رسائل الأدباء رسالتان بين عبد القادر وساط و أحمد بوزفور:

● من عبد القادر وساط إلى أحمد بوزفور:


عن الشاعر القديم ضابئ بن الحارث

مساء الخير صديقي العزيز
هل تَذكر دواة الواترمان وحبر الواترمان؟
وهل تَذكر قلم الحبر الذي كانت له مضخة وكان له خزان، يمتلئ عن آخره بحبر الواترمان؟
بذلك القلم، يا صديقي، كنتُ وأنا في العشرين من العمر أنسخ بعض القصائد من الشعر العربي القديم، لأنني كنتُ أحلم أن تكون لي أنا أيضا (حماستي) الخاصة، أجمع فيها مختاراتي الشعرية كما كان يفعل الأقدمون ...
أذكر من بين قصائدي المختارة عينيةَ ابن زريق البغدادي( لا تعذليه فإن العذل يولعه) ولاميةَ المتنبي( دروعٌ لمَلْك الروم هذي الرسائلُ) ولاميةَ المعري( طربْنَ لضوء البارق المتعالي)، إلى آخر تلك اللائحة الطويلة ...
لم تكتمل تلك الحماسة (وهل هناك شيء يكتمل في هذه الحياة ؟) ولكن القصائد بقيت عالقة بالذاكرة، أعود إليها بين الفينة والأخرى، وأتمثل بأبيات منها في مواقفَ مختلفة من الحياة...وهذا ما حدث لي هذا الصباح، حين وجدْتُني أردد مع نفسي بيتَ ضابئ بن الحارث:
وربَّ أمورٍ لا تَضِيرك ضيرةً
ولِلقلب منْ مَخْشاتهنَّ وَجِيبُ
والبيت من قصيدة كانت هي الأخرى ضمن مختاراتي القديمة. وهذه القصيدة البائية نظمها ضابئ بن الحارث وهو في سجن الخليفة عثمان بن عفان. وفيها يخاطبُ جَمَلَهُ (أو فرســَه؟) قَيّاراً، ويطلب منه أن يتحلى بنظرة (فلسفية) إلى الوجود :
فَمَنْ يكُ أمسى بالمدينة رَحْلُهُ
فإنّي وقَيّاراً بها لَغَريبُ
فلا تَجْزَعَنْ قَيَّارُ منْ حبْس ليلةٍ
قضيَّة ما يُقْضى لنا فنَؤوبُ
إلى أن يقول:
فلا خيرَ فيمَنْ لا يُوَطِّنُ نفْسَهُ
على نائباتِ الدهر حين تَنُوبُ
وفي الشك تفريطٌ وفي الحزم قُوّةٌ
ويُخطئُ في الحدس الفتى ويُصيبُ
ولستَ بمُستبْقٍ صديقاً ولا أخاً
إذا لمْ تَعَدَّ الشيءَ وهْو يريبُ
وقد لبث ضابئ بن الحارث في سجن عثمان بن عفان إلى أن مات ...وبقيتْ قصيدته هذه يَرويها عشاقُ الشعر الجميل، جيلاً بعد جيل...


*****************



● من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط

صباح الشعر سي عبدالقادر
ضابئ أحد الشعراء الكبار الذين كنت سأختارهم أنا أيضا لو بنيتُ مختاراتي الشعرية، رغم أنه كان عنيفا شرساً، سريع البادرة، فاحشَ الهجاء. وقد رمى خصوماً له بأن أمهم تعاشر كلباً :
وأمُّكُمُ لا تتركوها وكلبَكُمْ
فإنّ عقوقَ الوالدات كبيرُ
وإنما بهذا النوع من الهجاء حبسَهُ عثمان بن عفان، فاضطغنها عليه حتى كاد يقتله ذات مرة، وفي ذلك يقول:
هَمَمْتُ ولمْ أفعلْ وكدتُ وليْتَني
تركتُ على عثمانَ تَبْكي حلائلُهْ
ولكنه كان شاعرا حقيقيا حتى وهو غاضب. وانظرْ معي إلى هذا الشطر الشعري الدرامي بحق:
(همَمْتُ ولم أفعلْ وكدتُ وليتَني)
لكأنَّ المتكلم هو هاملت!
وقد زعموا أن الحطيئة وهو يُحْتَضَر قال له أهله: "انطق الشهادتين" فقال لهم:
- أبلغوا أهل ضابئ أنه شاعر حين يقول:
لكلِّ جديد لذّةٌ غير أنني
وجدتُ جديدَ الموتِ غيرَ لذيذِ
أما قصيدته البائية،يا صديقي، فهي تستحق الإعجاب، وقَيّار أحدُ مَنابع الشعر فيها، لأنه أشْبهُ بمعادل موضوعي (كما يقول النقاد) لإحساس الشاعر بالغربة. وقيّار هذا ، سواء أكان جملاً أم فرساً - وأنا أميل إلى تصَوُّره جَمَلاً - يُذكرني بمُعادل خارجيّ آخر أقْدَم، هو هذه المرة جَبَل لا جمل، وهو ( عَسيب) في شعر امرئ القيس .فَيَرْوون أن امرأ القيس و هو عائد من عند ملك الروم بخُفَّي حُنين ، جاءه الموت خلال هذه الرحلة فآوى إلى قوم في الطريق ورأى جبلا أمامه، فسأل امرأة منهم عن اسم الجبل فقالت ( عسيب) فقال :
أجارتَنا إنّ الخُطوبَ تَنُوبُ
وإنّي مُقِيمٌ ما أقامَ عَسيبُ
أجارَتَنا إنّا غريبان هاهنا
وكُلُّ غريبٍ للغريب نسيبُ
وأنا أزعم أنّ الجمل (قيّار) سليلُ الجبل (عسيب) وأنّ شعر امرئ القيس هذا كان في وجدان ضابئ بن الحارث وهو ينظم بائيتَه، فقد حاكاه في الإحساس بالغربة وفي إسقاط هذا الإحساس على معادل خارجي، وحاكاه كذلك في وزن الشعر( الطويل) وفي رويّه ( الباء) وفي حركة الرويّ (الكسرة) وفي ضرب الطويل المحذوف ( فعولن بدل مفاعيلن) ... وقد يكون هذا حَدَث حتى دون أنْ يَعيَ ضابئ، فكثيرا ما يَكتب الإنسان نصوصاً في ذاكرته وهو يظن أنه يبدع (سبحان المبدع من لا مثال).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى