عبدالله الحيمر - الاغتراب الوجودي في رواية «نوبات» لنورة عبيد ومعاوية الفرجاني

عن دار زينب في تونس، صدرت رواية «نوبات » للكاتبين نورة عبيد ومعاوية الفرجاني. وتتبقى مرجعيات أي ثورة، حاضرة في كيان وذات أي فرد من مجتمع اخترقته رياحها. ولا بد في هذه الوضعية الانتقالية، أن تقع المواجهة بين القوى التنويرية الحداثية والظلامية السلفية. ولا بد من الاتكاء على مفهوم جديد للإنسان والتاريخ. تختلق الرواية « نوبات» من خلال تلك المواجهة بين الإنسان التونسي وبيئته المحلية بمعايير قيمية جديدة حملتها الثورة أساس حبكتها. وتلقي بقعة ضوء وجودي على الخطاب التاريخي والاجتماعي والسياسيّ للذات التونسية، بين الأخلاق كتأسيس للذات والإنسان كهوية للتاريخ؟ فزمن «نوبات» هو عبور كلّ الأزمنة بنضج تونسي بعد الثورة، في سياق هشاشة ثقافة تونسية/عربية أمام واقع ازدرى الثقافة والإبداع. وكذلك هي في أفقها المستقبلي، جواب ثقافي في حب تونس والإنسانية.
إشكالية النوبات:
انطلاقا من العنوان «نوبات» العمل الروائي التشاركي بين نورة عبيد ومعاوية الفرجاني، نجد أنفسنا أمام ارتباك مقصود، متاهات الأرواح والوجود. يمكن للقارئ أن يلاحظ أنه أمام عمل ليس بالهين، وأن عليه أن يحفر بعيدا داخل هذه النصوص حتى يصل إلى المعنى الذي أوحت به الصورة للوهلة الأولى للرواية. وكأننا معلقون بنوبات متعددة تعلن ميلادها ونهايتنا. تتكونُ رواية «نوبات » من ثلاثة أقسام: العقد للراوين، ونوبات (وعددها عشرون)، وتمام العقد. وما عدا العقدين، تتبقى النوبات القسم الرئيس، الذي من خلال يخوض أبطال الرواية تجربتهم الحياتية على الورق، همومها انشغالاتها. ولادتها الثانية بعد الثورة، بكل ألقها الوجودي، مستدعية أسئلة وجودية عن التاريخ والثقافة والمجتمع. وكما يقول الروائي المصري إبراهيم عبد الحميد «أسوأ أنواع الكتابة هي المرشدة للصواب والخطأ، وأجملها هي المتجاوزة للمفردات اليومية، المخترقة لطموح الأرواح لما وراء العالم قبيحا أو سعيدا». الروائيان يرشداننا من الأول، إلى أنهم يريدون نصا روائيا مغايرا للسرد الكلاسيكي، أي خلخلة المفاهيم في وجهات النظر في البناء المعماري للرواية.. مدخل الرواية يتم عبر اغتيال التاريخ الميثولوجي لتونس، بشخص عبد الهادي الغالي (شهيد الرواية).
وظفت رواية «نوبات» تاريخ تونس القديم، كإجابة للتاريخ المعاصر عن الهوية الأصلية المتعددة الروافد، في ظل انكسار الذات التونسية.
بفضاء فرع المعهد الوطني للتراث، ثم بفضاءات متنوعة في جهة الوطن القبلي كمكان وزمن وفضاء سردي. بشـخصيات من الزمن التونسي بعد الثورة، تستنزف الوقت وتطارد الكاتبين (نورة عبيد ومعاوية الفرجاني) كاشفة قلقهما الوجودي، بالحب وقراءة التاريخ والمستقبل. ومحاورها أربعة للحكي: شيّار/ إستير (عراب الراوية لفهم أحداثها)، وسيّار/ أنيس (المشاركة والمساندة بالزمن السردي للرواية) الهادي الغالي (الغائب الحاضر، المحرك الرئيسي لمدارات نوبات) إليانا (شاهدة على الزمن النفسي للحكاية). وشخصيات ثانوية تتدخل وتخرج في شريط الأحداث كألفة بن سعيد وعيسى. وبالدّم أيضا تنتهي نوبات. ثلاث رصاصات في صدر سيّار، فكانت كما يقول الروائي الإنكليزي جورج أورويل عن الرواية «الخوض في نوبة طويلة من الأمراض المؤلمة، في صراع رهيب ومرهق»: «لماذا قضينا منذ البدء بموتك يا هادي؟ آلم يكن ثمة سيناريو آخر لهذه الحكاية بدون رحيلك؟ أصدقك القول يا هادي: صرت أحبك، أحببت لعبك واليانا أحبت صباك. لم عجلنا بقتلك لو أمكن أن نعدل السيرة سيرتك والأسماء والرصاصة، أكان ينبغي أن تزور صدر أنيس ويقوى النزيف؟ أينبغي أن يرحل هو الآخر؟». نهاية كالمتاهات والخسارات والخيبات للبطلين من الرواية (غالي وسيار) أضاعوا حبا وعوضوه بفكرة الانتصار للتاريخ والتراث.
هوية الخلاص
بعد الثورة، كان مفروضا خلخلة العلاقات الاجتماعية بتفكير متنور أمام اكتساح الفكر المتطرف، أمام جسد الحرية الذي منحته الثورة التونسية. قيم الثورة التي أتت علمانية في بعدها الكوني، أثبت خطابها إخفاق الفكر الظلامي في تأسيس معايير أخلاقية تحترم الآخر في اختلافه الإنساني كهوية وتاريخ: «كان الإنسان مخترع ملاجئ يهرب إليها من الكلّ: الحرب والموت والغدر. وكان الإنسان في مواجهة الإنسان مراقبا ومحاسبا. كان يحتمي بالأرض قبل أن يصعد إلى سمائها. فابتدع المغاور واخترع الحصون وشيّد الأسوار، ثمّ عجن الكلّ بالكلّ. وودّع الحياة مكرها أخاك لا بطل». أزمة الهوية التي يعاني منها القطر التونسي والوطن العربي في الوقت الراهن، هي الهوية الفرعية التي تستمد وجودها من المقدس التاريخي، وتحتكر الحقيقة وتلغي الآخر المختلف. علما أن هذه الهويات هي نتاج اجتماعي وسياسي وتراكمات تاريخية وصراعات شهدتها المنطقة. تكشف رواية «نوبات «عن اغتراب اجتماعي وسياسي في تونس، أمام دولة فاشلة في إحداث التغيّر الحقيقي في التنمية والديمقراطية والكرامة الاجتماعية، جعلت خطاب الثورة ملتبسا، بإخلاله بالمنظومة اللاتنموية، أمام مأزق خطاب دعوي جماعي عنفي، يدعو لإعادة صحوة الخلاص الديني كالدواعش و»القاعدة». عبّر عنه الروائيان، بمتاهة اللحمة التونسية نفسيا واجتماعيا وسياسيا، وفهم للتاريخ (خداع سياسي/ خطاب دعوي ديني ملتبس/ اغتيالات/ صراع ديني…). لقد كانت نبوءة «نوبات» استئنافا لما يجب الخلاص منه تونسيا، أي أن كل شخصيات الرواية في نوبات الوجود التونسي لم تستطع العبور إلى خلاص مكتمل في الزمن التونسي المعاصر.
نبوءة الميثولوجيا التونسية:
وظفت رواية «نوبات» تاريخ تونس القديم، كإجابة للتاريخ المعاصر عن الهوية الأصلية المتعددة الروافد، في ظل انكسار الذات التونسية. فاعتمد الكاتبان على ذاكرة الميثولوجيا التونسية المرتبطة بالتاريخ القديم للمنطقة، وكذا على الأساطير والخرافات العالقة بالمخيال والذاكرة الجماعية الشعبية للتوانسة، حيث على طول حكايات الرواية، نُصادف شخوصاً بتاريخ ذاتي بطولي (عبد الهادي الغالي)، تقاطع حضوره في الرواية، مع تاريخ تونس القديم وميثولوجياته: «وكانوا لا يختلفون في أن الهادي الغالي لم يكن يحدّثهم عن تاريخ بلد، أو يريهم آثارا، بل كان يحيا تاريخا، ويتجوّل في مدن وأسواق، وينحت آلهة ويرسم لوحات فسيفساء، يعمّد في أحواض التعميد ويستحم في حمّامات، يؤدي طقوسه الدينية جميعا في كل المعابد: اليهودية والنصرانية والإسلامية وينطق بكل الألسنة». وقد حاولت الرواية تجلية مجموعة من الأفكار الأسطورية التي ما زالت تعشش في ذاكرة الوطن القبلي. علما أن أغلب شخصيات الرواية تدور في جهة الوطن القبليّ الثرية بالتاريخ المتوسطي. وتتّخذها إطارا مغريا «يكفي أن تكون في الوطن القبلي حتى تقودك قدماك إلى التاريخ ترويه الآثار الدالة على مرور الحضارات من الهوارية القرطاجية وكركوان البونية وقليبية الرومانية وحصنها البيزنطي وأسوارها الأغلبية». فالقارئ يجد نفسه سائحا بين مواقع هذه الربوع التراثيّة، كل الشخوص الروائية، تعيش في ظل تاريخ ذاتي بطولي (عبد الهادي الغالي)، وتقاطع مع التاريخ التونسي وميثيولوجياته، تعيش قلق كينونة، بشرعيات مختلفة لفهم اليومي والمستقبل للوطن فيهم، بالعنف تارة، وبالحب تارة أخرى. فكانت الرواية بمثابة رغبة الكينونة في حالة الوعي بالذات، الانتصار لتحقيق الذات في خضم اختلالات وجودية أدت إلى محطات متعددة من نوبات الاغتراب الوجودي (النفسي والأمني).
كان لرواية نوبات خطابها التاريخي والجغرافي والسياسي والاجتماعي، في نوبات الاغتراب الوجودي التونسي. لإعادة التفكير في هذه الاختلالات الوجودية بالجسد التونسي، بعد انفضاح وهم ما بعد الثورة.
الإقامة التخييلية:
جـسدت «نوبات» مقولة إن الرواية شكل مفتوح قابل لأن يمتص جميع الخطابات من خلال إدماج الـمـيـتا ـ ســرد ضمن النص الروائي، وتـوظيف الخطاب الأسطوري لبناء إقامة رمزية وتخييليه وسردية في اللغة الوجودية للكتابة: «نحن لا نكتبُ هذه الرواية. هذه الرواية تكتبنا».. شخصيات الرواية تنحت مسارها متجاوزة أحيانا مبدعيها، حائرة في قلقها الوجودي ناشدة مشيئة الحلم الفردوسي في مسارها الحياتي. الشيء الذي أثار عند الروائيان (نورة عبيد ومعاوية الفرجاني) بلبلة في الاستطرادات على طول أحداث الرواية، وكذلك ارتباكا سرديا داخل مأزق تخييلي سردي، يقود إلى فضاء روائي مفتوح على أقنعة مختلطة للكاتبين (استطراد خارج جسد الحكاية). «يتملّكني شعور غريب بأن هذه الشخوص قد تحرّرت من قبضتنا: لم تعد عرائس نحرّكها كما تحرّك العرائس في مسارح الأطفال. يغمرني إيمان بأنّها تنطق بغير ألسنتنا. إنها بلسانها تنطق، فقط نحن نرجّع أصواتها ونتبع أصداءها لنثبتها على صفحات البياض.
ـ وهل خالفتك المنحى؟ الشّخصيّة القصصيّة تداهمني وتطالبني مرّات بترتيب بديل. يا لها من كائنات مخاتلة! ها هي تقدّ من عبقي ووجعي، وتنمو من تفاصيلي وشجني. ثمّ تنزاح عنّي وتحاكمني! صارت تتابعني بعد أن أيقظت خاطرها على الوجود والجمال! أضحت تعترض طريقي: طريق السّرد وتقطع دربه بما بدا من تشكيلها بعيدا أو قريبا». كل هذا من أجل تحفيز القارئ بأسئلة مفخخة، بحمولة فكرية بالتاريخ والحاضر وبلمحات وجدانية، تدفعه إلى معانقة الوجود التونسي بكل إكراهاته الاجتماعية والسياسية والثقافية، وانفتاح تونس كعادتها على أفق القيم الكونية.
قوة الازدواجية:
فكما يرى المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه «تكوين العقل العربي» أن تاريخ الثقافة العربية هو تاريخ اختلاف في الرأي، وليس تاريخ بناء الرأي. كان لرواية نوبات خطابها التاريخي والجغرافي والسياسي والاجتماعي، في نوبات الاغتراب الوجودي التونسي. لإعادة التفكير في هذه الاختلالات الوجودية بالجسد التونسي، بعد انفضاح وهم ما بعد الثورة. لقد كان هدف الرواية مواجهة جسد تونس التاريخي والمعاصر، والتعريف بالمعرفة البشرية المتراكمة داخل الذات التونسية، والخوض في نقاش جدلي حول قيم المشترك إنسانيا، وفتح التابوهات الدينية والسياسية والاجتماعية، والسعي لخلخلة أفكار الآخرين غير المؤمنة بالآخر المتعدد: «ينتابني ما يشبه الوثوق بأن الشخصية القصصية حين تولد تتحرّر شيئا فشيئا من إسار منشئها، لأنها غدت كائنا حيّا يأبى الأقفاص ويكره السّجون». فرغم إحباطات الواقع ما بعد الثورة في تونس، يبقى تكريس الأمل عن طريق ممارسة الوعي والنقد العقلي، ونشر ثقافة حوار الاختلاف والتسامح الديني، والانفتاح على الآخر بشروط إنسانية بعيدة عن ذاكرة الإلغاء والتعصب وأوهام الصدام الحضاري. والعمل على تأهيل مشروع الدولة والمؤسسة، ووفق شروط ومعايير ما هو مشترك في الثقافات الإنسانية. كما يقول المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي: «الازدواجية قوة للمعرفة والتسامح. عندما يكون لها مركز ثقل محدد للهوية وتكون تعبيرا عن الإجماع، في ما تتحول إلى عامل من عوامل ضياع الطاقات وانكفاء المجموعة، حيث يتم إخفاؤها أو إنكارها. فإنكار الواقع يؤدي إلى التخلف، وإلى هشاشة الصورة التي نرسمها بأنفسنا».
٭ ناقد مغربي ( القدس العربي)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى