صابر رشدي - النوارس..

النوارس التي تأتي إلى مدينتي في أشهر معينة، قادمة من بلاد بعيدة لقضاء فصل الشتاء، أذهب إليها، أشاهدها وقلبي مفعم بالحنين، فأنا من مدينة غير ساحلية، لا تطل على بحر أو محيط، لكن بها نهر عظيم، تأوي إليه. أستقل زورقا صغيرا، أمر به على تجمعات هذه الكائنات القوية، التي تقطع ألاف الأميال في طيران متواصل، أجدهم مجتمعين بشكل رائع فوق النافورة الشهيرة، التي تتوسط عرض النهر، ثمة جمال يضع المشهد في رونقه. مجموعة أخرى، تطفو فوق سطح الماء، تلتقط الأسماك الصغيرة، التي تصعد إلى الأعلى، بدون ذاكرة وراثية تدفع عنها مخاطر الفناء. أتأمل هذه الطيور البيضاء، الغموض الكامن فيها، أناقتها البادية، كل شىء يبدو فريدا، باعثا على الدهشة. ماذا لو حكت لي عن رحلتها الطويلة، سعيها وراء النور والدفء، عن تلك الموانئ، والمدن، التي تستريح إليها من عناء السفر، لو استمعوا لي وأنا أتحدث عن طفولتي، أمانى المهدورة، ظلال الحزن التي ترقد في أعماقي وترفض المغادرة، عن ذلك الطفل الذي هجر العالم وسكن الكتب، وتفتنه الشاعرية التي تنطوي عليها الاشياء. ماذا لو أعاروني أجنحة، وحققوا لي أمنية طالما راودتني منذ الصغر: أن أصير طائرا، أجوب العالم، أطوف هنا وهناك، دون أن تكون المسافات سرادقات متناثرة، هاربا من السأم، من تهشم صراخي في مرآة الأسئلة، أن أحدق، وأتأمل الأشياء جيدا، لا أضع يدي فوق عيني، أن أبني خلوة، أراقب من داخلها ما يفعله الولي، والعاشق، والمجذوب، أن أقف على الحافة، بين البرزخ والحد الرهيف، دون أن أحترق.

صابر رشدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى