سعاد الفقي بوصرصار - حورية.. قصة قصيرة

لمّا وَعيتُ على الدنيا كان حبّها قد نبت في قلبي مثل زهرة برية...
ولعلّ أقدم ما يمكن أن تتوقّف عنده ذاكرتي هو ما كنت أسمعه من أمي وزوجة عمي أمّها قبل أن ندخل المدرسة الابتدائية :
عمار لحورية وحورية لعمار...
في ذلك الريف المنعزل حيث تقسو الطبيعة، لا يبقى للإنسان إلاّ التسلّي بالأحلام والآمال .
كانت الشابتان في طريقهما إلى العين لجلب الماء، تدفعان حمليهما الى الأمام وتحملان الجرار على الظهر وتسيران الهوينى وتحلمان...تحلمان لتحدّى الصعاب والقسوة وتسعدان:
لو أنجبنا بنتا وولدا نزوّجهما حتى نحافظ على هذه العلاقة بيننا وخيتي...
وعد علينا؟
وعد.
وجئتُ الى الدنيا... وبعد شهرين لحقت بي حورية .
كلام سمعته وسمعته حورية العديد من المرات حتى آمنّا به... فكأنّه قدر أو قانون لا يمكن مخالفته.
"حورية لعمار وعمار لحورية"
و كبرنا والتحقنا بالمدرسة.
كنّا نقطع الكيلومترات العديدة مترافقين نلعب و نتسابق نتشاجر وعيني عليها لا تفارقها وأودّ لو كانت لي القدرة على تجنيبها صعوبة الطريق وأهبّ لنجدتها لو تعثّرت او خدشتها نباتات العوسج والعليق أو حاول أحد الأطفال مشاكستها... كنت أشعر أنّني مسؤول عليها وعلى سلامتها . كنت أحيانا أحمل عنها محفظتها فتجري أمامي كالغزال تسبقني أحيانا وألحق بها وسط سرب الصبية تلاميذ ريفنا.
كانت فارعة الطول بالنسبة إلى سنّها وناشطة ونبيهة ومعتدّة بنفسها.
وكنت طويلا أيضا ونحيفا جدا في عيني جحوظ خفيف وشفتي السفلى كبيرة ومتدلاة...
"عمار لحورية وحورية لعمار"
كلام يطمئنني ...
كانت السنوات تتقدّم بنا ونبتة الحبّ تورق وتنمو في قلبي وتبسط ظلالها على حياتنا البسيطة فنرضى ونقبل على الدراسة بشغف ونشرب من كأس السعادة في براءة الأطفال...
وذات مساء ونحن في طريق العودة إلى البيت تهاطلت الأمطار واشتدّ البرد وقويت الرياح. خلعت معطفي لأحميها به وكادت العاصفة أن تأخذنا مع رفاقنا.
أطفال صغار في مهب الريح يواجهون طبيعة غاضبة. اقترح أحدنا أن نتوقف عن السير ونمسك بعضنا ونتّحد لنقاوم العاصفة. فتكورنا تحت شجرة لنثبت ونتدفأ... لأول مرة غمرني إحساس لذيذ عندما ضممت حورية وطوقتها مع الآخرين... أحسست بقلبي يدقّ بقوة ويتحرّك داخل صدري ويكاد يقفز خارجه... شعور لم أعرفه من قبل أنساني البرد و العاصفة ومحا عني الخوف وملأني شجاعة ورجولة ... ولعلّها قد أحست نفس الشيء فغضت بصرها وسكنت
ربما كنت في العاشرة من عمري أو اقل أو أكثر لكن منذ ذلك اليوم قرّ في نفسي أنّها لي وازداد تعلقي بها إلى درجة أنّنا كنّا لا نفترق إلاّ للنوم. فقد كناّ نسكن نفس البيت الكبير الذي بناه جدي وجعل لكل واحد من أبنائه فيه غرفة. أو نقضي اليوم في المدرسة أو في الطريق منها واليها.
بإيجاز كنا روحا واحدة في جسدين. أسكنتها بين أهدابي وأقسمت أنّني سأحرص عليها كما أحرص على مقلتي عينيّ دنيا وآخرة...
الطريق الى المدرسة أشواك وحجارة وطين ومطر وبرد ورياح ولكن الحبَّ صيَّره أحد مسالك الجنّة... كنا نقفز في خفّة ونحلم معا. ويحلو لي ان أشاكسها و أعترض على رغباتها:
عندما نتزوج ننجب أطفالا كثيرين يشتغلون في الأرض وأستريح أنا...
تقفز معارضة :
بل اثنان فقط. بنت وولد
لا ولد وبنت
موافقة ولكن نعيش في المدينة فلاحة الأرض لا ...أبنائي يذهبون الى أفضل المدارس الولد يكون مهندسا والبنت طبيبة
اضحك وأقول لها :
وتصبحين أنت أم المهندس والطبيبة؟؟؟
نعم ولم لا؟
وأقول لها معابثا:
الولد نسميه بلقاسم على اسم جدي وجدّك...
تنتفض كالفراشة معارضة :
لالا خوي نسميه اسم بلدي: شكري... كمال... عماد... وجدي الله يرحمه.
أسعد وأنا أراها تنفعل وأتمادى في إغاضتها:
ونترك الريف الجميل الهادئ ونسكن المدينة؟؟؟
نترك الفقر و الأوساخ...المدينة فيها الماء والكهرباء والشوارع المزفّتة والمدارس و المغازات...
:وتسكت قليلا ثمّ تضيف:
لكن فيها أيضا الحسناوات لو نظرت الى واحدة منهن ...
أغيظها بضحكي وأقول:
وإذا نظرن إليّ ماذا أفعل ؟
تلمع عيناها الجميلتان بالغضب وتهجم عليّ وتضربني بيديها الصغيرتين... أفرّ منها فترميني بالطوب والحصى وتجري أمامي ...ألحق بها وأنا غير قادر على حبس الضحك...أتصنع الجدّ وأقول لأراضيها:
من كانت معه حورية من الجنّة مثلك لا يلتفت الى الإنسيات يا مهبولة ...
تنبسط أساريرها ونضحك والطريق تطوى تحت أرجلنا الغضة غير عابئين بطول المسافة وصعوبة التضاريس.
وبقدر ما كانت أنوثتها تنضج وتكتمل بقدر ما كان عشقها يتمكّن من قلبي حتى أصبحت الهواء الذي أتنفس فقد تماهت مع نفسي جرى حبُّها في دمي وأصبحت معزوفة جميلة تثير في نفسي الرضا والنشاط والعمل والسرّ العذب لهذا الوجود...
وأخذت الأيام تغدق عليها من سحرها.فاستوى جسمها وبرز نهداها وتورّد خدّاها وتكورت شفتاها و انسدل شعرها أسود فاحما وانتصبت رموشها كالسيف تحمي عينين لهما مغناطيس رهيب...
ولم تكن الطبيعة سخية معي فظهرت على وجهي النحيف بثور حبّ الشباب وازداد تدلّي شفتي السفلى أو هكذا كان يخيّل لي.وكنت كلما نظرت في المرآة الا وازددت شفقة عليها.
ولكن ما كان يريحني هو أنّ حورية لم تنفرني ولم تتغيّر بل كنتُ أُحسّ بحبّي يسري في جسدها كما يجري حبّها في كياني...وما كان يطمئنني أيضا هو استمرار سماع تلك الجملة التي ربطت بين أقدارنا قبل أن نولد.
"عمار لحورية وحورية لعمار"
وانتهت أيام التعليم الابتدائي مكلّلة بالنجاح. كنّا نتنافس ونرتقي في الأقسام...ونجحنا في مناظرة الانتقال الى التعليم الثانوي.
ورفض عمّي وزوجته أن تذهب حورية الى المدينة لتواصل تعليمها في أحد المعاهد.
بكت انتحبت أضربت عن الطعام ...دون جدوى.
وكان لابدّ أن نفترق...تواعدنا على الوفاء.
ويوم سافرتُ لأوّل مرة الى المدينة أجرّ الحقيبة الكبيرة التي احتوت أدباشي والأدوات التي احتاجها في المبيت،وقفت تودّعني وهي تشهق من البكاء.
اكتب لي كلّ يوم رسالة...
كتبت لها بدمعي ودمي ووجدت في الكتابة راحة وعزاء وتسلية عن البعاد.
حمّلتها حبّي وغرامي وعشقي وذكرتها بوعودنا وآمالنا وأحلامنا...
لم تصلها رسائلي...لقد امتدّت اليها يد آثمة ومنعتها عنها:
تخاصمت أمي مع زوجة عمّي. وانتهى ما بينهما من الودّ.فأقسمت زوجة عمي:
والله لا يغلق عليها ولدك باب بيت.
وانهارت الآمال والأحلام... تكسرت وتفتّت وتلاشت...
في أوّل عطلة رجعت الى الريف حرموني من رؤيتها.
بعثت اليّ مع أخيها الصغير رسالة طمأنتني: هي باقية على الودّ وتأمل أن تتغيّر الظروف لنلتقي من جديد... شجعتني على الاجتهاد في الدراسة.
امتلأت همّة وعزما وتفوّقت على الجميع...
لمّا عدت في بداية العطلة الصيفية ومعي الشهادة وجدت العائلة الكبيرة تستعدّ الفرح .
زينة ودقّ طبول وذبائح ... سألت .قالوا :
حورية
حورية التي سكنت قلبي وكلّ خليّة في جسدي وأحببتها وأحببت من أجلها الحياة بشظفها وتعاستها؟؟ حورية الهواء الذي أتنفّسه عطرا ؟؟ حورية القمر الذي علقته في سماء حياتي أرقبه فيلهمني الحبّ والجمال والعفاف؟؟ حورية الأمل الذي احيا بنوره ومن أجله.؟..حورية التي حرمت نقسي من اجلها السنوات الاربعة وانكببت على العلم لا انظر الى انثى...؟؟؟
انكسرتُ وهمتُ على وجهي دون وعي منّي...
وتحت شجرة الزيتون التي حفرنا على جذعها اسمينا وكانت شاهدة على براءة حبّنا جلست.
تسللّت اليّ في غفلة من الأهل والحنّة بيديها وقالت منتحبة:
نهرب... خذني الى المدينة...
أدركوها ضربوني وضربوها وزوّجوها...
انزويت في ركن من المسجد وكدتُ أهلك من البكاء..
.اقترب منيّ سيدي الشيخ وجلس بجانبي أخذ يربّت على رأسي ويدعو لي برفق وينظر إليّ في عطف حتى هدأت.
حورية سيدي الشيخ ...الليلة دخلتها... سيدي الشيخ أريد أن أموت افتني...
هل أدلّك على تجارة رابحة يا بنيّ؟ طلّق الدنيا حتى لا تتربّع على قلبك أولا .
وابشر يا ولدي سأدلّك على الطريق التي تعوضك عن حوريتك بحوريات كلّ واحدة منهن أجمل بألف مرة من حوريتك وكلّ حورية معها سبعون جارية وكلّ جارية معها سبعون وصيفة وكلّهن لك بلا منازع...حلالك.
ألست ترغب في الموت؟ كلّ الناس يذهبون للموت عن طريق الحياة الا المجاهد يذهب الى الحياة عن طريق الموت .
اي جهاد سيدي أجاهد من؟
ألست مسلما؟ تجاهد في سبيل الله...تقاتل الكفرة الفجرة وتفوز بالجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين المجاهدين
ثمّ رفع صوته وأغمض عينه وقال مرتّلا:
" ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون" ثم خفّض من صوته وضاف:
صدق الله العظيم.
قلت محتارا:
كيف؟ماذا عليّ أن أفعل ؟دلني سيدي الشيخ...
تقتل الطاغوت الذي لا يحكم بشرع الله سبحانه...
اين أجده أنا لا أعرفه...
بل تعرفه حق المعرفة .وكم ظلمك واغتصب حقوقك...
من ؟من؟
اولئك الذين يبيتون في الدفء والامان عندما تعرى وترتعد في ليالي الشتاء والمطر يغربل على راسك من السقف المثقوب...
اولئك الذين ياكلون اللحوم والاسماك حتى يتخمون ويلقون بفضلاتهم في المزابل في حين تلوك الكسرة يابسة وتأكل اللحم من العيد للعيد...
أولئك الذين يشربون المياه الصافية المعلبة في حين تتعب وتشقى لتجلب الماء من العين وتقتصد في استعماله
أولئك الذين يركبون السيارات الفارهة المكيفة في حين ياكل البرد عظامك وتحرق الشموس جلدك...هل عرفتهم أم أضيف .؟؟؟
تصورت حالي وأنا اذهب الى المدرسة بحذاء يعجز على حماية رجلي من الحجارة والأشواك...ومرت على بالي ليالي بت أتضور فيها من الجوع و ليالي نهبّ من عزّ النوم مرعوبين نتوارى من المطر الذي غمر البيت... وتذكّرت ابنة خالتي التي مرضت بسبب المياه الملوّثة...ومرت أمامي نظرات الاحتقار التي كانت تصوب اليّ وأنا أنزل المدينة لأول مرة أجرّ حقيبة بالية وألبس ما اجتهد الوالد في الحصول عليه من سوق الملابس المستعملة فلم تكن على مقاسي...
قلت :سيدي الشيخ حيّرت محني ما العمل؟
انفرجت أساريره وقال مطمئنا:
الامر في غاية السهولة ...مركز الحرس تعرفه؟؟
حق المعرفة لكن ما علاقته بالطاغوت سيدي...
قال مستغربا:
كيف من يحمي الطاغوت أليس هو؟؟؟
قلت محتجا :
ولكن الحرس ...كم مرة انقذنا من الهلاك عندما يحمل الوادي ويقطع الطريق تاتينا سيارة الحرس وتعبر بنا الى الضفة الأخرى لنلتحق بمنازلنا ...
أنت صغير يا ولدي وهناك أشياء لا تفهمها...أذا أردت مساعدتي فلا تناقش ولا تجادل. المظاهر كثيرا ما تحجب عنا حقائق فظيعة ...
واشتعلت ناري من جديد وأنا اذكر حورية والحفل والزواج ووجدت نفسي عاجزا وليس أمامي سوى أن امتثل الى سيدي الشيخ . واسودت الدنيا في عيني...
وأحسَّ هو بما يخامرني فأضاف:
هل تثق في؟؟ سلم امرك لله يا بني فانت موعود بالجنة انت محظوظ ..طلق هذه الدنيا الفانية...وانظر ماذا ينتظرك من النعيم والهناء ودعك من هذا العذاب والضنى واسمع قوله تعالى و"للآخرة خير لك من الأولى" وعد الله الذين آمنوا وجاهدوا بجنات عرضها السماوات والارض...
سلمت أمري وقلت في نفسي لن يصيبني أسوء مما أنا فيه.
دلني شيخي يرحم والديك.
استبشر وقال :
أما وقد هداك الله فالأمر بسيط يا ولدي ...حزام تتمنطق به تحت سترتك. وزر صغير تضغط عليه فإذا أنت في جنان الخلد تحيط بك الحور العين كل واحدة أحسن من حوريتك بألف مرة...حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون...
اشتعلت النار في جسدي... وشعرت بالمتعة تسري في أوصالي... وانفتحت أمامي فضاءات جميلة رحبة وأقبلت عليّ الحوريات على كلّ الألوان والأشكال ترفرف وتنبعث من أجسادهن الغضة الطرية رائحة المسك والعنبر وهنا وهناك موائد عليها ما لذّ وطاب من الغلال والفواكه ولحم طير وشراب في أكواب وأباريق من فضة...والأشعة تتدفّق دون توقف والظلال والأزهار والأعشاب الخضراء والطيور والأنهار...
وقفت كأنما لأهرب وأستعيد إدراكي و قلت:
ولكنّني أحبّ حوريتي سيدي الشيخ؟
ابشر ستجدها هناك . فأنت في أعلى مراتب جنان الخلد ما عليك الا أن تتمنّى...
زال ما بي من همّ. فشهقت وانتفضت وطربت ومرحت وصحت:
أين الحزام؟ أين طوق النجاة من همّ الدنيا ...
****
هذه حكايتي مع الحوريات سيدي القاضي انا خسرت حورية الدنيا وحوريات الآخرة .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى