رشيد بلفقيه - هوس..

من الذي جن ؟
أنا أم النافذة العاصية التي لم تتوقف منذ أول الليل و الدقيقة الثامنة عن الصرير ؟ و هاهي العقارب المزعجة تكاد تخبر بالخامسة صباحا دون أن يكل الصوت المزعج أو يمل ، بل هاهو يخاطبني بنبرة واضحة،حتى أنني خلته يسأل :
-هل نمت أيها الأرعن؟
-....
-لا ؟ لما تنم ؟
-.....
-أكيد أنت مستيقظ ، رغم أنك تتظاهر بالنوم و تدفن رأسك المخبول في الوسادة . أيقظ يقظتك لا نوم! هل سمعتني أيها المتظاهر بالنوم ؟ لا نوم!
من المجنون فينا إذن ، أنا هو أم هي ؟ أم تراها اليد التي امتدت إلى النافذة و فتحتها في هذا الطقس الجبلي القارس ؟ أو ربما اليد الأخرى التي أغلقتها لكنها لم تحكم تثبيت المزلاج فانفتحت مع أول هبة هواء تسللت إلى الغرفة ، و ها هي الآن تعربد و تستغل عدم قدرتي على مغادرة هواجسي لإحكام إغلاقها . النوافذ-يا صديقي- اخترعت لتغلق فتحة في الحائط ، و بقاؤها منفتحة هكذا مؤشر على أن هناك خلل ما ، خلل سيدفعني إلى التفكير جديا في تكليف أحدهم بإغلاق هذه المتمردة بشكل نهائي،لست مستهترا -تماما- لأسمح بمثل هذه الفوضى،هناك مجنون في كل هذا و لا بد أن أكشفه لابد.
صرير النافذة الرتيب إعلان حرب صريح،يجعل الأعصاب المتعبة تتوتر و تغلي كمقراج الماء فوق الموقد . من يستطيع التنبؤ بردة فعل شخص يعاني أرقا منذ أيام و هو في حالة استفزاز ؟ يخف صوت الصرير أو يخمد،أ هو الذي صمت أم أنا الذي غفوت قليلا؟ لست أذكر،هل توقفت عن تعذيبي أيها الصوت الحقود ؟
-......
-هل اكتفيت أيها الصرير البغيض ؟
-.......
-لا جواب ، هذا ما كنت أتوقعه.
سيعود أعرف هذا بحكم التجربة ، بعد دقائق سيبدأ من جديد . لكنني سأنتهز الفرصة لاخذ غفوة قصيرة في انتظار أوبته. إذا نمت ولو لساعة سأكون ممتنا و ربما أضحك بعد سيجارة الصباح مطولا ، لأن حرائق هذه الليلة الليلاء ستصير رمادا حينها أو ربما سأصير أنا الرماد -و هذه فوضى أخرى لن أسمح بها أيضا - و عندها ستحملني الرياح ، و تنثرني في أماكن كثيرة و متفرقة مثل الغبار أو أحقر، فأغدو أصغر ، و أصغر و أتضاءل حتى أصير أصغر من أن أحمل عقلا أو فكرا أو حلما ، بل حتى أتحول إلى شيء خامد غير قابل للاشتعال بالمرة .
كائن دقيق لا ظل له ، فارغ و شاحب كالعائد من القبر ، لا وزن له حتى و لا شكل تدركه العين -المجردة من النية و قلة النية- ، كائن يقيم صلواته البلهاء لإله وهمي و يتبتل بإخلاص رجال الدين ثم يرقص مع الرياح و يضحك يضحك يضحك ، محلقا يضحك متحررا من الزمان و المكان حتى يستقر على أول شرفة تسلمه لها الرياح ، أو على أول استقامة معنى ، فيأخذ في النمو من جديد ليكبر و يكبر حتى يصير وريقة أو دفترا جديدا ...
-أيها المهلوس ، هل قرأت 'موباسان' مؤخرا ؟
-...
-ألا تصمت أبدا ؟ هل أبقيك مستيقظا طوال الليل لتهرس رأسي بهذه الأحاديث التي لا معنى لها خلال النهار ؟
....-
-هل تعلمت الدرس جيدا أيها المخبول ؟ موعدنا غدا إذن 'تهلا' ...
آه !نسيت أن أقدم نفسي -بسبب ذلك الصوت الحاقد و لم يمنحني كاتب هذه الأسطر المتسلط فرصة لذلك ، أنا الذي سكنت خيالك منذ بداية القصة، في ذلك النزل المبعد عن الأحياء .
رجاء، إذا مررتم بي -جميعكم- عرضا ، أغلقوا كل النوافذ حتى لا يتسرب إلى قبري صوت يزعجني .
صدقوني هناك مجنون ما في كل هذا و أنا حاليا مشغول بكشفه ...



--- خريبكة 16-8-2019---

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى