محمد خضير - النداء الخفي

جاء في القرآن الكريم أن زكريّا نادى ربَّه "نداءً خفيّاً" أي دعاه في سرّه كراهة للرياء وإخلاصاً في الدعاء. لكن ما أعنيه هنا في منشوري مختلف عن المعنى القرآني، فالنداء الخفي يقابل ما أظنّه الإلهام أو الحاسة الداخلية التي تشير على المرء اتباع رأي دون غيره من الآراء العامة، وسلوك سبيل مخالف للسبل المطروقة والمباحة للآخرين. وأول من خُصَّ بهذا "النداء" سقراط الذي زعم أفلاطون في "محاوراته الأربع" أنه رفض الفرار من أثينا بعد أن حكمت عليه محكمة المدينة بتجرّع السّم لاتهامه بإفساد تلامذته بدروسه ومناظراته. إذ قال سقراط رافضاً نصيحة اتباعه بالفرار: إن الأجدر بمن وضع قوانين البلاد ليتبعها المواطنون أن لا يخالفها حين تُطبّق على نفسه. وقد أوحى هذا المثال لي بفكرة "المواطن الأبدي" التي خصصتُ بها مواطني "بصرياثا". ثم استدعت هذه المأثرة نداءاتي الخفية كلما صدر بحقي حُكم قدريّ مجهول أقف أمامه وحدي دون نصير.
أذكر في شبابي العاثر أني كنت أسلك لبيتنا في الليل درباً فرعياً خالياً من الأرجل يقع بين شارعين عريضين، الأول مربضٌ للملاهي والحانات والمطاعم ودور السينما، والثاني سكنٌ لرواد الفنادق الفخمة المفتوحة حتى شروق الصباح؛ فأغذَ السير متوجساً شراً يكمن لي في الزوايا المظلمة. وفي ليلة احتدمت فيها مشاعري، بعد خروجي من مشاهدة فيلم تاريخي بإحدى دور السينما، في وقت عرضهِ الليلي المتأخر، أخذتُ دربي الفرعي كعادتي للبيت، فتراءت لي كتلة غامضة سدَّت بصري، وتربّصتْ باقترابي منها. خففتُ خطوي وتوقفتُ أنوي الرجوع على أدباري، لكني عزمت وتقدمتُ نحو شخص مستندٍ الى عمود إنارة مطفأة حتى حاذيته. رمى الرجل المتربص عقِبَ سيجارته وداسَه بقدمه، وبادرني بقوله: "كان مُخرج الفيلم موفقاً في اختيار عنوانه. أتعرف لِمَ سمّاه: الهمسة الأخيرة؟". كان يشير إلى لغز أبي الهول المبتكر الذي واجه به أوديب المتوجه الى دلفي، في الفيلم الذي شاهدته ذلك المساء. وأمام حيرتي أضاف الشبح: "لكن البطل كان متكبراً وزنيماً. لا أدري لمَ عفا عنه وحش الطريق. كان عليه تنفيذ الحكم المحتوم". أشار ندائي الخفيّ إلى قصد الشبح المعاصر الذي يريد به تصحيح خطأ تاريخي، فيهمس بأذني كلمة النهاية البديلة لنهاية الفيلم. كنت أبحث في داخلي عن جواب يخلصني كما تخلص أوديب، عندما قهقه الرجل فجأة في وجهي آمراً: "واصل طريقك يا فتى. لا توجد أشباح منتقمة في زماننا هذا. يوجد فقط مجرمون طيبون". وقصد بكلماته الأخيرة عنوان مجموعة قصص مهدي عيسى الصقر التي قرأتها قبل مشاهدة الفيلم، وكانت تعويذتي في الخلاص من خطر محقق. ترابطت في ذهني النهاياتُ المفاجئة بعد اختفاء الأشباح المسالمة من طريقي، إلا أن النداءات الخفية لم تتوقف سنوات عن الإنذار بليالٍ لاحقة مطفأة الأنوار، وغرباء يعترضون طريقي ولا أكاد أصدّق أني تخلصتُ من كمائنهم.
في حرب الثماني سنوات، كانت البصرة تحت المرمى العشوائي للمدفعية الإيرانية شرقيّ شط العرب، ليلَ نهار. وفي يوم مكفهر برعوده ودمدمات مدافعه قصدتُ المكتبة الأهلية، الكائنة في القسم القديم من البصرة، فألفيتُ صاحبها الصديق غازي فيصل حمود قابعاً في ركنه الخلفي، بين رفوف الكتب الصامتة. عجبَ المكتبيُّ الصديق لطلبي شراء "محاورات افلاطون" التي ترجمها زكي نجيب محمود للعربية. قال لي: "أتستبدل ورقاً قديماً بورق ثمين تحتاجه هذه الأيام التي يحترق فيها كل شيء؟". وما أدراه بما شريت! صاحبني كتاب "المحاورات" عقداً كاملاً، وعبرَ معي حربَ الكويت التسعينية. ألهمني دفاعُ سقراط معنى مواطنيتي الأبدية، بل مواطنية كلّ عراقي مخترَق في الصميم. قرأت المحاورات الأربع ثانية في ضوء فانوس نفطيّ شحيح، فتراءى لي الجنودُ التائهون في الصحراء بعد انتهاء عاصفة الحرب. كنت أتصور النداءَ الخفيّ منقوشاً في قرص التعريف الذي يلفونه حول رقابهم. ما كان واحد منهم لينجو من هذه المحرقة لولا نداؤه الخفي. لا أحدَ على الإطلاق. فكرتُ متأملاً ذبالة الفانوس الراعشة التي تلوّت وانطفأت بعد نفاد زيتها، وانتظرتُ ظهور الشبح التاريخيّ كالمعتاد. ذهبتُ في الصباح بكتاب "المحاورات" الى مجلّد كتبٍ فاختار له كعباً أحمر، يميزه بين صفّ الكعوب في مكتبتي، التي اجتازت معي أزمنة الأشباح المسالمة.
لا يحضرني ندائي الخفيّ في هذه الأيام كما كان قبلاً، بعد أن ضعفَ اعتقادي بمحاورات الأقدمين، وكلَّ بصري وانصرفَ عنها، وزاد خوفي من سلوك الطرق الفرعية المظلمة؛ لكن كثرة المحاورات والمناظرات التلفازية والفيسبوكية، واستفحال الاستهلاك الرقمي للألعاب وأنواع أفلام الرعب؛ قد يدفعني الى تجديد الخطاب المحمّل بالنداء الباطني الذي يفصل بين الحقيقي والمزيف من اختلاقات عالمنا المعاصر. حيرتي تزداد، فهل ستكون الأشباح التاريخية عينها أم ستكون من نوع مغاير لمجرمي الأزمنة الأوديبية الطيبين والعافين، الذين كانوا يتربّصون بنا في عطفات الطرق المظلمة؟



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى