مصطفى الحاج حسين - نقّاد «تميم»

صديقي... لا أقصدُ الإساءةَ إليكَ في حديثي هذا، فلن أُحدّثَ الآخرين عن شخصيتك، بل عن نموذجٍ أنت تمثّلُه، وإمعاناً منّي بالحرص على عدم التّشهير بك، فسوف أغيّر اسمكَ، وسأهدر خمسة عشر سنتيمتراً من طولِكَ، وأضيفُ إلى نحولِكَ عشرينَ كيلو، وإلى عمرِك خمسَ سنوات.

أعزائي... أرجوكم ألاّ تهتمّوا بالشخصِ الّذي سأحدّثكم عنه، بقدرِ اهتمامِكُم بنموذجه، فـــ«تميم» هذا ليس وحدَه من سلَكَ هذا الطريق في بلدنا، فهناكَ العشرات من أمثاله، وللتوضيح أقول:

(ليس الذّنبُ ذنبه فقط، بل ذنبنا أيضاً نحن البسطاء، الذين نصدّق كلّ ما نراه، ونؤمن بما نسمع، لذا علينا أن نسخر من أنفسنا قبل أن نسخر منه، ونحاكم ضمائرنا وسلوكنا قبل أن نحاكمه ونحاسبه.

وقبلَ أن أبدأَ حديثي عنه، سوفَ أسحبُ وعداً منكم، بعدم التّشهيرِ به، وإن تعرّفتم عليه من خلال الحوادثِ التي سأسردُها عليكم).

(ترعرعَ «تميمٌ» في أسرةٍ غنيّةٍ، محبوباً مدلّلاً، فهو الذّكر الوحيد لأبويه مع بناتٍ ستٍ. ولهذا السّبب بالذات فقد نشأ «تميم» طفولياً واتّكالياً، لا يكادُ يحتاجُ إلى شيءٍ إلاّ توفّر له، ولا يطلبُ أمراً إلاّ حصلَ عليه، ممّا كرّسَ في شخصيّتِه هاتينِ الصّفتينِ، وكثيراً ما كان يخرجُ على القواعدِ والأصولِ، فلا يرى معارضةً ولا يوقفه أيّ تأنيب، وهكذا كبر وهو لا يقدرُ أن يتحمّل أيةَ مسؤوليةٍ، وأقسم لكم إنّه حتّى اللحظة لا يستطيعُ ذلك وهو ابنُ خمسةٍ وعشرينَ عاماً.

وعند أدنى إبطاءٍ من قِبلِ أهلِه في تنفيذِ رغباته، كان يعصّب ويتمارضُ، فيُقلقُ الأسرة، الّتي تضطرُّ أن تنزل عند طلبهِ لكيلا يتأزّم...

ولكنّه تأزّم أيّها السّادة، وأقسمُ على ذلك، فقد صار أنانيّاً إلى أبعد الحدود، وهو لا يدري، أو ربّما يدري ولكن أعجبه حاله هذا.

كانت فرحةُ أهلهِ به لا توصَفُ، عندما دخل الجامعة، لكنّ هذه الفرحةَ سرعانَ ما أُصيبت بمنغّصات كثيرة، ذلك لأنّه ظلّ راسخاً على مقعده الدّراسيّ، في السّنة الأولى أربعَ سنواتٍ، أمّا تعليل رسوبهِ هذا فله أسبابٌ عديدة...

رفاقه يقولون: إنّه بدل أن بتابع دوامه في الكلّية، كان يداوم في المقصف.


أمّه تقولُ: «تمتومي» - هكذا تناديه كنايةً عن الدّلال -صغيرٌ بعدُ على الدراسة، ثمّ المستقبل بالنسبة لــــ«تمتوم» مؤمّن له والحمد لله.

أمّا هو فيقول: الحقّ كلّه على أساتذةِ الكلّية، فهم أغبياء لا يعرفون أن يسألوا، ولا أن يصحّحوا، إنّهم يناصبونني العداء... وأنا أكرههم.

أمّا أقوال الآخرين عنه، فتنحصر في أنّه: لم يُخْلَقْ للدراسةِ، لأنّه غبيٌ لا يفهم.

ولكنني أقول: إنّه ليس غبياً، وسوف ترون فيما يأتي.

«تميم» ممثّلٌ، أو بالأصحّ يرغب أن يكونَ ممثّلاً، لذا فقد انتسبَ إلى فرقة المسرح الجامعي، وعمِلَ فيها لسنواتٍ. ولكنّه لم يحصل على أيّ دورٍ رئيسي أو مهمّ، وهذا ما آلمه وسبّب له عقدةً نفسيّةً، ترون نتائجها فيما يلي:

والآن أعرضُ لكم نقطةً جوهريّةً في حياة «تميم»، فهي لحظةُ الانعطاف الخطيرة، التي مرّ بها في الجامعة، والواقعُ أنّ الغموض يسيطر على هذه النقطة بالذات. فلا أحد يدري كيف اهتمّ «تميم» بالأمور الثقافيّة الجادّة، وحضر أمسيات المهرجان الأدبيّ في الجامعة، ولأوّل مرّة في حياته الجامعيّة، في ذلك اليوم، دخل «تميم» إلى القاعة، واستمع للشعراء الشّباب، بكلّ هدوء واهتمام، ولا أحد يدري أيضاً، كيف تسلّلت إلى رأسهِ ذي الشعر الكثيف والطويل والمفروق من الوسط على طريقة الفتيات. ذلك أنّه تربّى في صغرهِ تربية فتيات، حيث خرّمت أمّه أذنيهِ، ووضعت فيهما القرطَ، خوفاً عليه من عيون الحسّاد، لذلك ظلّ سلوكه حتّى اليوم قريباً من سلوك الفتيات... أقول: لا أحدَ يدري كيف تسلّلت إلى رأسهِ، فكرةُ أن يكتبَ الشّعرَ، لذلك عاد إلى بيته مهموماً، يفكّرُ بطريقةٍ تصنع منه شاعراً، ممّا لفتَ انتباهَ والدتِه التي بادرته بالسؤال:

– ما بكَ يا روحي «تمتوم» لا تضحك ولا تتعارك مع أخواتِكَ كعادتك؟! هل ضايقكَ أحدَ الأساتذةٍ في الجامعة؟

قال تميم:

– ماما... أنا أريدُ، بل قررتُ، أن أصبحَ شاعراً.

– أنتَ شاعرٌ يا حبيبي «تمتوم».

ثمّ استدركت باستغرابٍ هذه المرّة:

– ولكن كيف؟! ماذا أستطيع أن أقدّم لكَ من أجلِ ذلك؟

– تستطيعينَ يا أمّي... بمساعدتكِ ومساعدةِ بابا، ممكن أن أكون أكبر شاعر في حلب.

ثمّ أردف:

– الشّعر يا أمّي شيء كبير، يكفي أنّ الشعراء أصحابُ مزاجيات عجيبة، وهي تستهويني.

ردّدت الأمّ باستغراب:

– مزاجيات؟!.. ماذا تعني؟!.. أبوك يقول عن الشّعراء شحاذينَ.

قاطعها تميم، وكاد يهمّ بالبكاء:

– ماما... عليكِ أن تقتنعي بكلّ شيء أقوم به... لا أريدُ معارضةً من أحدٍ، وإلاّ...

وبدأت قسماتُ وجهه تتغيّر، ويداه النحيلتان ترتجفانِ، كأنّه يهمّ بالبكاء.

فأسرعت الأمّ تقول، لتهدّئ خاطره:

– حسناً «تمتومي» لا تزعل، سوف تكون شاعراً.. أؤكد لك.

انفرجت أساريره فجأة، وأخذ يهتف في أرجاء المنزل، وهو يقفز:

– تعيش ماما... تعيش أمّ تميم الشاعر العظيم.

لقد تلقّى أوّلَ اعترافٍ بشاعريّتهِ، قبل أن يخطّ حرفاً واحداً.

وفي اليوم التالي، دخل تميم المقصفَ، واتّجه إلى إحدى طاولاتِ شعراءِ الجامعةِ، متجاهلاً نداءتِ زملائهِ في المسرح الجامعي، الذين يتربّعون على إحدى الطاولات.

ألقى التحيّةَ على الشعراء، جلس بأدب جمّ، واتّجه بالحديث إلى أحدِ المشهودِ لهم بالشاعرية في الجامعة:

– أنا من المعجبين بشعرك... أنت أفضل شاعر في الجامعة، وأتمنّى التّعرف إليكَ عن قرب.

– أهلاً... شكراً.

– قال ذلك بحرارة وافتخار، فقد وقع على معجبٍ به، وهذا ما يدغدغ كبرياء كلّ شاعر.

عند الانصراف، أصرّ «تميم» على دعوة الشاعر «حسّان» إلى منزله، لتناول الغداء، وتمّ ذلك.

وكم كانت دهشة «حسّان» من كلّ شيء رآه أو حصل معه ذلك اليوم.

فالمنزل فخم وأنيق، والطعام فاخر يغصّ بقطع اللحم اللذيذة و... فتح الباب، ودخلت امرأة لا تتجاوز الأربعينَ بكثير، تتبعها صينية الشاي، فالتفت «تميم» إلى حسّان، قائلاً:

– إنّها أمّي، وهذه أختي الكبرى «سوزان» وتلك «رولا» الصّغرى.

وكان الترحيب حاراً بشكل واضح، و «تميم» يتابع حديثه:

– إنّه «حسّان» الشّاعر، صديقي الجديد، الذي حدّثتكم عنه.

– أهلاً وسهلاً... هل أنت من هذه المدينة؟

قالت الأم ذلك، وكأنّها تلمّح إلى شيء ما في ثياب «حسّان».

– لا... أنا لستُ من هنا... أنا...

– وأين تسكن؟

– في المدينة الجامعية.

وتظاهر «تميم» أنّ فكرة برقتْ في ذهنه، فهتف:

– اسمع يا «حسّان»، هل لديك مانع أن تسكن هنا معي في غرفتي؟

وقع السّؤال على رأس «حسّان» كصاعقةٍ في عزّ الصيف... أمنَ المعقولِ أن يحدثَ ذلك؟! هل ستنتهي أيّامُ الغرفةِ الضّيقةِ في المدينة الجامعية؟ وتمضي معها تلكَ الوجباتُ القميئة من الفلافل والجبنة والحمص و...

وشعرَ بالارتباك:

– ولكن...

– لا عليكَ، ستبقى معي حتّى تنتهي دراستك.

واقتربت «رولا» الصّغرى من «حسّان» تفحّصته عن قربٍ، ثمّ ضحكت بخبثٍ واستهتارٍ، وقالت:

– هل أنت الذي سيعلّم «تميماً» كتابة الشعر؟ هههه، قال بابا إذا علّمتَ «تميماً» كتابة الشّعر، سيقدّم لك هديةً كبيرة.

ارتبك «تميم» و «حسّان»، الذي لم يفهم شيئاً ممّا قالته الصّغيرة، وصرخ «تميم»:

– «رولا» اخرجي من غرفتي يا سخيفة.

وقبل أن تخرج «رولا» من الغرفة، استدارت إلى «تميم» و«حسّان» مادّة لسانها:

– شعراء مسخرة!.

وصار «حسّان» نزيل المنزل، كأنّه أحدُ أفرادِ العائلة، يتناول أطيب

الطعام، وألذّ الشّراب، بل تعدّى الأمر إلى علب الدخان ونقود «الخرجيّة».

تعرّف «تميم» من خلال «حسّان»، إلى كلّ أدباءِ الجامعة... ثمّ، تعرّف إلى كافة أدباء المدينة... يدعوهم إلى بيتهِ للطعام، والنوم أحياناً، فصار صديق الجميع، وكان في كلّ مرّة يرجو فيها «حسّان» أن يكتب قصيدة أمامه و«حسّان» يستغرب وبتعجّب من طلب «تميم» هذا:

– لماذا تريدني أن أكتبَ قصيدةً أمامك؟!.

– أريدكَ أن تعلّمني كيف تكتب القصيدة.

يضحك «حسّان»، وتزداد دهشته اتّساعاً، ويسأل تميماً:

– أتظنّ كتابة الشّعر تعلّماً يا تميم؟! إنّها موهبة، وليست تعلّماً، حسناً...

سأدلّك على طريقة كان القدماء ينصحون بها، كلّ واحدٍ يريدُ أن يكون شاعراً... رغم عدمِ قناعتي بها.

واستبشر «تميم» خيراً:

– رائع... أرجوك، قل لي، ما هي النصيحة، وسوف أنفّذها في الحال.

– النصيحة تقول يا صديقي (إذا أراد المرء أن يصبح شاعراً، فعليه أن يحفظ

عن ظهر قلب، عشّرة آلاف بيت من الشّعر القديم).

تغيّرت قسمات «تميم»، وردّد بتعجّب:

- عشرة آلاف بيت شعرٍ قديم! ولكن، كيف لي أن أحفظها؟ خاصّة وأنا لا أحبّ الشّعر القديم، لا سيّما الجاهلي منه... ثمّ هذه المسألة تحتاج إلى وقت وجهد كبيربن... وأنا أريد أن أكون شاعراً بأسرع وقتٍ ممكن.

- ولماذا العجلة يا «تميم»؟! لا تظنّ كتابة الشعر بهذه السهولة.

قال تميم:

- أنت لا تريد أن تساعدني يا «حسّان».

ونهض مسرعاً إلى أمّه، وكأنّه يهمّ بالبكاء.

عندما أعلن المكتب الإداري في الجامعة، عن بدء تقديم الأعمال الأدبيّة، من أجل المهرجان، سارع «تميم» لكتابة أوّل قصيدة له، مزّق عشرات الأوراق... دخّن كثيراً... تناول أكثر من خمسة فناجين قهوة...

وثلاث حبوب «تامرين»... أوصد على نفسه باب الغرفة، خلع سترته أولاً... ثمّ بنطاله... كرع كأس ماء بارد... استلقى فوق السرير على بطنه، فكّر كثيراً... تقلّب... خرج من الغرفة... دخل الحمّام.. ثمّ خرج مسرعاً، وهو يصرخ:

- وجدتُها... وجدتُها.

كتب عنوان القصيدة... ثمّ تصفّح العديد من المجموعات الشعرية التي اقتنع بضرورة قراءتها أخيراً، من «حسّان»... إن كان جادّاً في رغبته بأن يكون شاعراً.

وأخيراً بدأ يكتب القصيدة:

أحبّكِ.. وأموتكِ.

أرتكبُ وجهي عندَ المرايا

أنا القطار المشظّى بالرجال

المعبأ بالجبال.. والشّمال

ألّوح بأقدامي عند الوداع

ضربوني على نحلتي

فصارت وردتي مملكة الحجل

ولم يبقَ من أصابع حبيبتي إلاّ الخواتم

لقد رأيتُهم يا أبي...

لم يكونوا

أحدَ عشر قمراً لي ساجدين

تلك حكمة الأجزاء منّي

لا أريد أن أكتب لكم القصيدة بكاملها، لأنّكم اطّلعتم عليها على ما أعتقد.

وبهذه القصيدة طلب من صديقه «حسان» أن يقدّمها إلى اللجنة المسؤولة عن إعداد المهرجان.

وعندما قرأها «حسان» ضحك وقال:

- ولكن يا تميم هذه الكتابة ليست شعراً.

قال تميم والانزعاج واضح عليه:

- حسان... أرجوك دعني أشارك في الملتقى، وأنا الذي سيتحمّل المسؤولية.

ولبّى صديقه الطلب حياءً.

نزلت بطاقات الدعوة للمهرجان، وبمعونة الأصدقاء، كان اسم «تميم» من بين الأسماء المشاركة.

كان الحشد كبيراً، كما هي العادة، عندما صعد «تميم» إلى المنصّة، وبدأ يلقي قصيدته، إنّها فرصته ليتخلّص من عقدته النفسيّة، التي خلّفها عمله في المسرح الجامعي، ورغم كلّ أفانين التمثيل التي تعلّمها من المسرح، فقد كان إلقاؤه متعثراً، مليئاً بالأخطاء النحوية، ولعلّي ألتمس له العذر، إنّها أوّل تجربة له من هذا النوع، لكنّ الجمهور المثقف، جمهور المهرجان، لم يحتمل ذلك، فانتشرت الضوضاء بين الصفوف المتململة الضّجرة، وعلت الهمسات تشتم الشاعر وتسخّف عمله الشّعري، وتسبّ اللجنة التي أخرجته. وظهر ذلك بشكلٍ جليّ حينما بدأ الحوار، حول القصائد المشاركة، حيث انصبّ وابل النقد والسخرية على تميم وقصيدته، وأخطائه الفادحة من كلّ مكان، حتّى إنّ أحدهم نصحه بالعودة إلى سلك التمثيل، لأنّ ذلك أفضل له.

ولكن ما حدثَ بعد ذلك فاق المعجزة، إذ بدأت اللجنة النقديّة المؤلّفة من أهمّ أساتذة كلّيّة الآداب، إضافة إلى ناقد شاب عضو في اتّحاد الكتاب العرب، بدأت تناقش الأعمال المقدّمة.

تحدّث الدكاترة حول الأعمال، ثمّ جاء دور الناقد المعروف، فقال:

- إنّ ما سمعناه اليوم من الشعراء الشباب كان شعراً رديئاً، باستثناء قصيدة هامة قدّمها الشاعر الشاب «تميم».

في الشعر ثمّة نصوص تتطلّب نقداً عاديّاً بعاديتها، وثمّة نصوص أخرى تعلّم الناقد كيفية النقد... وقصيدة الشاعر تميم من هذا النوع الثاني، فهي تحمل حساسيّتها وشفويّتها، مندغمة بالواقع المعاش حالياً بشكل تراتبي ديناميكي، لقد أثارني «تميم» حقّاً، لأنّه يكتب قصيدته بطريقة مغايرة وشموسة.

كان حديث هذا الناقد الشاب مفاجأة فعلاً، وكان حديثه نصف معجزة، أمّا النصف الأخير للمعجزة، فقد كان عندما تراجع الدكاترة عن آرائهم في قصيدة «تميم» وفي تأييدهم لكلام ذلك الناقد.

أمام هذا الأمر، كانت ردّة فعل المدرّج كبيرة، فمن سائل ومن مستغرب:

- كيف يقول الأستاذ الناقد هذا الكلام؟!

- هل أصبح رصفُ الكلام السّخيف شعراً؟

وانقسم جمهور المدّرج والأدباء إلى قسمين، مؤيّد ومعارض، ومع ذلك فقد منح «تميم» الجائزة الأولى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى