رشيد بلفقيه - في الحاجة إلى مقاه ثقافية..

رغم كثرة المقاهي بمدينة خريبكة و رغم تناسلها المستمر، باعتبارها متنفسا لتمضية الوقت في مدينة داخلية لا تتعدد فيها البنيات الترفيهية و لا تقع في متناول كل العائلات بالمدينة و باعتبارها أيضا مشاريع استثمارية تستقطب المستثمرين ،-رغم ذلك- لا يوجد و لا مقهى ثقافي رسمي واحد بالمدينة ، مقهى يبرمج دوريا و بشكل قار و منفتح على الجميع لقاءات و أنشطة مع كتاب و روائيين و صحافيين و نقاد و مهتمين بالفعل الثقافي الجاد و الرصين و البريء من الحزبية الضيقة .
الحديث عن هذا النوع من المقاهي عربيا ليس ضربا من التنطع،فقد لعب المقهى الثقافي دورا حيويا في النهوض بالفكر و الفن في كل المدينيات العربية منذ زمن بعيد ، إذ لا بد و أن يكون مقهى الفيشاوي مثلا في مصر قد طرق سمع كل مهتم بهذا المجال و هو المقهى الذي "أدى دورًا كبيرًا في الحركة الأدبية والثقافية في مصر ، و جدير بالذكر أن نجيب محفوظ كتب معظم أعماله في هذا المقهى، وكذلك إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ..."(1) ، و مثيل هذه المقاهي التي ارتبطت بأسماء بعض الكتاب كثير ، نذكر منها مقهى الحرافيش بمصر أيضا و مقهى اللونا بارك بسوريا و غيرهما كثير .
أما بالعراق فكان شارع الرشيد الذي افتتحه الوالي العثماني خليل باشا في بغداد سنة 1916، أشبه ما يكون بميناء لتجميع المقاهي الأدبية، وكان من ضمنها مقهى "الزهاوي".
بالمغرب -أيضا- هناك مقاه كثيرة " ... لعل أبرزها مقهى "طلة" بالرباط، و"القصر الذهبي" بمدينة الدار البيضاء، و"لاكوميدي" بفاس، ومقهى "الياقوت" بالقنيطرة، و"المقهى الأدبي" بمدينة آسفي(2).... إلخ. كما لا يخفى انتعاش ظاهرة المقاهي الثقافية بعدد من المدن الصغيرة، حيث غدا المقهى وسيطا بين جمهور متعطش للثقافة والفكر والفن ومبدعين يبحثون عن صدى إبداعهم لدى المتلقي.(3)،فلماذا تقف بعض المدن على الهامش و لا تنخرط في هذه الحركية المحمودة ؟ نترك هذا السؤال معلقا و ننتقل للحديث عن الدور الريادي للثقافة و ما تلعبه في تربية أجيال قادرة على العطاء بعيدا عن دوغمائية السياسة و الدين و بعيدا كذلك عن التطرف سواء الديني أم الايديولوجي ، فلم تعد هناك جبهة ندافع منها عن إنسانيتنا و عن اختلافنا الذي يعتبر مصدرا خصيبا للعطاء و التلاقح أهم من جبهة الثقافة و الفن -الراقي- ، إذ بدون ثقافة رصينة يصعب الحديث عن هوية و عن إنسانية كاملة و عن تربية حقيقية .
هذا الوضع الذي تعيشه مدينة خريبكة ، ذات الذاكرة الثقافية الحافلة بالعديد من الأسماء الكبيرة ، ليس وضعا سليما ، بل يدعونا للتساؤل :
-هل الفعل الثقافي بمدينة خريبكة هو فعل 'صالوني' ينشط فقط داخل الجمعيات التي قد لا يصل إشعاعها بحكم محدودية الموارد إلى الجميع في كل مكان من المدينة ؟
-هل لا زالت المقهى بالنسبة للخريبكي المثقف مجرد فضاء -كلاسيكي-لشرب القهوة السوداء و متابعة مباريات الكرة فقط ، و هو بالمناسبة لم يكن يوما الدور الوحيد للمقهى كما تقول 'شهيرة أحمد' في مقدمة مقال لها "لم يكن المقهى في العصور السابقة مجرد مكان لشرب القهوة أو احتساء الشاي، بقدر ما كان حيزاً أسروياً تفوح منه روائح الحميمية والعلاقات الطيبة بين الناس الذين يقصدونه للتخلص من همومهم وأحزانهم، وتزجية الوقت في تسلية بريئة. " ؟(4)
-هل يؤشر هذا الإحجام عن خلق مقاه ثقافية على أن الاستثمار في الفعل الثقافي استثمار كاسد ؟
-هل يظل الفعل الثقافي محصورا على الأندية و الجمعيات فقط رغم أنه لا أحد ينكر ما قدمته هذه الهيئات من خدمات و لا أحد يقفز على تاريخها المشرف و لكن لا أحد ايضا ينكر أن برامجها موسومة بالموسمية و التوجيه أحيانا مما يفوت عليها إمكانيات معتبرة في خلق شريحة من المتابعين لجديد الكتاب و الروايات و الإصدارات عموما ؟
-أليس لسياسة القرب سهم في مجال الثقافة أيضا؟
-أ من الضروري الاشتغال على أنشطة ضخمة موسميا أم الأنجع هو الاشتغال على أنشطة صغيرة لكن منتظمة بشكل يحقق الحضور للثقافة و يبقي العلاقة بين المبدع و المتلقي متجددة شهريا و حتى أسبوعيا ؟
ختاما
ليست هناك جهة تملك حلولا سحرية لكل المشاكل،سواء كانت جمعية أم شخصية ذاتية أم معنوية ، باعتبار الحركية الثقافية حركية ممتدة داخل الزمن يستفيد فيها كل جيل من التراكمات التي يحققها الجيل الذي سبقه إذا تحقق الاتصال بينهما .
و لا بديل عن التعاون و نبذ الرؤية الأحادية حتى يساهم كل من مكانه في جعل الثقافة شأن يومي و متداول بعيدا عن الموسمية و الذاتية التي عرقلت و لا زالت تعرقل قيام نهضة ثقافية حقيقية .



هوامش
1-أشهر المقاهي العربية و العالمية ،مجلة فكر الالكترونية ، مقال منشور بتاريخ الأحد 18 أغسطس 2019 ميلادى.
2-نفس المقال السابق .
3-سناء القويطي ،ظاهرة المقاهي الثقافية تزدهر بالمغرب ،موقع للجزيرة.
4-المقاهي الثقافية ،أماكن الحلم و الإبداع و الثورة ،جريدة الإتحاد الإماراتية -16 يونيو 2010- .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى