فاتن خاطر - حكاية الصبية التى كانت تنام عند طرف البحر.. قصة قصيرة

تنزوى بلدتنا القديمة فى ركن بعيد عن العالم، يستقيم شاطئ البحر وينحنى ويلتف حول منازلنا العتيقة كأول حرف من حروف اسم هذه الصبية التى يراقبها الآن خلف نافذته الزجاجية، ومنذ عشرة أعوام كاملة.
كل صباح تلقى الشمس خيوطها على كل الصيادين لحظة إلقاء شباكهم فى قلب البحر من قوارب خشبية صنعوها بأياديهم المصبوغة بلون هذه الشمس، ومعها تفتح البيوت أبوابها ونوافذاها للأساطير الملونة بألوان أسماكهم الصغيرة والرفيعة والعريضة بحواف مدببة والضخمة الناعمة ويغلفها قشور كثيفة أورقيقة وربما عارية تماما عن القشور، وتناجى كل إمرأة جارتها بحكاية متجددة بالهواء الرطب، ربما أثناء جلوسهن أمام أبواب المنازل ساعة تعامد الشمس على البحر، يرتقن ملابس الأزواج والأبناء والعشاق، ومع كل غرزة للأبرة على أقمشتهم الخشنة يعلو صوت الحكاية وكثيراما تتسرب من نوافذ المطابخ ممزوجة بروائح طبخهم الشهى، وأحيانا فى سكة المدرسة المستقرة بأخر ركن من البلدة.
نسجوا خيوط أساطيرهم بإحكام خياطة ماهرة تعرف جيدا كيف تختارقماشتها، ولونها، وحساب كل سنتيمترمنها، وكيف يقطع مقصها بقوة أو حذر ثم برفق هذه الحسابات لتخرج أخيرا بالقصة، وبعدها تجلس وبأطراف أصابع قدمها اليمنى تهدهد آلة حديدية، فتنطلق أنغام الموتور متوحدة مساءا من كل منازلنا،لحنا عجيبا اتخذه أكابر مؤلفى الموسيقى أصلا لألحانهم ومقاطعهم المعزوفة فى الجانب الآخر من العالم، وكثيرا ضفروها بكلمات بكى لها الرجال فى حانتنا الخشبية المطلة على طرف البحر، وتأوهت لها صبايا تتلاعب بخصورهن ونهودهن الصغيرة أيادى غليظة فى الطرف الأخر من بحرنا، وأخرالليل يتلاشى النغم شيئا فشيئا مع انسحاب الظلام وقدوم أول خيوط النورمن أخرالبحر بموج فتى طائش، فتخرج له النساء مع طلوع الشمس بأثواب مشرقة حاكوها مساءا بأياديهن.. فقط ليتباهوا ببدع يضاهى هذا البحر القاطن أمامهم.
لم تكن أساطيرنا عن أرواح وأشباح، أو ملوك وعظماء، وإنما كانت عن صيادين طوا بحرهم، أو طواهم وكتيرا كانت عن عرائس اختفت فى ليالى العرس، أو فكوا الضفائرعلى طرف البحر، فسحبهم بعيدا ولم يعدن أبدا.
بقت أسطورة وحيدة تجلس أمامهم على الشاطئ مرحبة وأحيانا نافرة، وجلسوا طويلا يتأملوها من بعيد...
جنية البحر التى فتحت لهم بابا من خيال رائق مطلا على هذا البحر.
فريدة......يقسم أهل البلدة أنها جنية عجوز وأن فريدة الأصل احترقت قديما، لكن الصبية والصبايا والأطفال، الذين يسيرون بقلوب تتلاشى فيها الخيوط الرفيعة بين الوهم والحقيقة، وبأرجل نحيفة تحملهم منطلقين نحوها، وتساعدهم فى الجرى بعيدا إذا شعرت بهم، يقتربوا كل يوم بحذر يتأملوا نومها على أريكة بلون السماء، يحملها الشاطئ منذ سنوات بعيدة، يتلمسوا دولاب ملابسها المجاورلأريكتها، ويحدقوا فى الطاولة الخشبية المستديرة برجاجها اللامع الملون بالأصفر والأزرق والأخضر، يرفعوا كوبا، أو زجاجة نبيذها الأحمر، أو قطعة فضية ثم يضعوها مكانها مرة ثانية. أقسم كل الأطفال قسما أغلظ من قسم الكبار، أنها صغيرة مثلهم، وتنام بأعين كأنها مغلقة.
وحكت طفلة لأمها عندما عادت ترتدى فستانا أحمرا وممسكة بثوبها القديم بين يديها ذات يوم، أن أصحابها عندما شعروا أنها بدأت تستيقظ جروا مسرعين، وتركوها وحدها، فلم تجد إلا الدولاب فإختبئت فيه، لحظات وفتحت فريدة الدولاب ووقفت تنظر إليها طويلا ثم جلست ووضعت يديها تحت ذقنها وسألتها:
خايفة منى؟
فجلست يا أمى مثلها وكررت:
خايفة منى؟
وضحكنا معا ثم حملتنى على أرجلها:
لماذا دخلت دولابى؟
فأسرعت يا أمى:
لأرى فساتين الجنية فريدة..
سكتت..
زعلتى منى يا خالتى فريدة؟
فلم ترد...ففكرت أن أصالحها فقمت وتلمست شعرها وضفرت وضفرت وضفرت وضفرت حتى تعبت يدى ولم تنتهى الضفيرة.
فأخذتنى وقبلت خدودى كثيرا وأخيرا:
أى فستان يعجبك؟
فأشرت للأحمر..فأخذته وإلتقطت المقص وقصته، وخيطته بالخيط وإبرة أحلى من إبرتنا، ووجدته هكذا، وألبستنى هذا الفستان الجميل.
سأنام به وأغسله صباحا وألبسه كل يوم حتى يأتى العيد وأذهب لأعيد على خالتى فريدة، وعندما أكبر سألبسه أيضا.
أما ماجد الذى يبلغ الأن ثمانية عشر عاما، سار منذ ثمان سنوات حتى أريكتها، وظل يتأملها، وأخيرا رفع زجاجة النبيذ وشربها كلها، ولف وجلس بجوار شعرها وظل يبكى حتى جاء عم حسن، الرجل الوحيد الذى تسمح له بالإقتراب منها والدخول لمنزلها المهجورمنذ زمن، جره من يده وقذفه فى فناء منزلهم وحينما سألته أمه عما حدث ولماذا يبكى هكذا:
نظرت إليها يا أمى وأرادت تقبيل عيونها وفجأءة رأيت شررا أحمرا يتسرب
من رموشها، فاستدرات ..وجدت زجاجة شربات الورد الذى أراها تشربه كل يوم
أمه:
متى رأيته؟
خرجت كثيرا ليلا أراقبها مع الصبية
أكمل...
بعدها جلست بجوار شعرها، جميلا يا أمى شعرها أجمل من شعرك وشعر أختى وكل البنات، ثم وجدت نفسى داخل البحر، وأوشكت أن أغرق وهى تنام على أريكتها على صخرة بجوارى تماما ...وظهر حوتا ظل يردد:
تعلق بشعرها ...تعلق بشعرها..
فخشيت يا أمى أتلعق به فأقلقها من نومها...
بدأت الحكاية قديما، عندما قطع نغم البيوت أصوات سكارى الحانة:
حريق ..حريق...منزل الريس جعفر يحترق..
شبت النيران فى لحظات بمنزلهم الكبيرالمستقرعلى طرف البحر، واختفت أسرتها بأكملها، أبيها الريس جعفر شيخ مشايخ الصيادين، وأمها، وأختها، ونجت هى بإعجوبة على يد عم حسن الصياد، وتسربت الحكاوى أن العمدة جاسر وراء تلك النيران.
كان عمرها فى ذلك اليوم ثمانية عشر عاما، حملها عم حسن لمنزله ، وبكى أبيها هو وزوجته وابنه بجوارالسريرالذى رقدت عليه أياما مريضة ذاهلة، داووها , وأطعموها ولما طابت، قامت فجرا وجلست بجوارركام منزلهم، جلس بجوارها عم حسن:
ورب السما العالية..يا ست الناس
أيام وهيرجع البيت أحسن مما كان
وكل البلد أهلك..
وسالت دموعه...
لا يا عم حسن البيت هيفضل كده.
ولم تتكرر ولم يعاود الرجل:
طلبت أريكة ودولاب وطاولة خشبية مستديرة وشبكة وصندوق كبير للسمك.
اللى يرضيك يا بنتى.
ثلاثة أيام وصنع لها كل ما طلبته، وضعوا الأريكة أمام المنزل وبجوارها الدولاب وأمامها الطاولة، وطلب من الصيادين الإبتعاد مسافة عنها إكراما لأبيها، فرحب الجميع.
وبدأت تسهر طوال الليل تصطاد السمك، وتعود به إلى الصندوق، ثم تجلس على أريكتها تشرب ثلاث زجاجات نبيذا أحمرامعتقا بيد يوسف صاحب الحانة الخشبية الذى يداعبه مساءا السكارى:
تحب الجنية يا يوسف ..وتعتق لها نبيذا مخصوصا
فيدندن :
ورمش عين الصبية يفرش على الميه
وشعر راس البنية يلف جنية.
فتضع أخرالزجاجات وبعدها تخلع ملابسها وتمشى حتى قلب البحر، تعوم ساعة كاملة، وتعود، وفى الصباح تفتح عيونها ببطء للنور، ولحظات وتختفى داخل منزلهم جالسة خلف الشباك منتظرة عم حسن الذى يأتى لها كل يوم بتحية جديدة ويحمل سمكها ويرجع إليها بالنبيذ والأطعمة القليلة، وكل ما تطلبه وربما يسافر بعيدا ليجلب لها ما تطلبه.
وبعد ثلاثة شهورمن اشتعال النيران بمنزلهم، أتى جاسر ورجاله ووقفوا أمام المنزل يقايضوها عليه ، ويأكدوا لها أنهم لا يقبلون جلستها هذه على الشط ولا نزولها البحر ليلا، وبعد أن سمعت كلامهم كله، دخلت منزلها وعادت بجاروف حديدى كبير،و ظلت تلقى الضربات الطائشة مرة والصائبة مرة أخرى، وقبل أن يرفع جاسر يده عليها، انتصب أمامه عم حسن أطول رجال بلدتنا وأعرضهم:
ارجع يا جاسر..ارجع بالأدب
جاسر...أنت اللى هتقف قبالى يا حسن
ارجع يا جاسر وهنتفاهم..هجمع الرجالة ونعمل جلسة ونتفاهم يا جاسر
خرجت من خلف ظهره ووقفت بجواره تماما، نظر العمدة طويلا إليهم وسحب رجاله ورجع..
وفى المجلس قايضه حسن والرجال مقابل أن يترك فريدة ومنزلها أن يرفع حصته فى الصيد من الربع إلى النصف ..إكراما للريس جعفر الذى له طوبة فى كل دار، وقطعة خشب بكل مركب، ودين فى رقبه كل الصيادين، وتحية لكل عريس، وقطعة أثاث ببيت كل عروس، وطبطت يده على كل يتيم، وستر ثوبه كل إمرأة.
رفض العمدة أول الأمر وهددهم فوقف الرجال وخرجوا بلا كلمة زائدة، وفى الصباح جلسوا خلف مراكبهم ستة عشر يوما بالتمام، لم يذوقوا طعاما مسبكا وأغلقت الحانة أبوابها حتى إستسلم جاسر وقبل بالعرض.
وبقت هى تصطاد السمك ليلا، وتشرب نبيذ يوسف، وتعوم لقلب البحر ثم ترقد على أريكتها وتدخل منزلهم صباحا عشرون عاما كاملة.
إلا هذه الليلة، جلست طويلا خلف الشباك تنتظره ..ولم يأتى، تسرب الخبرشيئا فشيئا، ومن خلف الشبابيك :
لم يأتى عم حسن ...لعله مريضا...هل ستزوره؟...مؤكد سالت دموعها..
الجنية وحيدة لم يأتى إليها حسن..لعله سافر يجلب لها شيئا ونسى أن يخبرها.
أين عم حسن؟
شاع الخبر فى البلدة كلها، وأخيرا أتى ولده حسين يحمل لها وصية أبيه:
وصى أبى يا ست فريدة أن تغسليه بيدك ويكفن بعباءة الريس جعفرويدفن بجوار أريكتك.
قبلت الوصية..وسقطت دمعة وحيدة من عينه اليسرى.
وهاهى تسير الأن بفستانها الوردى بعد أن حلقت شعر رأسها ومشت تحمله وخلفه حسين يحمل عباءة أبيها وخلفهم البلدة جميعها.
غطى حسين عانة أبيه إكراما لها.
جلست عند رأسه وتطلعت بوجهه وقبلت عيونه وجبهته ولثمت شفاه بقبلة طويلة.
وبالليف وطين البحر فركت جسده كله وشطفته بماء ممزوج بالنعناع الأخضر
ثم دهنت جسده كله بزيوت البنفسج ،واللوز،والصندل التى أتى لها بهم من مكان بعيد، ولفوه بالعباءة ودفن بجوار أريكتها ومعه شعرها.
فى المساء أغلقت البيوت نوافذها ولم تعزف نشيدها حدادا على حسن الصياد، وسك يوسف الحانة، وعندما أتى إليه بعض السكارى وطرقوا بابه طويلا، فتح لهم ونعتهم بالكالحين وأشارعليهم بالبحر..ودفع الباب.
جلست تنظرللبحر..وقف خلفها الرجل الذى ظل يتأملها عشر سنوات، وأخيرا قبل رأسها، وجلس يحمل زجاجات نبيذها الثلاث.لم تسأله حتى من هو..فقط بعد لحظات قامت وأتت بكوب أزرق , وأخر أخضرا وشربا معا حتى أخر قطرة، وخلفهم يوسف ويدندن:
ورمش عين الصبية.......
مشت بفستانها الوردى الذى غسلت به الرجل الذى إلتقطتها من النيران إلى قلب البحر، وطافت على وجهه، ففعل مثلها تماما، فغمرهم البحرولفهم الموج خمس لفات وحملهم حتى الطرف الأخر، داعبت الأضواء الملونة،عيونهم المبتلة بمياه البحر، وسمعوا نشيدهم المعزوف عاليا صافيا مرة ، يرتفع ويهبط وتزيد الهمهمات وتقل مرة، حتى تلاشى النغم وسمعوا تصفيقا لم يسمعوه فى بلدتهم، وسحيهم الموج مرة فمرة حتى وضعهم على طرف الشاطئ.
انتباتها رعشة، حضنها فبدأت تنتفض أكثر، سحب غطاء الأريكة ودثرها به لكن الحمى كانت قد دخلت جسدها، جرى مسرعا ويوسف يدندن:
وشعر راس البنية.....
صعد درجات السلالم ركضا، ودخل شقته ساحبا غطاءا وقلبه يدق...سحب زجاجة نبيذ وقلبه يدق ويدق...التقط بعض الطعام وارتفع ضغط نبضاته...وقف حائرا..
وبدأ يستسلم...نزل بخطى بطيئة، سأل نفسه بعدها طويلا لماذا؟
حتى وصل إلى المنزل، لم تكن هناك أريكة أو دولابها أو الطاولة المستديرة الملونة بزجاج أخضر وأزرق وأصفر..
اختفت..اختفى كل أثر..كيف.. سؤال لم يجيبه أحدا..فقط اختفت
ولم يبقى إلا المنزل ليؤكد أنها كانت حقيقة.
بعد ثلاثة أيام أتى جاسر ورجاله وقبل أن تحط أقدامهم عتبة المنزل، وقف أول صياد، الذى كان يدعى الصياد الهزيل، فضحكوا، وقبل أن تنتهى الضحكات كان بجواره عشر صيادين ..حتى أتوا جميعا.
لحظتها تماما فتحت الحانة أبوابها، ومعها البيوت والنوافذ، وخرجت كل النساء.
وقفت الغجرية بدر التى أتت إلى بلدتنا منذ خمسة أعوام وجاورت النساء وصادقوها
وجلبت لهم الحنة والكحل والأقمشة الستان:
زغردت
فأجابتها النساء بالزغاريد، وبدأت :
الأولة للسما ..
فردت إمرأة:
والتانية بحرى
وغزلوها معا:
الأولة للسما...والتانية بحرى ...والتالتة مركبى...والرابعة قلبى
وبدأت تدور العركة بين العمدة ومعه رجاله والصيادين .
ومن خلفهم النساء :
ورمش عين الصبية يفرش على الميه
وشعر راس البنية يلف جنية
ونين عين الصبية يخضر له النعناع
وكعب رجل البنية متحنى بالخمرة
وإن كان وليفك عسل متشربوش كله
وإعمل حساب الزمن ولفه من كمه
الأولة يا فجر ...والتانية يا بحر..والتالتة يا دمع ..والرابعة بالدم.
انتهت العركة ولم يبقى منها إلا سبع صيادين وأصبحت البلدة لا يحكمها أى عمدة
وتوارت الشمس، وعادت من جديد بعد سنوات.
وجلست بدر أمام المنزل المهجور تحكى للزائرين ..
حكاية الصبية التى كانت تنام على طرف البحر، تصطاد السمك فى السماء وتشرب النبيذ وتنام على أريكتها وتدخل هذا المنزل فى الصباح وتخرج من جديد كل مساء ومشت حتى قلب البحر ولم تعود ...

فاتن خاطر
25-03-2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى