هاشم صالح - السوميا*

بخطواتٍ لاهثة في ظلمة الأزقة الضيقة، مُمْسكاً بأذنه يصغي لصدى ما يسمعه؛ غناء وزغاريد فتيات، أصوات طبل وطار تعلو ثم ينتشلها الريح المتجول. ظلَّ يتأرجح بين الإتجاهات. أسمر اللون، ذو شعر كثيف يلبس جلباب يجتره في كثبان الرمل يعتليه سديري وبيده عصاه، ويتضح شكل سكين تحت الجلباب.
البلدة تلك كزهرة تتغذى بالرمل المنثور في كل تفاصيلها. يتجاوز البيوت الطينية المصطفة بإنتظام، يُجاري تلك الرياح الهوجاء، والأزقة الضيقة، ليخطو على أثر تحركات شباب هارعين إلى حيث تلال رملية مزدانة بضوء قمر مكتمل.
هي كذلك تبدو مثل بدر؛ تظل مختفية إلا بنصف خروج، في ليالي الأنس عند هطول الضوء بإتضاح ظل للشجر المتشابك، البيوت المتلاصقة، والهدوء المريب. أهل البلدة ذوي تقاليد متماسكة وعادات تحد من حركة الفتيات نهاراً أو التواجد بكثافة إلا في ضرورات مُلحه؛ فاذا أرادت ذلك؛ تتلثم وتخفي وجهها إلا عيناها المليئة بالكحل والارتباك.
فالنساء يتزينَّ بذهب الرأس المتدلي في وجوههن ويتميزين بلبس الثوب الهندي يلفنّ بطريقة معينة: بربطه في الوسط، جزء منه للأعلى وكذلك يلفنّ يجترّن جزء للخلف لستر سائر الجسد. وبإلتفاتتهن التي تحرك مكامن الشباب، فنظرات الفتاة التي تتدلل وتتبختر مشياً عند خروجها النادر تخطف الألباب. لكن لليالي نصف الشهر وموسم الحصاد، طقوس أخرى، براح لممارسة الغناء واللهو فهو نوع من الإحتفاء: يجلسن الفتيات في شكل دائرة يمسكن بالطار والطبل ويشرعن في الغناء بأصوات عذبه تدق في أنحاء قلوب شباب ، لذا تحصى الليالي إنتظاراً لتلك الامُسية بصبر وترقب فهي لحظتهم المنتظره.
مبعثر، دقات قلبه تزداد كلما قارب إلى ذلك.
يعاقب ذاته؛ كيف نسى موعد بزوغ تلك الليلة، وهي ستلوح بصوتها بِغناءها ،حين يحاول مجاراة الشباب في الرقص.
السوميا رقصة مجموعة بإلتفاف ثم التوقف والركل بقوة على الأرض حتى يحدث صوتاً يتناغم مع إيقاعهن وإعادة الإلتفاف، ثم الجلوس أرضاً مع تصفيق متسق ثم النهوض الي أعلى. فيزغردن الفتيات إعجابا، يمسكون الشباب أيادي بعضهم ويقتربون منهن ويضربون بالقدم الواحد مع ضربة متبادلة من القدم الأخرى، ويتشكلون في إنحناءة ثم يفترقون لتسع الحلبة آخرين للرقص وبحماس لا يكد أبداً، يظل يلهو ويرقص مع الكل، ورنين صوتها يعلو ويعلو صوت الأُخريات ليهبط عليه بوخز يشعره بإحساس غريب.
لهب النار ينهش برودة الطبل، وترتد الحماسة لقلوب الجمع، حتى يمتلئ بطنين يخلط الأصوات بحدة في إذنه. يتراجع، يفكر والصخب يعلو ويهبط عليه، يرتعش جسده بقوة، يركل ما يصادف،كأنه يصارع للوصول لشيء ما، ينتصب الكل يشاهدونه بأفواه ضاحكة وأُخرى تهمس حوله.
يقف شامخاً لا يدرك سوى: كيف يوصل لهفته؟ بأي طريقة يمكنه أن يبعث مافي ثناياه وما يحمله، وما يدسه من الم. يعلق إستفهامه مبدداً خيبته دوما بتبرير عابر، ينسل بهاجسه يُعانق الفضاء داكا بقدميه الأرض ويلتف يلتف كطائر في رعشته الاخيرة ،مخاطرا نفسه التي علقت في وجه لا يألف ملامحه ويدرك ما في سريرته.
خيط الضوء يشقه غيم ، تصارع الكواكب شيء ما، صدى زئير يهز البراح،يضيق الوقت،وتذوب اللحظات تلك، يتلاشى صوت المغنيات،ينطفىء صدى التصفيق والطبل، الثرثرات الإخيرة، يتشظى الحضور،بين من يذوب في العتمة،ومن تبتلعه الدروب الرملية.
يتزيل بذاته الطريق،ينسنس الليل قائلاً له الى ضوء آخر، أو ربما موسم قادم، ثم وبحماسة منه يردد: لابد ان أخبرها المرات القادمات. ثم يعاود بثقة: أنها تدري ،نعم حدثتني من خلالها وصفها للكرم والبطولة وصوتها ببحة مليئة بالعاطفة، زغاريدها حين عانقتُ السوميا* بإحترافية.
و رمى بكل هاجسه وإرتمى في دق الطبل وواصل رقصاته بوحاً، وكانت تبادله الغناء بصوت عذب يعلو أصوات صديقاتها.


السوميا "رقصة"
لغة التجري*

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى