أحمد المهداوي - غريبُ مكَّة

لاحت في الأفق تباشير الصباح تنساب من بين شعاب مكة المؤهولة بالخواء، وأقبلت الشمس تداعب أصنام الكعبة في تزلف، وبدأت أيادي القيض تحكم قبضتها على أحياء قريش المتجاورة بمحاذاة الكعبة.
جاء من أقصى القرية رجل يسعى يضرب في الأرض على قدميه، تسحب خطاه في تثاقل كثبان الرمل من العياء، قد بلغ منه الجهد، وأضناه التعب، ونال منه بُعد الشُّقة، وطول السفر.

لم يبلغ بطحاء مكة إلا بشقِّ الأنفس، بعد أنِ استبدَّ الجوع ببطنه، وأصاب فاه الظمأ، واسودت الدنيا قبالة عينيه، وهو أشعث أغبر مقبل في أسمالٍ رثة، وشعر طويل خالطه المشيب، ولحية كثَّة المنظر، يضع على رأسه ثوبا قد تدلَّى طرفاه على صدره اتِّقاء حرِّ الشمس، ولهيب الرمال.
أقبل على حيِّ بني مخزوم متكئا على عصاه يسأل عن من ذا يقري الضيف، أشار إليه فتى من فتيان الحيِّ بالقدوم إلى المجلس، فإذا بالضيف يأوي إلى ركن بمقربة من الرهط.
نادى الفتى من بني مخزوم:
- أن أكرمو الضيف دون أن يسأل عن هوية الطارئ الغريب فما كان من عادت العرب تقديم ذلك عن واجب الضيافة، ثم التفت إليه مبتسما:
- حللت أهلا، ووطئت سهلا... مدَّ يدك إلى الطَّعام.
انكفأ الضيف على الطعام يأكل حتى بلغ حدَّ الشبع، وشرب حتى ارتوى، ثم حمِد صنيع الفتى، وشكره على كرم ضيافته، فإذا بالفتى يقوم إلى جانبه، ويضع يده على كتفه:
- أخبرني من أي أحياء العرب أنت ؟!
نظر الضيف إلى الفتى نظرة كأنها تحاول أن تخترق نفسه:
- يا ابن الأكرمين جئتكم من يثرب.
- من يثرب !! وما حملك على المجيئ وأنت في هذا العمر ؟!.
- جئت من قِبل يثرب بعد أن ضجَّ قوميَّ بي، وأقسموا لأخرجن من المدينة أو ليقتلُنَّني بحدِّ السيف ضربة رجل واحد.
أوقف الفتى ذلك الضَّيف منتصبا، وأشار بيده إلى الداخل:
- هلُمَّ إلى المجلس، وقُصَّ علي الخبر.
تقدَّم الرجل البالغ الثانية والستين من عمره بمظهر جمع بين تعب الحياة ومشقَّة السفر إلى داخل الدَّار، واستند على عصاه بغية الجلوس، وهو يتمتم بكلمات لا تكاد تفهم:
- باسمك اللهم جلست، وباسمك اللهم أقوم.
فأشار الفتى بيده مستفسرا، ما كان ذلك ؟!
ابتسم الرَّجل، وقال:
- كلمات من وحي رب الكعبة.
أماء الفتى برأسه إلى الأمام إماءة خفيفة، ثم صمت.
وقبل أن ينبس بحرف، إذا برجل أقبل على الرَّهط يتبعه نفر من بني مخزوم يمشي في خِفَّة وهو ربْعة في الرجال، رفيع القوام، يضرب لونه إلى البياضِ في ميلٍ للحُمرة، بادٍ عليه آثار النِّعمة، وطيب المنبت، تعرف في وجهه عزيمة، وإصرارا، وله بين قومه شأوٌ، وشان.
ما إن دخل حتَّى صمت الجمع في المجلس، فقال:
- عمتم صباحا يا قوم.
ردَّ الجمْع بالصَّوت الواحد:
- عمت صباحا يا عمرو.
مال الضَّيف إلى الفتى سائلا:
- من الرَّجل ؟!
أجابه قائلا:
- أوَ حقا لا تعلم ؟! إنه عمرو بن هشام سيد بني مخزوم.
حرَّك الرَّجل رأسه، وقال:
- قد علمت أنَّه هو.
التفت إليه الفتي مستغربا، وقال:
- عجباً، وعلى ما السؤال وأنت تعلم الجواب.
تبسَّم:
- حتَّى تستيقن نفسي يا فتى.
نظرعمرو بن هشام إلى الرَّجل، وقال:
- من الضَّيف ؟!
همَّ الفتى بالإجابة ولكن الرَّجل استوقفه:
- دع عنك يا ابن أخي، أنا أخبر عن نفسي.
فأشار عمرو بن هشام إلى الفتى أنِ اجلس، وقال:
- تفضّل يا أخ العرب، قل ما عندك.
قام الرَّجل وأعين القوم ترمقه في تلهُّف:
- يا عمرو، أما والله إنك لتعلم من أنا كما علمتُ أنا من تكون؛ ولكنِّي أشير بالقول حتَّى تستيقن ويزول الظَّن.
إني جئت من يثرب طريدا، شريدا بعد أن أصرَّ قومي قتلي، فما كان لي من بدٍّ إلا أن أهجر الدِّيار قاصدا مكة عسى أجد ما وعدني ربي خيرا.
همس القوم بالقول:
- من تراه يكون ؟!
قاطع الرَّجل الهمس مشيرا إلى السَّماء:
- أنا الغريب المرسل من السَّماء.
وقف الجمْع إلا عمرو بن هشام ظل يحدِّق في الرَّجل مستمعا لما يقول، وطفِق يمسح العرق من على جبينه بثوب كالحرير تاركا الرَّجل في فسحة من أمره.
استأنف الرَّجل الحديث، وقد أشار عمرو بن هشام للجمع بالجلوس، فقال:
- قدِ ارتدَّ قومي على أعقابهم، وانتكسوا على رؤوسهم، وقالوا:
- ما لنا في دعوتك هذه من حظ، وإنَّا لفي ريبة مما تقول.
فهممت بالرَّحيل مهاجرا بعد أن أتاني عبد الله بن سلول مستخفيا ناصحا:
- إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من النَّاصحين. فخرجت من المدينة بليلٍ، وما عليَّ إلا ثوبي هذا، وأنا التفت يمنة ويسرة مخافة أن يدركون.
وإنِّي طُفت الأحياء قاطبة فما وجدت خيرا من حيِّكم يا بني مخزوم، فقلت:
- يمين الله ما لك حيلة، فاقصد القوم في الحيِّ عسى تجِد ما وُعدت وما يوعدون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى