الشفافة البعيدة التي أسرتني بها حبال الشغف غير المرئية بهذه اللغة المتفرّدة وتخييلاتها ورؤاها المشتعلة في جسد القصيدة العربيّه منذ أكثر من خمسة عشر قرناً، ومنذ تلك اللحظات الزرقاء الغاربة وراء شفق الصبا كأنها ظلال عيون حور، وأنا في مدٍّ وجزر من يقيني وشعوري الساحر بشبه ذنب لتضحيتي في سبيل هذا الشغف بالغالي والرخيص عندي، كما أن الفجوة بين المشهد الواقعي الحقيقي والحلم الرؤيوي لديَّ تزدادُ إتساعاً وعمقاً وغربة ً يوماً على يوم بل لحظة ً على لحظة وسط هذه التيارات العاتية للمذاهب الأدبية والأفكار الجديدة، وفي خضَّم التناحر الثقافي الرقمي الذي بات يقنعنا بأن ما يكتب اليوم من نثيرات عادية تبحث عن الشعر ولا تجده وتملأ عالمنا هو الصورة الحقيقية والنموذج الأعلى للشعر العربي، ويجهل أصحابها أن الشعر هو موروث ولغة وفكر وعاطفة وخيال وذوق ومقاييس جمالية عالية المستوى وايقاع روحي، تجتمع كلُّها في هورمونيا عجيبة في اتحادٍّ يصعبُ تفكيك ذراته.
وأصبح لزاما عليَّ أن أردَّ على حيرة القلب فيما يفسرُّ انهزامية الشعر وغروب شمسه عندنا وفي أماكن أخرى من العالم، فإنَّ الكثير من الأسئلة النازفه والمتعلِّقة بالمصير الحتمي للشعر والابداع تلِّحُّ عليَّ اليوم كما لم تلح عليَّ بمثل هذا الزخم وبهذه الحساسيَّة في أيِّ وقتٍ مضى، ذلك أننا نعيش على شفا مرحلة فاصلة في تاريخ البشر من انعدام مركزيَّة الخطاب الحضاري، المتمثلة بالفنون والآداب، وانتهاء زمن التفرُّد والنجوميَّة والأضواء، وفقدان الكلمة لقيمتها العليا.
أحياناً أقول أن هذا التراجع في القيمة الأدبية أو الفكرية عندنا يرجع الى فقر في تجاربنا الحياتية بالقياس الى الغرب، أو يعود الى عقلية غير متحرِّرة بعد من قيود عديدة منها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية.
نعم لدينا مواهب ربما بحجم مدهش ولكننا لا نملك أدباً كأدب الغير ولا أدباء مكرَّسين وناجحين في الوقت نفسه كهنري ميلر وماركيز وتوماس مان وغيرهم لسبب بسيط، ذلك لأنهم جعلوا من الحرية الانسانية قيمة عليا فوق كل القيم والاعتبارات، ولأنَّ لغتهم ممتزجة حتى القرار بدماء تجاربهم الحياتية، ومتقاطعة مع خطوطها الكثيرة الطولية والعرضية، ومتماهية مع ذواتهم حتى النهاية، ولا سلطة لدين أو أخلاقيات أو تقاليد مجتمع على أقلامهم، هنالك فقط اخلاص للفن والتجربة، هذا عدا عن تقديس الكلمة بوصفها المادة الخام المستعملة في صياغة الملحمة والتاريخ والمستقبل.
هذه التداعيات ربَّما تفتَّحت جروحها من قبل، ولكنها لم تكن ذات وجعٍ مقلق كما هي الآن، كنت في حداثتي أحاول أن أعزِّي النفس وأرفو جراحها بشتَّى الأسباب الداعية الى التفاؤل والشجاعة في مواجهة هذه الحياة بسلاح الشعر ولكني في هذا الوقت بالذات أعرف كم كانت نزوة الحداثة جامحة، وكم كان مسكوناً حصان تلك المرحلة بعد الطفولية بلهيب بابلو نيرودا، كانت الأشياء "كل أشياء الكون" لا تزال محتفظة في ذهنيتي الغضةِ تلك بكلِّ حرارتها وغناها الوجودي المعنويِّ، كان الواقع بكلِّ صوره وتجلياته اللانهائية يبدو لي وكأنه مأسطرٌ "من أسطورة" ولم تنشرخ مراياه بعد وتتكسَّر أمام عينيَّ كما هي الآن، كسرٌ من نجوم على شاطئ وجداني، كنت أعيش بالروح في صميم رومانطيقية أوائل القرن التاسع عشر الأوروبية وكان جسدي في أواخر القرن العشرين، أي أنَّ قرنين من الزمن تقريباً كانا يفصلان ما بين روحي وجسدي، وكان الشعر بأجنحته يشرع لي أبواباً سماويَّة غريبة ويدشنُّ أرضي بالفتوحات الجديدة، كنت مثل شاعر دون جوان يعيش ويدور في مدار وهمه يكتب حياته قصيدةً في انتظار عبثيِّ لمن أحب حتى لو كان انتظاره أطول وأسخف من انتظار "جودو" بآلاف المرَّات.
كنت أعتقد كما يعتقد الحالم أن الشعر لا زال الملك أو كما قال نزار قباني يوما عنه بأنه "ملك الملوك"، هذا إحساس يصحبني وأحاول أن أخدع نفسي به، ولكن الحقيقة الواقعية تقول أن الشعر لم يعد ملكاً ولا حتى صعلوكاً بل أقل من ذلك بكثير، ولم تعد هذه المهنة الملعونة / المقدَّسة تردُّ على تقلبات روح العصر وسؤالها الوجوديِّ الصعب.
ولقد قادني إحساسي بهذ الفراغ النسبي لجماليات الحياة وروحانيتها وشعوري بضحالة تجربتها وسطحيتها أن أطرح على شاعر فلسطيني يُعتبر رمزا شعرياً لامعا لا في مرحلة سابقة وحسب بل في الراهن واللاحق سؤالاً بديهيَّا يلخصُّ الكثير من قلق الريح والحبر فيَّ.
ماذا يحتاج الشاعر العربيُّ اليوم لكي "يكون"؟
وبكل ما تحمل هذه أل "يكون" من معان ٍ ودلالات وأبعاد وتصوُّرات.
في حديث لي مع الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم قال أن على الشاعر لكي يكون حاضراً في المشهد الإبداعي العربي بقوة ونجاح وعمق عليه أن تتوفَّر له ثلاثة أسباب أو عناصر مهمَّة.
العنصر الأوَّل هو الاستعداد النفسي السيكولوجي الداعي الى تحفيز السليقة البديهية لدى الشاعر للكتابة ومحاورة الأشياء، بالاضافة الى الموهبة الفطرية التي تولد معه وتنمو بالرعاية والقراءة والتثقيف وتصقلها الأسفار، وهي الشيء الوحيد المحتفظ بفرادة الإنسان وتميّز طابعه.
والعنصر الثاني فهو ما أسماه القاسم بالرهبنة الشعرية أو الانقطاع والتكرُّس للشعر والاخلاص له والإيمان بقيمته العليا وجعله فوق كل اعتبار آخر، مهما كانت العواقب والظروف الحياتية، بوصفه أحد آخر المحاربين الوجوديين على كياننا كبشر نملك أحاسيسَ وعواطفَ سامية ويجدر بنا أن التعبير عنها وفق أهوائنا وأحلامنا غير المنهوبة، أمَّا العنصر الأخير فهو التجربة الشخصية الحياتية بكل ما فيها من تقلُّبات ورغبات وبكل ما تحمل من جموح الحياة وتناقضاتها، كأن يبيت الإنسان في سجن وضيع ويصبح في فندق سبعة نجوم، أو تقذفه الحياة من قمة أحلامه الى هاوية جحيمه بين عشيَّة وضحاها، وأضاف أيضاً أن الشاعر لا تصنعه الأضواء ولا الدعاية بقدر ما يصنعه نصه، ولا فائدة من تلميع اسم شاعر معيَّن إذا كان ما يكتبه رديئاً، ففي عصور خلت إمتلأت الأرض بأصوات مندثرة لشعراء كثيرين عاصروا هوميروس والمتنبي ودانتي وشكسبير ووركا، إذ أن المقياس الوحيد للنجاح الأدبي الحقيقي هو القيمة الكتابية وليس أي شيء آخر.
وأردتُ هنا أن أشدِّدَ على كلمة "رهبنة" لأن هذا المصطلح فضفاض، لا أعتقد أنه يناسب زماننا ومكاننا بقدر ما كان يناسب الماضي، كنت مقتنعاً أنه لا يفيد شيءٌ وسط هذا الكم الهائل من الأسماء وأمام أساليب وطرق جديدة لنشر الابداع وتوصيله بأسهل الطرق الى عقلية قارئ مشغول بسطحيَّات الأمور ومنهمك بما يتيحه العصر من شواغل أخرى أكثر تسليةً وبساطةً ولا تشقُّ على الذهن، أما اليوم فالرهبنة الشعرية التي يحلم بها بعض المثقفين بايمان الشعراء العميق علَّ مركبها يوصلهم الى شواطئ الابداع الجديدة والنائية قد تكسَّرت هي ومركبها الهش على صخور الواقع القاسية وتناثر حطامها على شاطئ الحياة.
كنت مسكوناً بنار نبيلة ومأخوذا بروعة هذا التمردِّ الجليِّ ونبرته التي أخرجتني من صلب واقعي بعض الشيء وأشعلت حطام هذا المركب الغريق "مركب الرهبنة الشعرية" وحوَّلته رماداً لعنقاء أُخرى، بينما كان صوت القاسم يفيض حباً لهذا الوطن وترابه، وحماسةً وكرماً قلمَّا وجدتهما في شاعر غيره، كان بسيطا خلوقاً كفارس القصيدة النبيل، الذي ما زال من أهمِّ المدافعين عن قداسة وأصالة لغتنا ومن المتغنِّين بروعة الشعر العربي القديم واشراقة ديباجته وغنى تجربته، هو حارس جمالية الموروث الشعري العربي ومن أبرز القابضين على جمر القصيدة المقاومة والهادرة في وجه الظلم والقمع والموت العربي.
ولكني في أعماق نفسي كنت أحسُّ أن هذا الكلام ربما يكون حماسيَّاً أو ربما يكون عزاءً حميماً لي من راهب الشعر العربي المتمرِّد، كننت في دخيلتي أقول أرجو أن يكون هذا الكلام الذي يقال صحيحاً لأحاول أن أرمِّمَ به بعض خراب الروح، وأشحن همتي لكتابة قصيدة جديدة، أريدها أن تنطلق كفراشةٍ أو كطير سنونو في المدى وتذوب كقطرة ضوء بنفسجية اللون على أعتاب الشمس، وأنا واثق أشدَّ الثقة من أن يحتضر، وليس هذا الغناء المنطلق من حناجرنا بين الحين والحين، الاَّ مارشاً جنائزياً في طريق الشعر الأخيرة.

***

فرادةُ القراءة والاضافة

أحياناً كثيرة أسأل نفسي ما جدوى أن أكتب نصاً شعرياً آخر؟ ما فائدة أن أضيف الى هذا الكم المعرفي الهائل كلمة بسيطة؟ إذا كانت لا تحملُ في طياتها فرادة عظيمة، وأنا مؤمن أعمق الإيمان أني كمن يضيف الى محيط زاخر بالمياه قطرة ماء واحدة لا تزن ذرة من خردلٍ، أو يشعلُ شمعة خضراء صغيرة في نهار مليء بالشموس العظيمة الضوء، كثيراً ما ينتابني شعورٌ بأني عبثاً أضيعُ عمري وأني لن أصنع أفضل ممّا صنع غيري أو أضيف جديداً مبتكراً، ويراودني شوقٌ كبيرٌ حينها الى الصمت الجميل "صمت رمبو" أمام هذه الملايين من المجلدات والكتب التي تفيض وتزخرُ بها مكتبات العالم وصروحه الحضارية الثقافية، وأقول في سرِّي "هل هناك شيءٌ جديٌّ لم يقال بعد، أو هل هناك سؤال لم يسأل حتى الآن؟" وما زال محتفظاً بحرارته الأولى وبجدارة أن يُطرح.
أنا أدعو نفسي دائماً الى تجاهل هذا السؤال تماماً وأحاول أن أتمرّد على روتينية الحياة والكون القاسية، ولكنَّ خوفاً في داخلي ينمو ويحدثني بأني ربمّا سأستيقظ في غدٍ بعيدٍ ذات صباح ربيعيٍّ بلا قصيدة، أستيقظ بلا رغبة حية بتأثيث هذه الفوضى العارمة التي تجتاح ما حولنا، وتحوّله الى رماد عنقاء ملوَّن، أو الى قبض ريح.
ربمّا سأستيقظ بعد انطفاء شعلة العاطفة البودليرية العظيمة وتلاشي لمعان الذكاء الشعوري الراجح على كل ملكاتي المكتسبة، أقصدُ بذكائي الشعوري تفجرَّ الحسِّ الإنساني المتصيّد لكل متناهٍ في الصغر من ذرات الحياة والوجود، أما الملكات المكتسبة فهي كثيرة منها اكتساب العلم والثقافة والإلمام باللغات العديدة لتوسيع مدارك العقل وعاطفة القلب.
إن لهفتي في ابتداع شيءٍ جديد له خصوصيته وجدَّته وتميَّزه هي ما يدفعني غالبا الى التمسِّك بأطياف الحلم الأخير المتلاشي في فضاء التفجُّرِ المعرفي الهائل ووسط تصحرِّ القصيدة الكليِّ في مناخ فقير وخالٍ من الإضافات النوعيَّة أو تلك المتفلتة من سطوة التابوهات عليها.
ولكن هل هناك عبقرية في الخلق الإبداعي من غير عبقرية فهم ومحاورة ومكاشفة الأصل الموروث والمؤثرِّ ِفي نفس قارئه؟ بملامسة مواطن القوة والجمال والجدّة فيه، والتأسيس عليها، وهذا لا يأتي الاَّ عبر قراءة كاشفة ونافذة لها فرادة الحسِّ وعبقريته، فكلُّ الإبداع في نظري كتابة واعية على كتابة واعية أخرى.
رغم الوعود الكثيرة التي قطعتها على نفسي بقراءة قدر ما أستطيع من المأثور الفكري الشعري القديم أو الغربي الحديث خصوصاً الروائي الذي طالما تمنَّيت أن أكشف خفايا سحره وأستبطن جماله، إلاّ أني حتى هذه اللحظة لم أحقِّق سوى الانجاز القليل المتواضع وما زلت في انتظار الفتح الكبير عله يغني العاطفة والعقل.
ألم أعد نفسي بقراءة الإلياذة بصمت داخلي وبنفس طويل أو ملحمة جلجامش البابلية كاملة قراءة كاشفة وفاحصة ومتأنية ومن غير توقفٍّ؟ ولم أفعل، وهذا ينطبق على مؤلفات الأدباء الروس الكبار أمثال دوستوفسكي وتولوستوي وغوركي وبوشكين، ومؤلفات الكتَّاب الفرنسيين ومنهم هوغو وفلوبير وبلزاك، والأدباء الألمان وعلى رأسهم جيته وتوماس مان وشيلر، أقصد بقرائتهم قراءةً كاشفة أصلُ فيها الى قاع نفسية الكاتب، والحقيقة المطلقة لعراء الذات أمام بياض الورقة، والى ما أراد الكاتب أن يوصله الى الغير، من خلال تمعُّنِ الحبر الخفي المتلألئ بين ثنايا سطوره والأهمِّ من كلِّ هذا أن أصل الى عبقريَّة الإضافة الحقيقية وفرادتها داخل النص، وسأضرب مثلاً على هذا من خلال قراءتي لأعمال الكاتب اللبناني العالمي المبدع والمثير للجدل جبران خليل جبران فهو متجددٌ في كل أوان وقادر على إدهاشك وتغيير رأيك المسبق عنه في كلِّ مرةٍ جديدة تقرأهُ، ففي كل قراءة تجد نفساً آخرَ وروحاً جديدة وعالماً مختلفاً وكأنَّ الذي يكتب شخصٌ آخر، فهو يختزن طبقات ثقافية رهيبة ويمتلك بعداً انسانياً عميق الجذور والأصالة، تستطيع أن تكتشف في كل قراءة نهرا جديداً يتغلغلُ فيكَ ويرفُّ كأنه طائرٌ غريبٌ وتلمسَ ضوءاً يدغدغُ أطرافك وقيمة فنيَّة وإنسانية فذةً بالإضافة الى حلم متناسخ عبر القراءات، فجبران كاتبٌ يعرف كيف يضيف وكيف يحرِّرُ ذاته تحريراً كاملا في الكتابة، وهذا التجدُّد الدائم لماء الإبداع وجدته أيضاً عند شاعر لبناني جنوبي جددَّ في بلورة القصيدة العربية وإشكالية حداثتها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي هو محمد علي شمس الدين فمنذ قراءتي الأولى له قبل سنوات عدة ما زال يثير فيَّ الفضول والرغبة في كشف قاموسه الشعري المكثّف والصعب والمشاكس والمستند الى عالم غنيٍّ متنوعٍّ ولا نهائيٍّ من التصاوير التي تشكلُّ خامة كتابته الشعرية، فهو عميق الغور متعددُّ المعاني يغلب على شعره الغموض الشفيف ومساءلة الموجودات الجمالية، وتفيض كتابته بتوظيف الرموز التاريخية والأسطورية الكثيرة بما يشبه الإيحاء المجازي والتناص التاريخي في جدَّة ٍ ابداعية واحتراف أدبي مشهود، ممَّا يجدِّدُ في روح ونهر الشعر العربي الحديث.
وحتى هذه اللحظة أتشبّثُّ بالمنى وأتمسكُّ بحبال الوهم والحقيقة علنَّي أحققُّ وعدي لنفسي، أقول أحيانا ربما جنى عليَّ الشعر بأن وهبني لعنة رفاهية القراءة المتمثلَّة بمزاجيتي الغريبة المرهفة القصيرة النفس أحياناً، والتي ما أن تهبط على زهرة حتى تطير الى أخرى وهنا أقصد المواد الفكرية والفلسفية المستعصية والتي تذكرني بلغة دروس الحساب الجافة، فكل قراءاتي الفكرية الأولى كانت كهبوب النسيم الخفيف على حديقة المعرفة، ولم تكن قراءة المقيم المتبصِّر المستجلي للخفايا.
كثيرا ما حرَّضني الأدباء المصريون الكبار "أُدباء الحديث الخفيض" أمثال سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وأنيس منصور، وبقوة لا يُصمَد في وجهها على اقتحام عوالم أُدباء الانسانية خصوصاً في العام الأخير كما لم يحرضني أحدٌ يوماً ما على التوَّفر الفسيح الجادِّ على كنوز هذا الأدب، والنهل من ينابيعه الثرَّة الصافية التي لا تنضب الى الأبد، وأذكر كيف كان الكاتب المصري توفيق الحكيم أوَّل من حرَّضني على قراءة شيء من تراث الشاعر الفرنسي الكبير جان كوكتو، ولكنني في كل مرةٍ كنت أشعر بضآلة ما يكتب اليوم إزاءهم، وأخاف أن يجيء ذلك اليوم الذي أصمت فيه أمام روعة وإدهاش أعمالهم، أخاف ألاَّ أُضيف الى ما قدَّمت أياديهم شيئاً يُحفظُ لي، وأخاف من صباحٍ بلا قصيدة أو قصيدة بلا صباح يعانق جمال صمتها.

***

وداعاً نزيه خير .. وداعاً عاشقَ الياسمين

وأخيراً رحلَ نزيه خير، عاشقُ الياسمين الحييُّ وغرّيدُ الكرمل وما زال ترجيعُ نشيد إنشادهِ يترددُّ في كياننا، رحلَ مستعجلاً وقبلَ أوان إزهار اللوز، قبل أن يعانق مدينته الضائعة ويمسح الثلج عن خدِّها، قبل أن يكملَ نبوءة الريح التي تغنىَّ بها طويلاً، كأنه وقصيدته على سفر الى ما وراء المطلق.
لا زلتُ أذكرُ صوته الشجيَّ الممسوح بفضة الدمع وعبقه الحار والمشحون بعاطفة الصيف الغريب يتسربُّ الى قرار كياني الجريح في ذلك الصباح التموزي العذب الباهر ريحه والمسكون بالتجليَّات.
لن أذكر الآن إطراءه لديوانيَّ الأولين وكلامه الحميم عنهما وهو الذي لم يجامل أحدا أبداً ولم يطرِ شاعراً في وجهه الاَّ فيما ندر.
لن أذكر صدق وفائه الذي فاض من حديثه ذاك، فكلنا نعرفه في طوايا نفوسنا ونقرُّ بسموِّ روح صاحبه،
بل سأذكرُ ندمي المتفتحِّ مثل زهرة النار، ندمي لأني تقاعست ربَّما بلا سبب عن تلبية دعوته عندما دعاني الى لقاء في برنامجه الأدبي الثقافي الأثير عندي "شرفة" ذلك البرنامج الذي كان يعدُّه إعداداً راقياً ويقدّمه في قناة 33 في التلفزيون. طلبتُ منه حينها بأدب وحبٍ ولطف جمِّ أن يُرجئَ مشاركتي ولقائي به الى المستقبل غير المنظور، وكم هي خسارتي فادحة الآن، ماذا كان سيحدثُ لو كنت إستثمرت هذا اللقاء معه؟
لا أدري ما هو سبب تقاعسي عن هذه المشاركة آنذاك وكان أجدر بي أن أغتنم مثل هذه الفرصة التي ضيعتها كما ضيَّعت غيرها، لترسيخ قناعتي بما أقوم به.
أهو الحياء أم الخوف؟ أم شيءٌ آخر؟ وقتها فقط حين لم يعاتبني الشاعر الرقيق الناعم الكلام أتهمتُ نفسي بهما.
رغم مشاغلي الكثيرة أيام السبت لم أكن لأفوّت فرصة مشاهدته والإستماع الى محاوراته الذكية الصريحة وأسئلته المتغلغلة في أعماق الوعي الثقافي السائد عندنا، كانت تشدني وتأسرني طريقته في مناقشة المواضيع، وعباراته الشفافة المنحوته من صخر المعرفة وكانت حساسيّته الشعرية الواضحة جليّاً في مكاشفاته الكثيرة تلك سيدة المشهد.
أذكر في أحد الحلقات مع الروائي سهيل كيوان دفاعه الجريء عن ديوانيَّ الأولين.
أستطيع أن أقول الآن وبلا محاباة ورياء وتصنعٍّ، بل بثقةٍ وفخرٍ يعانقان النجوم أن نزيه خير هو الذي علَّمني الاحتفاء برائحة الطبيعة وبأنوثتها وبأسماء الورد أكثر في شعري، قاموسه الشعري قاموس جميل لعشق الأرض بأزهارها ومكانها وأبعادها ومسميَّاتها المطلقة، وهو أيضا من أغراني بحشد مواصفات ومعانقات تاريخية في تناص رائع، كيف لا وهو أحد شعرائنا الكبار.
لا أكاد أصدقُّ حتى هذه اللحظة رحيل هذا الفارس العربي النبيل ولا أستطيع أن أتخيَّل مشهدنا الشعري خالياً من اطلالته العالية، لا أستطيع تصوَّر وجداننا الشعري الجمعي خالياً من حضور إبداعه، فهو ريحان وعبقٌ في الذاكرة، كان منفتح العقل والقلب والروح، كان أفقه مفتوحا لكل طائر غريب.
لم أسمع منه كلمة واحدة تدلُّ على ملل أو إحراج أو ما شابه في كل أحاديثي الهاتفية معه كان يشعُّ بشاشة وطيباً ومرحاً حتى في أشدِّ فترات إنشغاله، كأننا كنا متعارفين منذ سنين طويلة أو كأننا أصدقاءٌ من جيل واحد.
أذكرُ الآن مقالاته ولغته التي كانت تفيضُ حزنا ووفاءً وصدقاً إثر وفاة أيٍّ من أصدقائه الشعراء العرب، والذين منهم عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وعبد الله البردوني، وغيرهم، لم يهذبُّ لوعته أبداً، أذكر كيف كان يتفجرُّ نثره رثاءً قوياً وعاطفة صادقة ًأعظم بكثير من عاطفة كتبت مراثي المدن الأندلسية، كانت مقالاته تلك أيقونة في صدر مرحلة ذوت من سفر الوجود الشعري الفلسطيني الإنساني، وكانت تقريباً واختزالاً لذلك البعد المترامي في المسافة والهويَّه والثقافة والانتماء.
لم أمر بالدالية يوماً أو أنظر اليها وهي خبط العصا جغرافياً من هضاب طبعون إلَّا عشقتها لأجله أو تذكرته وسكنت اطمئناناً الى هذا القرب الجغرافي الروحي الشعريِّ الجماليِّ المشترك بيننا، لن أصرخ ذات يوم وأقول قولة أخيك الكبير بدر شاكر السيَّاب "قساة كلُّ من لا قيت" أو قولته الأخرى "كلُّ من أحببتُ غيركَ ما أحبوني " ولكن سأقول رغم هذا البكاء الخفيِّ الذي يملأ غصن جسدي أنني لستُ بحاجةٍ إلى دمع يهبُّ من فضاء الروح لأثبت لك حباً غامضا مجهولاً منحتكَ إيَّاه، لم تزحزحني عنه قسوةُ الآخرين وزيفُ أشباه الشعراء الفانين، فإلى جنان الخلد والشعر والنبوغ يا أبا فادي، أيها الكبير الذي عانق صوته الشجيُّ أعماق الروح مني ذات صيف جميل هادئ، الى جنة الله يا شاعراً لم يوارب يوما ولم يتلوَّن ولم يجامل أحدا وكان وفاؤه عندي مثلاً.

*****

طيور السكونك

انتقدَ أحد الكتَّاب في مجلس ضمَّني به مؤخراً.. إضافةً الى شاعرٍ آخر صديق، الحداثة الشعريه، وأردف قائلاً إن الاعجاب بالشعراء المحدثين هو آني ومرتبط بحميمية معينة تجاه شكل شعري محدَّد أو نبرة شعرية معيَّنة، وأضاف الشاعر نقدا على هذا النقد فقال إن الشعرية العربية الحالية تفتقر الى الشعراء الحقيقيين، أمثال المتنبي في شعرنا العربي القديم، والذي يعتبره صاحبنا الشاعر الأوحد في تاريخ الادب العربي عامة.
ثم إنتقل بعد ذلك الى الكلام عن الشعراء اليونانيين ,وعن الشاعرة اليونانية سافو المعبِّرة عن الوجد الانساني والفرح بالحياة والتحرق بالجمال الخالص قبل ولادة حضارات الشعوب الأخرى، وقبل نطقها بأول كلمة تعبر عن خلجات روحها بالأوصاف والتشبيهات العذراء.
كنت أسمع ولا أنكر ما يقال لكنني خرجت من المجلس وأنا مليء بالتساؤلات الغامضة حول عملية الكتابة الابداعية ومثقل بضباب القصيدة الفضي، وبسحر الأفكار الجميلة المجنحة، نفس الغموض والأفكار والرغبة الجامحة في استقصاء تجربة الغير الكتابية التي كانت وما زالت تنتابني بقوة عند سماعي لأحاديث كتَّاب وشعراء عرب وأجانب، أمثال البياتي وأدونيس ومحمود درويش وعصام العبدالله وبول شاؤول والماغوط وباولو كويلو وساراماغو وغيرهم، حول علاقة الكتابة والشعر والفن بالحياة وبطبيعة النفس البشرية والأمزجة الجمالية المختلفة.
تلك أحاديث كانت دائماً تتركني أبحث عن ذاتي الشعرية تحت سماء لا أعرفها، تماماً كما قال صديقي الكاتب، أحاديث كانت تترك فراغاً روحياً وعلامة سؤال في ذهني دائماً حول أمور كثيرة ومتشعبة، كنت أحس من خلال حديثهم أنهم يعبِّرون عن نفسي وذاتي التائهة الباحثة أبداً عن الأمثل والأجمل أكثر مما عبَّروا عن ذواتهم.
فأنا لا أفهم سر هذا الغموض الشفاف النابع من قلق الشاعر أو الفنان على مصيره، في عصر الذرَّه، والنابع أيضاً من حزن عميق أسطوري بعيد النزعة كحزن عبد القادر الجنابي أو حزن ناتان زاخ أو محمد الماغوط أو أدونيس، والقائمة طويلة.
أظن أنه من المهم أن نحاول استدعاء مخيلة الآخر المختلف، أو نمتلك حاسة اضافية تحاول التقريب بيننا وتجعلنا نتأثر بعضنا ببعض لبلورة رؤى شمولية طازجة وجديدة، وذات روح متمردة وثائرة على قيم جامدة.
أما عن مسألة انصهار النثر بالشعر أو العكس فلا بأس بأن نستمتع بنماذج راقية لنثرية بول فاليري وسعيد عقل وجبران وأمين نخلة، والاعجاب بنرجسية بروست وطاقته على التغلغل في نفس المكان وفي نفس القارىء.
إن النثر في رأيي هو بلورة المادة الكتابية والشعر هو إطلاق أجنحة لطائر حبيس في اللاوعي الذاتي.
النثر تراكم وتجمع لمخزون الوعي في بؤرة واحدة والشعر محاولة لنثر مخزون اللا وعي في الهواء الطلق. الشعر أخيرا نوع من مشاكسة فردية لروح الوجود.
ولكتابة مادة ابداعية كقصيدة مثلاً، لا بد وأن تتوفر للشاعر فسحة من الحرية على حد تعبير ناتان زاخ، والا سيجد نفسه محاصراً بما يفسد عليه احساسه بجمال الشعر والحياة، وبجمال روحه أيضا.
الشعراء هم (طيور سكونك) هذا الكوكب الموبوء بالظلم والشقاء كما يقول الشاعر السوري المعروف نزيه أبو عفش، والسكونك هذا طائر أسطوري جميل أو ربما مخلوق غريب نصفه طائر ونصفه الثاني حيوان حسَّاس، لدموعه رائحة عطر تدلُّ عليه صيادَه، فاذا وجده أخذ السكونك بالبكاء المرِّ كوسيلة أخيرة للنجاة ولدفع الخطر عنه واسترحام الصياد.

*****

جنةُ بدر شاكر السيّاب الضائعة
(في البحثِ عن الرجل الذي ضاعَ في عرضِ الشعر والمنفى)

لا أعرف سرَّ هذه النوسطالجيا الغريبة التي انتابتني مؤخراً لإعادة قراءة ديوان الشاعر العربي الفذ بدر شاكر السيّاب، ونحن نقتربُ من الذكرى الثالثة والأربعين لرحيله المفجع.
أهو حنين مجهولٌ الى جنته الضائعة، والى شموسه الخريفيَّة وعصافيره الخضراء؟
أم أحساس عبثيٌّ بشبه قرابة روحية افتراضية وثيقة العرى تربطني بهذا الشاعر المشاكس والمهمِّ عندنا أهميَّة ناظم حكمت للأتراك ولوركا للإسبان؟
ذلك أن السيّاب ربَّى في نفسي لغة ً شعرية ً صافيةً من الزوائدِ اللفظية التي تراكمت في وعيي الشعري قبل أن أهتدي إليه.
زوائد الشعر العربي القديم والكلاسيكي الحديث.
فلغة السيّاب الكبير لغة منتقاة ومصفَّاة شعرياً ولو عارض ذلك النقاد وقالوا بإطنابه في السطر الشعري، فإنه كان أقدر الشعراء العرب على تحويل الكلام العادي الى شعر خالد يجري من القلب.
لغة حالمة بيوتوبيا موعودة وزاخرة بالرموز الرومانسية وهذا الشيء أعجبني جداً في مطالع ولهي بالشعر.
فتوحاته في الشعرية العربيه الجديدة أخذت جانباً كبيراً على عدة مستويات، منها تليين عصيِّ اللغة وتطويعهُ ونفثه من أعماق القلب على سجيّتهِ، وجعل حروف القصيدة العربية كأنها عصافير جنة ضائعة وأطياف مجنَّحة.
كنت أسألُ نفسي قبل أن أقرأهُ بوَعي أسئلة كثيرة حول المخزون الروحي للرومانسية العربية المشبَّعة بآلام الذات، والمتأخرة عن الرومانسيات الأخرى الواقعية الى حد ما.
فلا أجد أثرا لهذه الأصداء عند سابقيه سوى أصداء ثائرة خافته عند الشابي في بعض أشعاره التي كتبها عندما اقترب سراج روحه من الانطفاء.
إذن فهذا الفتح الشعري الذي أنجزه السياب عظيم وغير مسبوق.
فقد كانت اللغة مع جماعة أبولو حالمةً رقيقة هشَّة تخلو من معانقة الواقع وتنقصها التجربة في اكتناه آلام الغير، ولم تحفل كثيرا بأعماق النفس البشرية على مستوى كوني، كانت الروح الشاعرة تعانق نفسها فقط، بينما أصبحت عند السيّاب تعانقُ الطبيعة وتنصهر وتذوب مع عوالم بائدة أو على حافة الحلمِ والتلاشي.
ولم يأتِ شاعر قبل السيَّاب مازج وقاربَ بين الشعر العربي والأوروبي الإنجليزي منه خاصةً مثل هذه المقاربة الشفافة والحميمة، وقد ذكر السيَّابُ ذلك في لقاء صحفي معه في إذاعة لندن حيث قال أن قصيدة الشاعر الإنجليزي شلي وهي بعنوان القبرّة " the sky lark " كانت الحافز الأساسيَّ له لكتابة الشعر الحر حيث شبَّهَ شلي في سطورها الأولى طيران الطائر في الهواء وفي سطورها الأخيرة رفرفته وتحليقه، في نظام تدويري للقصيدة لا ينقطع المعنى بين كل بيت وآخر فيهِ.
صرنا نجد نفس التقنيَّات التي في القصيدة الانجليزية ونفس الرؤى وطرق التعبير في شعر بدر وهذا تجديد جريء وخطوة مباركة تُحفظ له، فقد كان من الشعراء الحقيقيين الأوائل الذين إستفادوا من إطلاعهم على الآداب الأخرى وهضم جمالياتها جيّداً.
كان بدر جذوة ألم عظيم وما شعره غير تطاير الشظايا عن هذه الجذوة، وفي ظنّي أن السيَّاب لم يتجاوز مجايليه شعريا الاّ بفضل هذا الألم فتفوَّق على شعراء العراق ومنهم البياتي ونازك الملائكة وعلى شعراء عرب منهم صلاح عبد الصبور ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم، لأن بدر إندفع بكل طاقته وبكل قواه للشعر وساعده إنفعال طبيعي على التمَّيز والتفوُّق الكمِّي والنوعي.
ورغبة متقدة الى الثورة والتجديد في ضوء الانقلابات السياسية وغليان الشارع العربي وانهيار القيم القديمة التي نادت بها القومية العربية، كل هذا الى جانب كبير من الحساسيَّة الرومانسية، المتطلعة الى عالم آخر أو جنة ضائعة أو يوتوبيا عُليا يحاول بها أن يلغي غربته ويردم الهوَّة بين روحه وجسده.
وهنا يجوز أن نقول أن قاموس السيّاب الشعري قاموس استثنائي، هكذا أعتقد، لأن تعابيره الشعرية وخيالاته وتصوراته ورؤاه تأتي من مكان آخر، لا من هذه الأرض التي نحيا عليها وخاصة من العراق الجريح.
إن هذا التغيير الذي إبتدعه يحتاج الى كثير من الذكاء والمكر الشعري مع الحفاظ على الجدَّة والأصالة العروضيَّة العربية.
ورغم خروجه عن العمود الشعري الخليلي فإن له ما لا يقلُّ عن نصف إنتاجهِ الشعري يشهدُ له بأنه ظلَّ وفيّاً حتى ساعته الأخيرة للموروث العربي ولأصالته، وما محاولاته التجديدية إلاَّ مراعاة لنفسه الثائرة وتحقيقا لها في عصر شعري متغيِّر يختلف عن أمس المتنبيّ وأبي تمام، ومكان مختلف عن أمكنتهم.
نفس بدر التي لم تجد في الخيال الشعري القديم وفي أوزان الخليل الفراهيدي ضالتّها المنشودة، بل لم تجد ذلك الإتسَّاع الكافي والأفق الرحب لتفجير طاقة فنيّة جبَّارة كانت خاتمة حتميَّة للكلاسيكية الشعرية العربية بمفهومها الجماعي الأشمل، ولا أقصد الكلاسيكية الفردية، بل انتهاء القداسة للعمود الشعري وتكسيره .
بعدما كانت القصيدة قبل ثورة السيَّاب أشبهَ بتمثال خزفي لا نبضَ فيه للحياه، يعمدُ إليه الشعراء الخزافون فيهذبونه ويقلمون رغباته ويقيدونه بالأصفاد الأدبية والأخلاقية، بخلاف شعراء الشعوب الأخرى الذين ينفثون قصائدهم كالبراكين مهما كانت حجارتها ومعادنها خاماً، ما دامت أشكالها أروع للرائي من تلك التماثيل الخزفية، وما دام فيها ذلك الوهج الأبهى من ألف شمس.
كانت قصائدهم تكتبهم بتفجّرها وانثيالها على هواها حاضنة ً رؤى طازجة وباحثة عن مسارب جديدة .
وهذا الشيء وجد صداه في نفس شاعرنا المتأثرة بأبعاد الشعر الكوني والحسِّ الجماعي، الذي نما عنده بعد إنخراطه المبكرِّ بالحزب الشيوعي العراقي.
عايش بدر أزمته الروحية الشعرية بكل معانيها حتى النخاع، واصطبغت حياته بها، أزمة المبدع العربي المثقّف والبرجوازي الفقير والمحروم حتى من عطف وحدب المرأة التي يحبُّ، ممّا ولدَّ عنده أحساسا طاغيا بالضياع العاطفي وبالفراغ الروحي لازمه حتى غروب أيامهِ، ورفد قلبه بأجمل المزامير والألحان التي أثرت سمفونية الشعر العربي الحديث، وأغنت تجربته، ومهدَّت السبيل للحداثة العربية ولما بعدها وتشظَّت في أصوات شعراء الستينيات والسبعينيات وشكلَّت مرجعية هامّة لهم ولم أتوا بعدهم.
أصبح هذا الريفي الحالم الثائر الطموح بروميثيوس شعرنا الحديث ومؤسِّس حريته، ومؤثِّثَ لغتنا بالنار بعدما أُثقلت بجليد التقليد، فجاءت تجربته مفصلا هاماً وعلامة فارقة ً في أصعب مراحل شعرنا وأدقِّ ظروفه وأشدّها حساسيةً، وبعدما آن له أن يشبَّ عن الطوق ويتبع َ الأحصنة المجنحَّة الأخرى.

ديسمبر 2007

***

غابرييل غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا: رحمةً بنا

كثيرةٌ هي الروايات التي أمرُّ بها عرضاً، كما تمرُّ الريح الجنوبية في أغنيةِ الشاعر الإنجليزي شلي، وأكثرُ منها الدواوين الشعرية، المتأرجحةِ في مدىً من التلاشي والانسياحِ المتوَّهم، من دون أن أجنيَ منها قطرة رحيقْ.
كثيرةٌ هي الروايات التي لا تستحقُ منَّا أن نضيعَ ساعةً واحدةً في الوقوفِ على لا جدواها وعدمِّيتها، وقليلةٌ الروايات العصيةُ المخاتلة للذات.
ولكنني أجدُ دائماً الصنف الثاني منها وأفرحُ بهِ أيمَّا فرحٍ، محتفياً بفرادتهِ وعمقِ مغزاه وفلسفتهِ المؤَّسسةِ على أفكارنا وبداهتنا الإنسانيةِ .

لذلكَ أعلنُ أنهُ إذا ما إستمرَّ ضغطُ غابرييل غارسيا ماركيز الروائي الكولومبي وماريو فارغاس يوسا الروائي البيروفي على مخيَّلتي فسأستقيلُ من الحلمِ يوماً، ومن البحثِ عن الشعر ومنابعِ الجمال والمثاليةِ واستدعائها.
دائماً أحسُّ بأنَّ هناكَ ذاكرةً إيروسيَّة ملوَّنةً بألوانِ الطيفِ تولدُ فيَّ، في مكانٍ ما من وجداني، وتضغطُ عليَّ بيدٍ حريريةٍ خفيفةِ الندى، تمسُّ روحي وتزوَّجُ الجمالَ للحريَّةِ والثورة للعدالةِ الإنسانيةِ المطلقةْ.
في هذا الوقتِ بالذاتِ لا تستهويني إلاَّ الحدَّة المفرطة في اكتشافِ معنى الحياةِ وسرِّ جمالها وسعادتها، ولا أصلُ إلى الضالةِ المنشودة من دونِ أن أركبَ على حصانِ هذين الكاتبينِ المُجنَّح.
كتابتهما لا ينقصها شيءٌ من لذعِ بهار أمريكا اللاتينية، لا تسبحُ إلاَّ في فضاءٍ من سحرِ الوقوفِ على أعلى قممِ النفسِ الشعوريةِ، ولا ترفرفُ إلاَّ بأجنحةٍ من نورٍ نسائيٍّ وتساؤلٍ وتفاؤلْ.
في حضرتهما لا تستطيعُ التفلَّتَ من تحرِّشِ الحقيقةِ بكَ، لا تستطيعُ إلاَّ أن تصرخَ معهما كالذئبِ في براري الشتاءْ.
هنالكَ إلمامٌ عبقريٌّ بخبرةٍ فرديةٍ قلمَّا نجدها في أعمقِ الرواياتِ الحديثةِ، وأكثرها احتفاءً بطبيعةِ المشاعرْ، هنالكَ حديقةٌ للحواسِ يانعةٌ.
ماركيز ويوسا جناحانِ أزرقانِ يحلِّقانِ في سماءِ الروايةِ اللاتينيةِ الإسبانيةِ ويرفعانها عالياً عالياً حتى الشمس. كثيراً ما أثقلا دمي بالنوارس.
في لحظاتٍ بلورِّيةٍ ثمينةٍ تقدسُّ مشاعركَ وترفعها كالقربانِ الأخير، هما لا يدعاكَ تتنصلُّ من مهنةِ الحُبِّ الملازمةِ لأعضائكَ، ومن رائحةِ المرأة الموعودةْ، التي استقالتْ منكَ منذ زمنٍ بعيدٍ في فضاءِ نصٍ مفتوحٍ على التجلِّياتْ.
منذُ أن حملني ماركيز في ذاكرةِ غانياتهِ الحزينات وقبلها في مئةِ عامٍ من العزلةِ، إلى أعلى قمةٍ للكثافة التعبيرية والايحائيةِ، منذ أن أبحرَ بي في بحر يوليس، وأنا لا أستطيعُ الهبوطَ ثانيةً من الأولمب التصويري الخارق، لا أستطيعُ حتى المحاولة أو التفكير في النزول،
إستعنتُ بيوسا مرةً في دفاترِ دون ريغو بيرتو "التي كرَّستُ لقرائتها شهرين كاملين لكثافة ايحاءاتها مع أني عادةً ما أقرأ روايةً في يومٍ واحدٍ" ولكنني لم أذهبْ إلاَّ بعيداً نعو علاءِ الضبابِ، علاءِ التماهي في الروايةِ حتى النخاعْ.
كنتُ أقرأ وأعيد قراءة ما أقرأهُ ثانيةً، العمق في هذه الرواية عصيٌّ، والرهافة في تكثيف الأحاسيسِ عاليةٌ وتداعيات الحلم موجعةٌ، هناكَ بعد فلسفي ورمزي للجنس والحبِّ، هناكَ إعتراف بخسارةٍ ما، أو بغضبٍ مُبرِّحٍ " كيفَ لا وقد كتبها يوسا بعد فشلهِ في انتخاباتِ رئاسةِ بلدهِ البيرو عام 1990".
لوكريثيا هنا وهي بطلة رواية يوسا تحركُّ مجرى الأحداثِ بهدوءِ كما يحرِّكهُ عجوز ماركيز "الذي تستيقظُ غريزتهُ وبقوَّةٍ مفاجئةٍ في نهاية الشوط" في ذاكرة غانياتي الحزينات، وفونتشيتو يلتقي لقاءً عفويَّاً مع ديلغادينا بطلة ماركيز أيضاً.
ولا أدري ما هو سبب التهويم على أيغون شيلي الرسام النمساوي الخليع، أهو من بابِ الاحتفاءِ بموتيفِ الجسدْ والذوبانِ في هيولى الجنسِ؟
هناكَ مكانٌ فسيحٌ في الروايةِ لهُ وكأنها كُتبت من أجلهِ وحده، ولتقصِّي رغباتهِ وشهواتهِ وتفكيكِ غموضِ رسومهِ وموديلاتهِ.

ولكنني لا أعرفُ بالضبطِ أين يلتقي كلا الكاتبين وأين يفترقان، وما هيَ أوجه الشبهِ بينهما بالرغم من أنَّ أحدهما يتقاطع معِ الآخر بصورةٍ خفيَّةٍ، ويتداخل معهُ في تآلفٍ وتناغمٍ مدهشٍ، وفي أنبلِ وأعلى تضحيةٍ للإبداع، " أن تكتبَ بحبرِ روحكَ ".

كلاهما يرتكزُ في أعمقِ أعماقهِ على نقطةِ ضوءِ إيمانهِ وتبتلِّهِ لما يصنعُ، لينجزَ عملهَ على أتمِّ وجهٍ وفنٍ ودهشةٍ وغرابةٍ، وهنا أستذكرُ سفَرَ ماركيز إلى القريةِ النائية في بلدهِ كولومبيا ليستحضرَ أحلام وتخييلاتِ كتابهِ الرائعِ أو ملحمتهِ الخالدة "مئة عامٍ من العزلة "وهناكَ انقطعَ عدة شهورٍ ليكتبها بعدَ أن إمتلأ بها وعاشها روحياً.
لن أذهب إلى ما ذهبَ إليهِ البعض بأنَّ ماركيز متأثرٌ في بعضِ كتاباتهِ وخصوصاً هذه الروايةِ الفذَّة بألف ليلةِ وليلة "سفر العرب" أو أنهُ مشتبكٌ بصورة أو بأخرى في رواية ذاكرة غانياتي الحزينات بعناقٍ واضحٍ وجليٍّ مع الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا الذي يوردُ في مستهلِّ روايتهِ الآنف ذكرها مقطعاً افتتاحياً لهُ، الحقيقة أنني لم أقرأ بعد ياسوناري لأحاول الربط بين الاثنين، واختزال المسافةِ بين بطلة ماركيز "ديلغادينا" وبينَ بطلةِ ياسوناري كاواباتا في روايتهِ الشهيرة "بيت الجميلات النائمات".
أظنُّ أن يوسا وكاواباتا وماركيز يلتقون جميعهم تحت جسر واحدٍ، هو جسر توظيفِ الجنسِ في الأدبِ وفلسفتهِ بلغةِ الحلمْ.

النص الحقيقي هو في رأيي ذلك النص الذي يأتي من حنايا الطفولةِ، من أقصى الحنينِ إلى الغيابِ الضروري لاستشعار الخسران.
هو ذلك الطفل الأبدي الذي يعيشُ في الطفولةِ، مخضبَّاً بالأوهام والأحلامِ والعبثِ الضعيفِ والهشِّ الذي يحتفي بهِ يوسا في دفاتر دون ريغو بيرتو، عبث عاشقي الكواكبِ والجبال ووعدِ المواطنين بالقمرْ.

الرائعِ في أعمالهما أنها تأتي في أغلبِ الأحيانِ من المُتخيَّل، كما يقولُ ماريو فارغاس يوسا في حوارٍ معهُ بأنَّ الرواية هيَ مملكةُ الكذب، بينما الشعر هو عاطفة الإنسانيةِ الحقيقية.
ثمَّةَ اندفاعٌ نحو الحلمِ البريء، والفراشاتِ الصفراء، يجعلكَ تلمسُ هذهِ الطاقة البالغة القوَّةِ والهائلةَ الساكنة في المفردات والمتموِّجة بحركةٍ وانفعالٍ عجيبْ.
في الروايات التي ذكرتُ هنا لم أتخيَّل نفسي لحظةً واحدةً أقرأ نثراً عادِّياً أو ما يقارب النثر، هو نمطٌ فريدٌ جديد، شعرٌ وأجملُ من الشعر، تجربة لا محدودة ومفتوحةُ التأويلِ على الاحتمالاتْ.
تذويبُ الكلامِ هنا يعطينا أشجاراً ونساءً دائراتٍ وخارجاتٍ عن مدارِ الرتابة، أشياءً غامضةً، واضحةً، تكتظُّ فينا بالزهورِ، حتى لننزفَ شذى ومخلوقاتٍ من وهجٍ وأقواسِ قزحٍ وبياضٍ وياسمينْ.
ها أني أكتظُّ بالعبارةِ والمعنى، بالإشارةِ واللمحِ.
لم أكن أحسبُ أنني سأتلاشى مع كلِّ هذه الجماليات المتقنةِ حدَّ اللعنةِ والهذيانْ.

13.7.2008

***

نساءُ الشاعرِ

عادةً ما تكون امرأةُ الشاعر موزعةً في نساء كثيرات لن أقول في جميع النساء.. الشاعر الذي يعيش في كنفِ تعدديَّةِ الحبِّ ليسَ ماجناً أو متهتكاً بالضرورة ولكنه أيضاً ليسَ فاضلاً أو قديساً الى هذه الدرجة التي يتصورها البعض لكي يحبَّ امرأةً واحدةً بعينها.. ولو كان كذلك لم يبق له عملٌ في الشعر..منذ الشعر الجاهلي.. امرؤ القيس هذا الشاعر الحقيقيُّ كم امرأة أحب.. أيضا عمر بن أبي ربيعة هل اكتفى بعشيقة واحدة؟ وفي عصرنا الحديث لدينا نماذجَ كثيرة أبرزها نزار قباني صحيح أنه أحب بلقيس ذاك الحب الأسطوريَّ ولكنه وزَّعَ قصائدَ حبِّ كثيرة على الأخريات.. والسياب أيضا نعرف أن تجربته الشعرية حفلت بأسماء الكثيرات.. ربما لم يكن الشاعر الدونجوان الذي كان يعشقُ في الصباح امرأة وفي المساء ينساها ويعشق أخرى.. والسياب نموذج واضح ومبين.. لن أتكلم عن أهمية السياب شعرياً.. ربما كتب ضخمة لن تكفيني.. نعم هناك شعراء كثر تعلقوا بامرأة واحدة وهذا وارد.. كالشعراء العذريين وغيرهم.. ولكن صورة الشاعر دائما ترتبط في ذهني بصورة بايرون أو شلي الشاعرين الانجليزيين الرومانسيين في رحلتهما الى مدينة البندقية الايطالية.. اذا أحب الشاعر امرأة واحدة فالأجدى له أن يتزوَّجها اذا استطاع ذلك ولنرَ إن كانَ لديهِ ما يقوله بحرقةِ العاشقِ بعد ذلك أم أنَّ شيطانَ شعرهِ قد طلَّقه ثلاثا الى الأبد.. ولكن الحق أقول أن في داخل كلِّ منا امرأةً واحدةً تشعل الفتيل وتتركنا نكابد بينما هيَ تراقب في الظل.. الذي يحدثُ أحياناً أننا بفعل تنكِّرٍ غريزيٍّ غريب لتلك المرأة الأولى التي مسحت طفولاتنا بما يشبهُ أناملَ الذهب ننسى أنها كانت يوماً ما ملاكاً حارساً وشمساً حانيةً على قلوبنا الملأى بالطينِ والحصى والرمادِ والغيومِ الصلبةِ.. لا نعود ننظرُ بذاكَ الحنوِّ المفقودِ اليها بعدَ اغراءِ الفضاءات الملوَّنة والأبواب العالية ودروبِ الحياة التي تنبذُ الناظرَ الى الوراء.. فقط حاسَّةٌ غيرُ مطاعةٍ فينا تشدُّنا بكاملِ ولعنا وتوقنا الى المرأة القابعةِ في ظلِّ النور والرهبة والغرامِ الأوَّل.. ولكننا مهما فعلنا لا نستطيعُ التخلَّصَ من برقها ولا من أنينها الخفيِّ المحرِّكِ لأوراقِ القلبِ.. هل تخلَّص الشاعر الفرنسي شارل بودلير من لهيبِ سمرةِ جان ديفالِ وعطرها الليمونيِّ الغامض؟ هل تابَ لويس أراغون عن عَينيْ السا الأندلسيَّةِ؟ هل نفضَ عن قلبهِ تبرَ دمعها اللا مرئيِّ؟شعراءٌ لا يُحصونَ أخذوا معهم الى السرابِ كلَّ ما علقَ بأجسادهم من نثارِ نسائهم غيرِ المعلناتِ الى أبدٍ مسمَّى.

***

طيرانٌ عمودي

الرجلُ الثلاثينيُّ الذي يجلسِ في أقصى الذهنِ في مقهىً من سرابٍ لا يستطيعُ التعبيرَ بصدقٍ عن نفسهِ.. يتلعثمُ يتوهُ.. يتلاشى..يغمغمُ.. لا يعرفُ ما يُريدُ.. يقولُ لي تستعصي عليَّ الفكرةُ.. تغيبُ من غيرِ أن أرى في أيِّ اتجَّاهٍ مضتْ.. لا أقدرُ أن أقبضَ بجناحينِ مرتجفينِ على قطرة الضوءِ.. زمني يهربُ مني.. وتلكَ التي تحدِّقُ بالفراغِ بنظراتٍ تشبهُ نظراتِ الشاعر الفرنسي بودلير وهو يصلبُ عينيهِ على عمودينِ من النارِ والغيمِ يحلمُ بالقصيدةِ أو بجان ديفال المحترقة كالعنقاءِ لا أفهمُ ما تريدُ وما تعني.. موزَّعٌ أنا في كلِّ شيءٍ.. وعلى كلِّ الفصولِ الملغيَّة.. قلبي يذهبُ الى البؤرةِ ولكنهُ لا يجدها أبداً.. يعيشُ بمنطقِ النحلِ في الربيعِ والقراءةِ.. يأخذُ من كلِّ وردةٍ رحيقاً وعطراً مختلفين.. يحومُ على النصِ ولا يقعُ على وجعهِ الدفينِ.. في النهاية لا يجدُ شيئاً ينتفعُ بهِ من ايمانهِ الكبيرِ بما يسمِّيهِ ثقافةً شموليَّة في زمنٍ يطيرُ عمودياً الى عمقِ الفكرةِ.. هل هذا زمن الاختصاصِيَّة في كلِّ شيء؟ لا أعرفُ.. لا أنجحُ في قراءةِ شيءٍ ما.. قبلَ أيامَ بحثتُ بدون لأيٍ عن الشاعر الروسيِّ الكبير ألكسندر بوشكين الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر ومات في مبارزة بينه وبين غريمهِ الفرنسي.. المهم أن هذا الشاعر عاش ثمانيةً وثلاثينَ عاماً ولكنه حفرَ مجدهُ بحروفٍ من ذهبٍ في تاريخ الأدب الروسي حتى أن الكثير من النقَّادِ كانوا يظنُّون أنه ترك من الآثار ما يعجزُ عنهُ عددٌ من الشعراء والكتَّاب.. تابعتهُ في جوجل فتهت في أسماء كثيرة عاصرتهُ ولمَّعت أسطورتهُ.. منهم الناقد الروسي بيلينسكي الذي مات شاباً هو الآخر مثل بوشكين وكانَ له الأثر العظيم في انتشار اسمِ بوشكين وتألقهِ.. تركت الاسمينَ بعدَ تتبُّعٍ وجهدٍ وانطويتُ قليلا على قلبي الطافح بما يشبهُ الضباب الخفيف.. فكَّرتُ في موقعين على الشبكة العنكبوتية يوفِّران الكتب الالكترونية في كافة المجالات وقلت في نفسي متى سأتفرغُ قليلا وأنجز بعض القراءات التي وعدت نفسي بها منذ زمن.. ولكنني لأسباب كثيرة لم أقرأ حتى الكتب الورقية التي تنتظرني منذ عهدٍ بعيد..
هناك من أضاعت روحُه البوصلةَ حتى أنهُ أحيانا يعمى عن الأشعَّة التي انطلقت من عينيِّ المرأة التي مرَّت أمامه كغمامةِ برقٍ ولم يحسنَ الإصغاءَ الى أمواجِ قلبها المتلاطمة.. فلا وقت لديهِ فهو مختصٌّ بالبحث عن اللا شيءِ بحكمةِ القدِّيسِ.. قسمٌ من دواوين الشعراء القدامى ومن كتب الموروث الثقافي الانساني ركنها جانبا في حاسوبهِ بعدما قرأها بقلبٍ مفتوحٍ وعينينِ مغمضتينِ أو بعينينِ مفتوحتينِ وقلبٍ مغمضٍ من أبو نواس وأبو تمام والبحتري والمتنبي والمعرِّي الى الياس أبو شبكة وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وأدونيس وغازي القصيبي ومن الحلَّاج والنفرِّي وابن رشد وبن عربي الى شكسبير وبودلير وطه حسين وماريو يوسا ولوركا وماركيز مرورا بكل العصور الأدبية الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية والواقعية السحرية وشعراء جماعة أبولو وشعراء الحداثة وما بعدها وقصيدة النثر.. هو ربَّما قلبهُ منطفئٌ تماماً.. ولكنه في النهايةِ طوَّح بكلِّ وصاياهُ وبالنظريةِ الاختصاصيَّة التي يمقتها وشدَّ عينيهِ الى الفيلم الايطالي (كازانوفا) تخيَّلَ نفسهُ يعيشُ في العصورِ الوسطى.. في النهاية وجدَ نفسهُ يتابع بنهمٍ غريبٍ أفلام عالم الحيوان الوثائقية على قناةِ يوتيوب.. ليسَ لتجوالهِ في المدنِ نهايةٌ.. ليس لأشواقهِ بدءٌ.. ليسَ لنقطتهِ صفرٌ.

***

رفرفاتُ الروحِ للمطلق

ما الذي يستفزُّكَ للكتابة؟ سؤال طالما شغل فكري وهو يلحُّ عليَّ في الآونة الأخيرة أكثر من أيِّ وقت مضى.. لمن تكتب؟ ما هدفك من الكتابة؟ أما زلت تؤمن بمبدأ التنفيس الذي كنت تطرب لهُ قديماً وتعزِّي روحك الظمأى إلى الجمالِ بهذهِ الخرافة؟ أن أنكَ لا تدري بتاتاً.. وقدركَ مع هذا الحبرِ المقدَّس هو قدرُ الطعمِ للسمكةِ البريئة والفخِّ السرابيِّ للحمامة.. والسهمِ الخفيِّ للغزالةِ السارحة؟
هل ما زالت تشحنكَ عبارات الإعجاب والمديح والإطراء بما يشبهُ الطاقةَ المجازيَّة المجنَّحةَ التي غالبا ما تطوِّحُ بكَ من شاهق الكلامِ إلى أرض الحقيقةِ كالنجمةِ المسكينةِ المبتلَّة بماءِ الورودِ الصغيرةِ؟
لا أعرف.. فقبلَ سنين كانت فكرتي المسبقة عمنَّ يمسكُ قلماً أكثرَ نورانيةً وتقديساً ممَّا هي عليه اليوم. فضربات الحياة الفظيعة على سندان الروح ربما تكون قاضية أو قاصمةً بما فيه الكفاية لأجنحةِ القلبِ البيضاء.. زيفُ البشر.. ماديتهم.. ترابيةُ الحياة الطينية.. عدم تقدير الغير لاحتراق روحك الحبريِّ.. تجاهلك.. الفراغُ الكليُّ الذي يحيطُ بسماءِ قصائدكِ وعَينيْ حبيبتكَ البعيدة..كلُّها تحفر في نفسك كما تحفر الموجةُ في الصوَّان..
هل قدرُك المغبونُ مثلاً هو ما يحزُّ في فراشاتِ نفسكَ.. ؟ أم لأنكَ قرأتَ روايةً لروائيةٍ أجنبيةٍ ورأيت مدى تفوقِّها السردي غير المحدود والذي جعلَ قلبكَ يترقرقُ بينَ يديها كأنهارِ البلَّور هو ما جعلكَ تفكِّرُ بهذه المقارنة البائسة.. غير المتكافئة بتاتاً.. بينكَ وبينها؟
أم بينَ مشهدين على طرفَيْ نقيض؟ أم ماذا؟ لا تجرح قلبكَ بالأسئلة.. أنت مملوءٌ فاكتب.. أكتب.. هكذا يقولُ لا وعيكَ.. هكذا يصرخُ فاوست فيكَ.. هكذا تريدُ لكَ الحياة التي مرَّغتكَ على أعتابِ صباحِ صيفيِّ بعيدٍ وأنت تفكِّرُ تفكيراً صوفيَّا بجبران ونيتشة ونعيمة وبلزاك وأحمد شوقي وطه حسين.. يا لشاعريتك إذنْ. أيها العربيُّ الحالمِ باسترجاعِ أمجاد أندلسهِ بسيفهِ وحصانهِ الدون كيشوتي.
أتذكرُ تبجحكَ غير المبرَّر مرَّةً أمام حفنة من الكتَّابِ والفنانين الأصدقاء العرب وغير العرب وأنت تتكلَّم بلغة لا تخلو من الضوءِ وزهورِ الملائكة عن أمجاد قومٍ بائدة؟
قلتَ أنَّ المتنبي لا يقلُّ شاعريةً عن شكسبير.. والسياب نظير اليوت.. وطه حسين يعادل جان بول سارتر.. ومحمود درويش في مصاف لوركا بابلو نيرودا.. نحنُ ممتلئون نعم ولدينا مواهب.. منذ امرءِ القيسِ حتى أصغر شاعر عربي ما زالَ يخربشُ ولم يهتدِ بعدُ إلى خيوط قصيدتهِ الفضيَّة ..
نعم.. لدينا مواهب جميلة وفذة في الأدب والفن ولدينا عقول ممتازة قادرة على هضم العلوم الانسانية.. ولدينا دائما ما نقوله ونكتبه.. فما زال فينا بعض امتلاء الأنبياء .. المشكلة تنبع من أننا مجتمع لا ثقافي .. لا يقرأ أبدا ولا يؤمن بشيء إسمه الكتاب.. هناك حالات فردية فقط ولكن الذاكرة الجمعية الجماهيرية غير ثقافية..هناك ذائقة النخبة.. ولكنها غير مسؤولة عن التقهقر الرهيب هذا..خصوصا اذا نظرنا إلى الوراء مستندين إلى الإرث الهائل للموروث الجمالي الفكري والأدبي.. فمأساة الكاتب العربي تنبع أولا من لا وعي مجتمعه وبيئته له ولرسالته.. وثانيا من عجزهم عن فهمهِ وتوفير الظروف الملائمة له لتنمية أساليبه الفنية ونجاحهِ.. وبالتالي انفضاض دور النشر عنه والتي دائما ما تتذرَّع بالضائقة الاقتصادية وبأنها لا تنشر إلاَّ على نفقة المؤلف..لا بأس .. فهذه المهزلة فهمناها جيَّدا... ولكن هناك أسئلة أخرى.. أسئلة تثير أوجاع القلب..
لماذا يكتب مثلا الكاتب الروائي اليهودي الشاب بوعي مختلف.. ؟ ألأن مجتمعه يعدهُ بنجاح أدبي ما في المستقبل..في ظلِّ رعاية مؤسساتية للمواهب التي وضعت أقدامها بقوة على طريق الإبداع؟
الفرق بين كاتب عربي وكاتب غربي ( أو ربما يهودي) مثلا هو النجاح الذي يحققه الثاني في ظرف زمن قياسي.. فهو يعوِّل على مجتمع قارئ ومستهلك للكتاب .. مجتمع يملك حساسيَّةً عالية لهذا الشيء البائس المسمَّى عندنا كلمة.
قالَ مرَّةً لي روائي شاب أن المشروع الروائي الذي يحتاج (زمنياً ) ما يعادل عامين لاتمامهِ يفتقر إلى ذلك التمويل المادي الذي لن أحدده وهو ما تستطيع راقصة في ناد للرقص في المجتمعات الغربية أن تحققه في أقل من أسبوع (مثلاً).
سأقتنعُ حتماً بأنَّ الكتابةَ في أحد أبهى تعريفاتها وصورها سهمُ الغزالةِ السارحةِ.. ورفرفاتُ الروحِ للمطلق. وعطشُ الظلام للنور.

***

امرأةٌ من قُزَح

خُيِّلَ لي قبلَ عدَّة أيَّام وأنا أشاهد على اليوتيوب الطبيبة المصرية الجميلة والأنيقة المختصَّة بعلاج الأمراض الجماليَّة كالسمنة الزائدة والبهاق الذي يُشكِّلُ أصعب وأطول الأمراض الجمالية علاجاً أنَّه لم يعد هناكَ حاجة لكلِّ هذهِ الأبحاث الطبيَّة العالميَّة العقيمة وذات الجهود الجبَّارة في الوقت نفسهِ في سبيل إيجاد دواء عصري لهذا المرض الجلدي المستعصي .. وإسدال الستار على هذه الحالة التي تمسُّ الحس الجمالي الإنساني في الصميم لدى من يعانون منها.. بل يكفي فقط ( مجازيَّا ) لامرأة جميلة أن تمسَحَ على جِلدٍ فاقدٍ للصبغة الطبيعيَّة أو تمرِّرَ إصبعها عليهِ لتنبضَ فيه فراشاتُ الألوان القزحيَّة ويعودَ إليه صبغُهُ الأصلي.. عرفتُ أنَّ هذه الطبيبة المصريَّة اخترعت مادةً صبغيَّةً مستحدثةً من عناصر عدَّة منها عنصرُ الحديد تقومُ بحقنها في الأماكن المصابة وبعد دقائق وبشكل فوري يرجع الجلد إلى سابق لونهِ... وكأنها تملكُ يدَ المسيح التي تبتلُّ بماءِ المعجزة وغيم الورد.. وبما أنني أحملُ وشمَ البهاق الأبدي على جلدي منذ كانَ عمري أربعة عشرَ عاماً وقد يئستُ فعلا من شفائهِ بعد ضربي في الآفاقِ وإهداري الأموال التي جمعتها بمشَّقةٍ في سبيلِ علاجهِ المخرَّمِ بالوهم السيزيفي للوصولِ إلى قمَّةِ الشفاءِ التامِ.. ذلكَ أنَّ تُجَّارَ الطبِّ البديل يجعلونَ منهُ شمَّاعةً قانونيَّةً لتعليقِ أساليبهم الاحتيالية عليها..فقد غبتُ في لا وعيي بعالم سريالي..استرجعتُ اللحظات الأولى لاكتشافهِ قبلَ أكثر من عشرينَ عاماً.. لمحتُ حياتي في ما يشبه الفلاش باك في أقل من جزء واحد من الثانية..لا يهُم.. أكره الثرثرة المجانيَّة.
الآن تصيبني عبارةُ (إمرأة من قُزح) آه.. كم أُحبُّ إحالة هذه الصورة المجازية على حالتي بالرغم من أنني نسيتُ منذ زمن أنني مصابٌ بالبهاق الذي تعايشتُ معهُ بقلقٍ وجوديٍّ وقناعةٍ صوفيَّةٍ راضية.. فنادرا ما أعمدُ إلى تمويههِ وتغطيتهِ بمسحوق أو مرهم كبعض النساءِ اللواتي لا يتنازلنَ عن جمالهنَّ الخارجي بسهولة.. والسبب هو كرهي الأعمى للأقنعة.. حتَّى أنَّ نظرة امرأةٍ في الشارع أو في المصرف أو في البريد وهي تحاولُ أن توهمني بمرحها ولامبالاتها أن ما يخلُّ ماديَّاً باستيطيقا المجرَّد لا يهمُّها بتاتاً.. أبدا.. بينما تغتصبُ ضحكتها الطفلة لتشغلني بها عن طيور شاردة قلقة تبزغُ من شفق عينيها اللتين لم أعد أرى فيهما شفقةً أبداً.. أعترف أنني في الماضي ربَّما كنتُ أكثرَ حسَّاسيَّةً فيما يتعلَّق بهذا الموضوع وكأنني فتاةٌ عذراء خجولة تُزَّفُ توَّاً إلى منصَّةٍ عالية مزخرفة بالضوء.. وسوفَ تُعرضُ على الآلاف..
راودتني فكرة الاتصال بالدكتورة وتعيين موعد معها..بل رحت أبحث عن جواز سفري الذي نسيتُ أينَ وضعتهُ آخرَ مرَّةٍ سافرتُ فيها للخارج.. ولكنَّ تجربتي العلاجية مع البهاق الممتدَّة لأكثر من عشرين عاما والحافلة بالمآسي والوجع الروحي والخيبات الكثيرة منعتني بقوَّة.. وكانَ يكفي أن أقرأ تعليقاً واحداً على اليوتيوب مفاده أنَّ هذا العلاج لا يدومُ لأكثر من عدَّة شهور وبعدها تتلاشى المادة الملوِّنة ويعود الجلد إلى سابق عهدهِ أن أتراجع عن رأيي وبثبات ملحوظ هذه المرَّة.
أكثر شيء كانَ يشدُّني هو ثقةُ الطبيبة بنفسها وبكلامها وبجمالها أيضا..في عام 2005 سافرت إلى القاهرة لوحدي لمدة عشرة أيام..وكانت رحلةً من رحلات ألف ليلة وليلة أو عالماً حقيقيَّا محسوساً من عوالمها الخياليَّة.. المهم أنَّ الدواء الذي وصفه لي الطبيب المشهور لم أدوام على استعمالهِ لعدم مصادقة وزارة الصحة عليه. وتركته بعد مدةٍ قصيرة لأن صيدلانيا صديقا في الناصرة أسرَّ لي أن خطورته أكثر من فائدته.. لم أغنم إلاَّ زيارةَ أم الدنيا والتسكُّع الجميل في شوارع القاهرة نهارا وليلاً.. القاهرة تختزن في قلبي سحر ألف مدينة.. كنت ألتهمُ كل لحظة فيها التهاماً ولم أدع متحفاً أو معلماً تاريخياً أو برجاً إلاَّ زرتهُ.. حتى أنني ألقيت بوجع القلب القرويِّ الصغير في النيل ذاتَ مساء.. ولن أنسى عاملة فندق شهرزاد في شارع النيل الذي يقع في حي العجوزة في الجيزة وسط القاهرة التي قالت لي أكثر من مرَّة أنَّها ترى في عينيَّ معنىً لم يعد موجوداً من معاني الحساسيَّة والرقة والرهافة.. وأنني أنتمي إلى نوعيَّةٍ من البشر في طريقها للانقراض السريع أو ربمَّا انقرضت منذ زمن بعيد.. ضحكتُ من أعماقِ قلبي وناديتها بعرَّافة النيل الجميلة.
يا للخيبة إذن.. طبيبي المصري المشهور صاحب اسم عالمي في الأمراض الجلدية ولكنهُ للأسف يستندُ في علاجهِ على دواء لم يتطوَّر كثيراً منذ أواخر الخمسينيَّات.. ويعتمدُ في أساسهِ على مادة البسورالين التي تجعل الجلد حسَّاساً لأشعَّة الشمس كلوحٍ من الزجاجِ الأسود ولكنها من ناحية أخرى تفتكُ بالكبدِ وبالعينين وبأعضاء حيويَّة في الجسم...
أصبحت أهذي في منامات اليقظة.. أين هيَ تلكَ الفينوس التي تملكُ في جلدِ أصابعها الليِّن والمغرورق بالحليب غير المرئيِّ شهد الكحل السماويِّ وطلَّ النور لتمسحَ بغبار الندى الطلعيِّ على يدي؟ قبلَ عدَّةِ أيام صادفتها انسلَّت من ضلعي.. توجَّعتُ بمرارةٍ شاهقةٍ من داخلي.. أحسستُ كأنني أرتطمُ بكوكبٍ من بنفسج ..كنت في متجرٍ للملابس في بلدةٍ عربيَّةٍ في الجليل.. الحادية عشر ليلا.. لم نتكلَّم كثيراً.. سوى بلغة خرساء ولم تلمع من بعيد سوى أكثر نجومنا غرابةً وحزناً ووحدةً.. لا أعرف... ألهذهِ الدرجة أنتمي إلى صنفِ الشعراءِ الملعونين؟ ألهذه الدرجة يسكنني شغفُ عشَّاقِ القرون الوسطى؟ لا أدري..
بعد زواجي أصبحت علاقتي بالمرأة علاقةً روحيةً صوفيَّةً أكثر من أي وقت مضى.. ولكنني أحسُّ أحيانا بوخز الأنوثة الفضيِّ.. وبأني أسبحُ في فضاء ليليِّ مليء بالنجوم الهلامية.. أنا شخص مشوَّش أكثر بكثير ممَّا يظنُّ البعض.. مشوَّشٌ إلى درجة عصبيَّة.. حالمٌ بمجرَّات أخرى ما جعلني أفشلُ في كلِّ عملٍ أقومُ بهِ أو علاقةٍ أبنيها أو أغزلُ ملاءاتها بخيوط رفيعة من نور السماء العذراء.
هذا التشويش وهذا الحلم غالباً ما يتسرَّبا إلى أكثر قصائدي سرَّيةً.. ووحشيَّة.. وارتباطا وثيقاً بحبقِ البيوتِ الصباحي.. ولكنَّ صوتاً في داخلي يصرخُ بما يشبهُ الدموعَ الصابونية.. لن أعودَ إلى أثينا.. لن أرتضي بإيثاكا.. لن أكونَ عوليسَ آخر.. بينوليبي في انتظاري على أحرِّ من جمرِ الشموسِ الشرقِ أوسطيَّة.

***


عن المؤلِّف

نمر أحمد سعدي شاعر فلسطيني وُلدَ عام 1977. يقيم في قريته بسمة طبعون الواقعة شرق مدينة حيفا، وهي قرية جليلية معروفة بجمال موقعها، ومناظرها الطبيعية الخلابة.
بدأ بنشر بواكير أشعاره، بعد اختمار التجربة ونضوجها، جنبًا إلى جنب الموهبة والثقافة، في صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية، وكذلك في صحيفتي "كل العرب" و"الأخبار" الناصريتين منذ عام 1999. يتميز شعر نمر سعدي بقدرة على التعبير اللغوي، والتصوير الفني على حد سواء، متكئًا، في هذا وذاك، على خيال جامح منفتح على الاتجاهات كافة. يمتح من تناصات ذات حمولات متعددة: موروثات ثقافية، وإشارات إيحائية، وأخرى رمزية وأسطورية، منها الخاصة: عربية وشرقية، ومنها العامة: أجنبية وغربية، تحيل إلى دلالات متعددة، قد تنأى عن كل ما هو نمطي أو متعارف عليه، أي وفق المنظور الحداثي. ولا يعدم القارئ في ثنايا شعره: فكرًا وذوقًا وإحساسًا ومعرفة ورؤيا. تنصتُ أشعارُهُ لهموم التجربة الحياتية وتزخمُ بالموسيقى الهادئة.
يُعدُّ الشاعر نمر سعدي واحداً من أصحاب الأصوات الجديدة في الساحة الشعرية الفلسطينية، لما يمتاز شعره به من: طاقة إبداعية، وغزارة في النتاج، ومخزون ثرّ من الموضوعات المتعددة. وهو يكتب قصيدة التفعيلة، ومن حين لآخر، أيضًا القصيدة العمودية. وقصيدةَ النثر. كما أنه ناشط في الحراك الأدبي، ومتابع لنشاطات الحركة الأدبية المحلية. كرَّمته مؤسَّسة الأسوار في عكا عام 2007.
صدرَت له الدواوين الشعرية التالية:
عذابات وضَّاح آخر 2005 مطبعة فينوس/ الناصرة
موسيقى مرئية 2008 منشورات مجلة مواقف/ الناصرة
كأني سواي 2009 ( ديوان في ثلاثة أبواب ) منشورات دائرة الثقافة العربية / دار نشر الوادي / حيفا
يوتوبيا أنثى 2010 منشورات مركز أوغاريت للترجمة والنشر / رام الله
ماء معذَّب 2011 منشورات مجلة مواقف / الناصرة
وقتٌ لأنسنةِ الذئب 2014 دار النسيم للنشر والتوزيع/ القاهرة
تشبكُ شَعرها بيمامةٍ عطشى 2015 دار النسيم للنشر والتوزيع / القاهرة
وصايا العاشق 2015 دار النسيم للنشر والتوزيع / القاهرة
موسيقى مرئية / طبعة ثانية / 2015 / دار سؤال/ بيروت / لبنان
رمادُ الغواية 2017 دار الانتشار العربي / لبنان / ونادي الباحة الأدبي / المملكة العربيَّة السعوديَّة
استعارات جسديَّة 2018 دار العماد للنشر والتوزيع ومركز عماد قطري للإبداع والتنمية الثقافية / جمهوريَّة مصر العربية

تُرجمت له عدة قصائد الى اللغات الانجليزية والرومانية والصينية والعبرية، ونشر قصائده ومقالاته في الكثير من المواقع الأدبية والثقافية على الشبكة العنكبوتية مثل كيكا والندوة العربيَّة والحوار المتمدِّن والمثقَّف وديوان العرب وجماليا ومركز النور، وفي المجلات والصحف المحلية مثل الشرق ومواقف والإتحاد وكل العرب والأخبار وفصل المقال والحياة الجديدة بالإضافة إلى نشرهِ في مجلات وصحف العالم العربي المرموقة مثل الدوحة القطرية والنهضة السورية والأهرام المصرية والقدس العربي وعكاظ السعودية والخليج الاماراتية والعرب اللندنية والعربي الجديد والنهار اللبنانية وغيرها.
كما أنَّ لمجلة الكلمة الالكترونية التي تصدر في لندن ويحرِّرها الناقد المصري الكبير الدكتور صبري حافظ دوراً هاماً في التعريف بتجربة نمر سعدي الشعريَّة من خلال نشرها لقصائدهِ ونصوصه النثرية ودواوينه.

صفحة الشاعر على الفيسبوك
www.facebook.com/nemer.saady

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى