محمد حسن عبدالله - ما قبل الكتاب الأول.. ( طفولة الكتابة )

أتذكر الآن التجربة الأولى في عالم الكتاب .. كانت مجموعة من الموضوعات الإنشائية ، المشكلة بطريقة تعطيها بعض الحق في الادعاء بأنها قصص قصيرة .. أو قصيرة جدا .. كان التطلع إلى الكتابة والنشر ، أي السعي إلى الناس ومخاطبتهم وتأكيد الذات من خلال الاتصال بهم ، والتأثير – المظنون منهم – كان هذا التطلع مبكرا نسبيا ، في أواسط المرحلة الثانوية .. تحركت اللغة ، لغة نابعة من حفظ القرآن ، والشغف بروايات جورجى زيدان ، وقراءة العهد القديم وقصص التوراة المشوقة ، ولهذا جاءت الكتابات القصصية الأولى قسمة بين مشاهد تاريخية وحكايات من واقع القرية أشبه بالتحقيق الصحفي ، وبعض الخواطر القصصية المبتدعة كتخيل لاحتمالات الواقع . أخذت هذه "الأصداف" المغلقة على خدع وحقائق مكانها فى كراس من أربع وستين صفحة ، وذهبت بها إلى مطبعة الخولي بالمنصورة ، فعرفت أن الخطوة الأولى هي الحصول على موافقة الرقابة على المطبوعات . كان ذلك عام 1954 والانقلاب العسكري مسيطر على مصر ، واحتمالات الانشقاق بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر بادية في الأفق ، وفى هذه الفترة وقبلها أيضا – فرضت رقابة شديدة على وسائل النشر . لم يكن في كراستي ما يضايق أحدا ، لا الحكومة ، ولا الذين يؤيدونها ، ولا الذين يعارضونها .. ذهبت إلى إدارة النشر والرقابة فى مديرية المنصورة ، قبل أن تسمى محافظة ، وعرفت أن علىّ أن أكتب الكراسة ثلاث مرات ، لم يكن التصوير سهلا أو حتى معروفا لنا ، كما أن الطبع على الآلة الطابعة مما لا تحتمله ميزانية تلميذ في المرحلة الثانوية ، ولهذا لم يكن بد من أن أقوم بنفسي بنقل الكراسة ذاتها مرتين أو ثلاثا في ما أظن ، وقد بذلت هذا الجهد الآلي المميت بصبر واحتمال ، رغم أنني – قرب النهاية – كنت قد حفظت قصصي ، ومللتها ، وتمنيت لو أتخلص منها . لكن هذه الآلام جميعا قد انقضت بمجرد أن تسلم موظف الرقابة النسخ منى ، وطلب أن أعود بعد أسبوع ، وقد عدت لأجد نسخة واحدة في انتظاري ، مكتوب عليها إذن الرقابة والسماح بالنشر ، ووجدت "ختم النسر" فوق غلاف الكراسة ، وفوق كل صفحة من صفحاتها الأربع والستين ، كانت لحظة إشراق سعيدة ، وكأن هذا الختم الرائع قال كل شيء وأبدى رأيه في قصصى السعيدة . انتهت المرحلة التي ظننتها شاقة ، لكن انتهاءها كشف عن مرحلة أشق ، كيف نصل إلى المطبعة ؟ لا أمل في ناشر يتحمل نفقات الكتاب ، ولا مفر من أن أكون الممول لكتابى الأول ، وقد عرفت أنني بحاجة إلى اثني عشر جنيها لطبع ثلاثمائة نسخة ، فكيف أحصل على هذا المبلغ "الخرافي" ؟ وهل يصدر حكم بالإعدام على أحلى الأحلام من أجل المال ؟
هنا اقترح الأصدقاء المشفقون أن نبيع الكتاب قبل طبعه ، نبيع السمك وهو لا يزال في البحر ، ونلقي العشم كله على جمهور الثانوي ، وهو القارئ المنتظر ، إذا ما صدر الكتاب . وفعلا ، طبعت إيصالات ، قيمة الإيصال خمسة قروش فقط لا غير ، وانتشر مروجو الإيصالات بين زملاء المعهد حتى جمعنا أكثر المبلغ المطلوب ..
بعد عناء ، وطول انتظار ، ظهر الكتاب الأول ، وكان اسمه "أول همسة" ، كما يولد طفل في كوخ صغير ، مهما كان شكله ، وفقره ، فإن براءة الطفولة كلها ، كامنة فيه .




* هذه المقالة القصيرة نشرت بصحيفة الرأي العام الكويتية في 27/5/1985 حين كنت أستاذا للنقد الأدبي بكلية الآداب ( جامعة الكويت ) – ووجدتها – بنصها بين أوراقي ، وبما أنني حملت نفسي مسئولية التعريف ما كتبت ( على توالي الصدور ) فقد أغفلت الذاكرة هذا العمل القديم جدا ، الذي ( قد يدل ) على نازع طفولي ، رغم السنين – لا يزال يعيش طفولته !!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى