عائشة المراغي - الأدب والدين.. جوهر واحد

«الفن والأدب هما دياناتي البديلة». مقولة للكاتب المسرحي البريطاني بيتر شافر، ربما إذا صدرت من أحد مبدعينا في العالم العربي لاُتهم مباشرة بالإلحاد. تلك الصفة التي كثيرا ما أطلقت على المثقفين. ولكن؛ أليس الدين جزءا من الثقافة؟! والغايات الإنسانية السامية للأديان.. أليست هي نفسها غايات الفن والأدب؟ من أين إذاً جاء هذا التفريق بينهما، في الوقت الذي يتعين أن يتحدا لمواجهة الخطر الأعظم الراهن «الإرهاب والتطرف الفكري».
يؤيد ذلك د.حسين حمودة قائلا: «الأدب الحقيقي ينطلق من قيم سامية، كلها مناقض لمعاني التطرف والتعصب، ولكن الأدب يحقق ذلك بطريقته الخاصة، دون مباشرة ودون سطحية ودون دعاية. القيم التي ينطلق الأدب الحقيقي هي في النهاية قيم إنسانية بعيدة عن كل نزعات التطرف والتعصب والعنف وما إلى ذلك».
ويؤكد د.جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، أن الأعمال الأدبية وخاصة السردية يمكنها المساهمة في ذلك، ويطرح مثالا: «في جيلي؛ تكونت الكثير من الأفكار في عقولنا نتيجة قراءة الروايات بشكل خاص ودقيق، تعلمنا منها معني التسامح الديني والأحداث التي تتعرض لها الأمة الإسلامية ومعنى التضحية من أجل الوطن والإخلاص في الحب. فجميع القيم التي نتحدث عنها، سواء وطنية أو أخلاقية أو اجتماعية، هي في النهاية المادة الخام التي تُصنع منها الروايات وتجسدها من خلال شخصيات وأحداث. فلا يمكن أن أنكر تأثير طه حسين المبكر جدا في روايته «الأيام» عليّ شخصيا، فمنه تعلمت أنه رغم كونه ولدا صغيرا فقيرا وأعمى، فقد بصره بسبب الجهل والفقر اللذين نتج عنهما مرضه، إلا أنه أصر أن يتعلم ويعلّم الناس وينقلهم من ظلمة الجهل إلى النور، وبالتأكيد سنجد أجيالا كثيرة أثرت فيهم الرواية هكذا».
وكذلك يقول الأديب والناقد يوسف نوفل: «الأدب هو الوسيلة الفعالة لتبليغ الرسالة الفنية والأخلاقية والاجتماعية إلى المتلقي مهما تعدد وتنوع الموضوع، وإذا تأملنا تاريخ الأدب العربي الحديث ــ على الأقل ــ سنجد أن المفكرين والمصلحين الاجتماعيين والثوار والزعماء اتخذوا جميعا بدون استثناء الأدب كوسيلة لتبليغ كلماتهم إلى المستقبلين، فقد كان مصطفى كامل أديبا وكذلك الشيخ محمد عبده، وهكذا نجد أن الأدب بنوعيه من شعر ونثر أسهم بطبيعته وبوصفه رسالة جمالية في ترسيخ القيم ونقد الانحرافات الخلقية والحث على الطريق السليم والسوي. هذا بوجه عام، فماذا إذاً لو تم توظيف هذا الأدب في ساحة الخطاب الديني؟ سيكون بالطبع وسيلة طيّعة سهلة لتبليغ الكلمة الصادقة الصحيحة، عن طريق تعدد قوالبه، التي فاقت في العصر الحديث ما كانت عليه في العصور القديمة، فلم يعد الأمر عندنا مقصورا على القصيدة والمقالة والخطبة والرسالة فقط كما كان قديما، بل تضمن السرد قوالب متعددة كالقصة قصيرة والقصة القصيرة جدا، والرواية الطويلة والمتوسطة، والمسرحية النثرية والشعرية، والدراما التليفزيونية، والفيلم سينمائي، ثم كانت ثورة المعلومات، التي صاحبها ظهور الأدب الرقمي أو الإلكتروني».
الأدب ليس وعظا
استكمل نوفل: «في ظل هذه القوالب المتعددة صار من السهل على الأديب أن يعالج الموضوعات المتنوعة ومن بينها الخطاب الديني، الذي متى ما قدمه الأدب بشكل صحيح يكون قد أسهم بطريقة عملية وتطبيقية في تصحيح السائد المغلوط، وليس شرطا أن يتناول العمل موضوعا دينيا، بل يمكن أن يعالج الأدب ذلك ويقدمه بشكل نقدي لطيف عن طريق الإيحاء، فلابد أن نتنبه أن الأدب يكره الوعظية. الوعظ مكانه المنابر، بينما الأدب يقدم النصيحة دون قالب وعظي. وقد نجح في ذلك نجاحا باهرا الروائي الكبير يوسف القعيد في روايته الشهيرة «قطار الصعيد»، حين صور لنا المجتمع المصري بجناحيه القبطي والمسلم، وبيّن السلبيات التي يمكن أن نقع فيها عن قصد أو غير قصد، كما قدّم نقدا جميلا للمجتمع دون قول ذلك بشكل مباشر، مؤكدا على حقيقة مهمة مفادها أن هذا المجتمع وأي مجتمع آخر يقوم على جناحين متكاتفين متلاحمين متحابين، هما الإسلامي والقبطي، وأن المصاهرة والمحبة والأخوة بين الطرفين موجودة بيننا منذ طفولتنا».
يتفق معه حمودة: «الأعمال الأدبية لها طبيعة خاصة فيما يتصل بتعبيرها عن الجوانب الدينية والروحية في حياة الإنسان. ليس صحيحا وليس صائبا أن تكون هناك أعمال أدبية دينية، ومن ذلك ما يدافع عنه البعض ويستخدمون توصيفات له مثل الرواية الإسلامية والرواية المسيحية...إلخ، فهذه كلها توصيفات بعيدة عن طبيعة الأدب وعن روحه الحقيقية. الأدب ليس وعظا بأي حال من الأحوال وليس وسيلة أو لسان حال لتقديم ما يمكن تقديمه خلال منابر دينية أو مقالات وغيره».
واستطرد حمودة: «في تاريخ الأدب هناك أعمال كثيرة جدا عبرت عن بعض الشخصيات الإنسانية وعن تجاربها الروحية والدينية سواء اقتربت هذه الشخصيات من تحققها الروحي، أو بحثت عنه، أو حتى تشككت فيه. والأدب في ذلك كله كان يتناول شخصيات إنسانية بعينها، ولا يستخدم كبوق لمؤلفيه أو لكتابه. فهو في النهاية تعبير خاص، له أدواته وخصوصيته وجمالياته وقوانينه، بما يجعله بعيدا عن أن يكون مجرد تأكيد على هذه الجوانب الدينية والروحية أو تلك».
ومن جانبه؛ أشار الناقد د.عمار على حسن إلى أن هناك أمرين يجب الالتفات إليهما، واحد منهما ما سبق التأكيد عليه وهو أنه لا يمكن أن يتحول الأدب إلى وعظ أو إرشاد أو أيديولوجيا أو بيان سياسي وإلا فقد قيمته الفنية، أما الثاني: «لا يوجد عمل أدبي أو قصصي رغم جانبه الجمالي -وهو الأصل -بدون فكرة أو رؤية أو تصور وإلا فقد جزءا مهما من عمقه وقيمته؟ على هذا الأساس يجب أمرين، الأول أن الأدب بوجه عام والفنون جميعها وبلا استثناء تساعد على تحصين وجدان الناس ضد التطرف الديني وتجعلهم يجنحون إلى قيم التسامح وفهم الآخر لأن طبيعة الأعمال الأدبية في جواهرها أو قيمها العميقة تحمل هذه المضامين، حتى لو لم تكن تدعو إلى ذلك مباشرة، فلا يتطرف إنسان في وجدانه حظ من فن أيا كان نوعه، أو أدب بشتى أشكاله، والثاني أن هذه الفنون ومعها العلوم بشكل عام - إن اعتبرنا أن الأدب ليس فنا فقط وإنما أيضا فيه شيء من علم - تبني العقل القادر على الفهم الأعمق للنص الديني، ومن ثم فالفن والأدب يشاركان بهذه الطريقة غير المباشرة في تجديد الخطاب الديني».
وتابع حسن: «عطفا على التجربة الأوروبية التي تقول إن التنوير بدأ على يد الرسامين الذين رسموا أشكالا متمردة على التصورات الكنسية ثم انتقل الأمر إلى الأدباء، خاصة الروائيين في القرن الثامن عشر، فكتبوا روايات تحمل في مضمونها وشخصياتها تمردا شديدا على المقولات الكنسية، وانتقل الأمر بعد ذلك إلى الفلاسفة ومنهم إلى المصلحين الاجتماعيين ثم وصل إلى عالم السياسة، فولد العقد الاجتماعي وولد التنوير والتمرد على الكنيسة وتغير وجه أوروبا بشكل كامل، ومن ثم؛ فإن الفنون تعالج هذه المسألة من جذور أعمق من مجرد أنها تعظ بشكل منبري كما يفعل خطباء الدين».
بينما يري الكاتب هدرا جرجس، الذي تناول في اثنين من أعماله هما «صياد الملائكة» و»خطية رابضة عند الباب» مسألة الفتنة الطائفية؛ أن الوعظ يمكن أن يتسبب في زيادة التشدد والتطرف، فقد يعتبر البعض ممن يفتقدون للوعي أن اتجاه الدولة نحو تجديد الخطاب الديني عبث بالدين، وبالتالي يقابلون ذلك بحنق أكبر.
الأدب يؤدي دوره
يؤكد نوفل أن الأدب يقوم خير قيام برسالته والمساعدة في تقويم الخطاب الديني وبيان عيوبه وسلبياته، والحض على التمسك بالصورة الجيدة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع في جناحيه المسلم والقبطي، ويقول: «لم يقصر الأدب إطلاقا، لكننا نناشد الأدباء أن يكثروا من هذا، لاسيما إن طبقنا أمثلة مفترضة خيالية بطريقة غير مباشرة، لأن الفن يصبح قويا وأكثر تأثيرا إذا تخلى عن المباشرة».
يؤيده عصفور، مشيرا إلى أن هناك العديد من الروايات المعاصرة الجيدة التي تحمل قيما مختلفة، لكنها تحتاج لحملة مضادة من الإعلام تضعهم في الصدارة، بدلا من مهاجمتها، ومن أمثلة ذلك رواية «تاريخ الدم» لإبراهيم عيسى التي يناهضها من يرون أن التاريخ الإسلامي كله نور وشرف.
فكر منغلق
إذاً؛ فالأزمة ليست في الأدب أو المثقفين، وإنما في العقول المغلقة التي تحتاج لمدى طويل للوصول إليها حسبما أكد د.جابر، مضيفا: «الأمة المصرية فسدت فيما لا يقل عن 50 عاما، وهذا الفساد لن يتغير في عام أو اثنين، بل يحتاج جيلا على الأقل».
بينما يرى حسن أن مشكلتنا ليست مع المتطرفين، وإنما مع المخزن الاجتماعي الذي يغرف منه هؤلاء، فيقول: «نحن لا نريد أن نقنع المتطرفين والمتشددين والغلاة بأن يقرأوا الأدب أو يتذوقوا الفنون لأن هذه معركة خاسرة وسنضيع فيها الوقت والجهد، لكننا نستخدم الآداب والفنون في قطع الطريق عليهم، بمعني أن نحصن الأجيال الموجودة والقادمة من خلال الفنون ضد التفكير الأحادي المطلق المتشدد الرافض للآخر، وبالتالي لا يجد هؤلاء أي قدرة على تجنيد زبائن جدد في حركاتهم المتطرفة، وبالتتابع يمكن أن نضيق عليهم الخناق بقدر المستطاع، وحين يخطب هؤلاء بأفكارهم المعوجة لا يجدون لها استجابة، لأن الشباب سيكونون قد تحصنوا ضدها، وهذا يمكن للفن والأدب أن يلعبان فيه دورا كبيرا».
وهكذا أيضا يرى جرجس، مؤكدا أننا لا نحتاج لتجديد الخطاب الديني بقدر ما نحن في حاجة إلى تجديد الخطاب الثقافي، الذي يرسخ لقبول الآخر وعدم إيذائه حتى لو لم يتقبل فكره، والسير في طريق المبدأ الإنساني، بعيدا عن الخلفيات الدينية، وإنما في إطار وطني، واستطرد: «هذه الثقافات كلها ثراء، فنحن لدينا طبقات وطبقات ثقافية من شأنها إثراء أي مجتمع وليس الاكتفاء بالفكر أو التعبير الواحد».
تعليم وإعلام لتشكيل الوعي
مما سبق طرحه، يتبين أن المشكلة ليست في الخطاب الديني وتجديده، وإنما هي أكبر من ذلك، لن تنتهي في سنوات قليلة، بل تحتاج خطة مدروسة، أو كما يصفها د.جابر عصفور «خطوات متوازية»، ويجملها في: «أولا.. يجب أن يكون هناك إبداع، ثانيا.. تقوم أجهزة الإعلام بفرض هذا الإبداع على الناس والانحياز للأعمال الإبداعية التي تبني المجتمع لا تهدمه، التي تُحدِث تنويرا دينيا وترّكز على القيم كالمواطنة والحرية والعدل الاجتماعي...إلخ، فالإعلام يمكنه لعب دور «رأس الحربة» في تأسيس منظومة ثقافية جديدة، ثالثا.. إلي جانب ذلك يجب على وزارة التربية والتعليم أخذ تلك الكتب وإقرارها على التلاميذ، لا أن تكون مفصولة عن الدنيا، فكتاب محمود زقزوق «الفكر الإسلامي المعاصر.. نظرة نقدية» جيد جدا، لماذا لا تقرره وزارة التربية والتعليم علي الطلبة، أو حتى توزعه عليهم مجانا، لقد كانوا يفعلون ذلك معنا ونحن طلبة، وهذا فقط مثال. وكما كانت عبقريات العقاد مقررة من قبل؛ ما المانع من أخذ ما يوازي العقاد الآن». واستطرد: «منذ أيام أتاني كتاب طبعته جامعة القاهرة وتوزعه على الطلاب مجانا عنوانه «الإسلام وإنسانية الدولة»، لماذا لا تأخذه وزارة التربية والتعليم لتقرره على الطلبة في المرحلة الثانوية مثلا؟ فلابد أن تكون هناك منظومة متناغمة تشترك فيها وزارات الثقافة، والتربية والتعليم، والتعليم العالي، ويعملون جميعا كالفرقة الموسيقية التي تعزف فيها كل آلة لحن يتناغم مع بقية الآلات، وهذا ليس مستحيلا».
يؤكد عصفور أن المسار الذي تسير عليه مؤسسات الدولة ليس صحيحا، ومن واجب المثقفين توضيح ذلك. ويطرح مثالين لكيفية التعاون بين الوزارات قائلا: «وزارة مثل التربية والتعليم وأخرى كالثقافة يتبع لها متاحف. لماذا لا يذهب جميع طلبة الأولى لزيارة متاحف الثانية مجانا؟ هل هذا مستحيلا؟ إذا علّمنا الطلبة الصغار الذهاب للمتاحف ورؤية أعمال إبداعية ولوحات، لن يصبح أحد منهم إرهابيا يوما ما عندما يكبرون، ذوقهم سيرتقي ويتوسع. ووزارة الصحة؛ إذا جاء طلبة من وزارة التربية والتعليم وتدربوا ونزلوا للأحياء الشعبية لتعليم الناس الوقاية من الأمراض، أليس هذا شيئا جيدا للبلد؟. عند تشابك جميع هذه الأمور لن يكون هناك مستحيل، نحتاج فقط للتفكير بإيجابية».
وكذلك يؤكد د.عمار على حسن: «القائمون على المؤسسات الثقافية عبر تاريخ ليس بقريب لا يلتفتون إلى هذا الأمر بشكل كامل، وإذا التفتوا فإن التفاتهم يكون عابرا موسميا وليس مستقرا أو عميقا، ونحن دائما ندفع ثمن ذلك. كنت أقول دائما وما زلت أن عدد بيوت وقصور الثقافة في مصر أكبر بكثير من عدد شعب جماعة الإخوان، وبينما نجد هذه الجماعة كانت تعمل بهمة ونشاط وتبني مجتمع عميق وشبكة كبيرة، قصور الثقافة لم تستطع أن تبنى شبكة مضادة أو موازية، لأنها أصيبت بالخمود، فأغلبها أغلق ومن يعمل فيها زحف عليه الروتين والكسل، ومن ثم مؤسسات الدولة لا تقوم بواجبها وعليها أن تقوم، كما أن المجتمع المدني من الضروري أن يلعب دورا أيضا في الثقافة ولا يترك الأمر بالكلية إلى الدولة».
الأوضاع الحالية لا تساعد على ذلك ولكن د. عمار يرى بارقة أمل: «في السنوات الأخيرة ظهر عامل يجب أن يؤخذ في الاعتبار، وهو أن الأجيال الجديدة أصبحت أكثر إقبالا على الأعمال السردية ولاسيما الرواية. فقبل ربع قرن كانت الكتب الأكثر توزيعا هي في الدين ثم السياسة وكان الأدب يأتي في مرحلة متأخرة، الآن يحدث العكس، وهذه فرصة مهمة، حيث أصبح نشر الآداب والفنون وتوزيعها على نطاق واسع محبذا لدي الأجيال الجديدة، ومن ثم فإنه من الطرق الممهدة الآن لمواجهة التشدد والتطرف».
ويؤكد حسن أيضا علي ضرورة التكامل بين الوزارات متسائلا: «لماذا لا تدخل وزارة الثقافة في مشروع تكامل مع وزارة التعليم، من أجل إعادة حصة للقراءة والمطالعة والثقافة، وبدلا من حبس الكتب في المخازن ، وهي كتب دفع المصريون ثمنها من ضرائبهم، توزع على المدارس. كما تقوم وزارة الثقافة على إعادة إنشاء مكتبات في كافة المدارس، حتى لو كانت مكتبة صغيرة، هذا واجبها. فالتنصل من المسئولية والعبء وإلقاء كل طرف هذا على الآخر لم يعد مستساغا وليس حلا». واستطرد: «أعتقد أن القائمين على الثقافة والتعليم في مصر لم يلتفتوا إلى كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» الذي جعل الجزء الأكبر فيه للحديث عن قضية التعليم، فقد كان يدرك أن التعليم هو الأصل، لكن ليس معني ذلك أن تفض وزارة الثقافة يدها وتقول أن هذا الأمر ليس من اختصاصها، بل عليها أن تزحف إلى التعليم، لإعادة الثقافة إلى مساره الذي تحول إلى تعليم أداتي معلوماتي بائس ليس منه هدف سوى تحصيل الشهادات وليس المعرفة، بدعوى أن هذا من الممكن أن يساعد صاحبه في الحصول على فرصة عمل، لكننا يجب أن نعيد صياغة أهداف التعليم بحيث لا تقتصر على «تعلم لتعمل»، وإنما تمتد أيضا إلى «تعلم لتتعايش، تعلم لتتحضر، تعلم لتصبح إنسانا» وهذا لن يتم إلا بوجود الثقافة في قلب التعليم.
وعلي نفس المسار؛ يقول هدرا جرجس: «الثقافة تشمل التعليم والإعلام والوعي، وهذه عملية طويلة الأجل تتطلب العديد من المقومات منذ الصغر، لتشكيل الوعي وليس فرضه، فتجديد الخطاب الديني بمفرده ليس الفكرة المطلوبة، كأننا نجدد المظهر وليس الأساس، فالجذر إذا كان فاسدا سينتج ثمرات فاسدة. الحل ليس في تنقية المناهج إجبارا، تلك عملية بتر ثقافي ليست مطلوبة، وإنما الأهم هو تربية الوعي وتشكيله، بحيث يصبح للفرد القدرة على الاختيار والتفريق بين الغث والثمين، والقدرة على تقييم الأفكار من حوله، تلك عملية تراتبية طويلة الأجل، لكن مجرد منع كتاب أو إلغاء جزء من منهج تحت مسمى تجديد الخطاب الديني لا يفيد، رغم أن ذلك مطلب لكثير من الجهات حاليا، ولكن هناك تراتبات كثيرة يجب أن تتم قبل ذلك. فعملية تشكيل الوعي لابد أن تتم في مراحل مبكرة، بجعل الطفل يعتاد على تذوق اللوحات وقراءة الكتب خارج المنهج وطرح الأفكار، فالعمليات الثقافية المتعاقبة التي يتربي عليها الطفل تدخل في تكوين شخصيته وسلوكياته، ومن ثم كل شيء يتغير. لكننا في مجتمع للأسف لا يهتم بالتعليم أو الأطفال، حتي كتَّاب الطفل لا يلقون اهتماما».
واستكمل جرجس: «الخطاب الديني ليس هو سبب الإرهاب، علي العكس؛ فكثير من خريجي ودارسي الأزهر في رأيي معتدلون، المسألة أعمق وأكبر من ذلك، لن تحل بتغيير المناهج. فحتى لو قرروا تدريس روايات سيختارون أضعفها، لأن الوعي لدينا مشوه. فإذا كان القائمون على التعليم يرون أن الروايات حرام وعيب، ولا يختارون سوى الوعظية والخطابية منها، التي لا تمثل الإبداع الروائي، فإن الاختيار سيصبح فكرة عبثية، حتى الكيانات الثقافية تتعامل مع الفن باعتباره سد خانة. تجديد الخطاب الديني آخر مراحل التجديد الثقافي التي ستأتي بمفردها إذا تم تعديل المقاييس الأخرى وتشكيل الوعي الذي من شأنه رفض أي شيء غير إنساني. فالدور لا يبدأ بوزارة الثقافة، لأننا من نذهب إليها، حيث ندفع لنشتري كتابا أو ندخل السينما أو نذهب لحضور ندوة، بينما الروافد التي تسبق الثقافة كلها هي من تأتي للفرد وتفرض عليه مثل التعليم والإعلام».


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى