أمل الكردفاني - الكف - قصة قصيرة

الكف - قصة قصيرة

✍ *_أمل الكردفاني_*

إنني أتذكر يوم لقائي الأول بها حتى الآن رغم مرور أربع سنوات على طلاقنا . لأنه كان لقاءا غير عادي ، بل أقل من عادي. كنت جالسا على أريكة ناقلة ضيقة ، وهناك أريكة أخرى أمامي ، عربة النقل الضيقة كانت ترتجف وتئن وتصرخ ومن يقودها طفل في الرابعة عشر من عمره. من المنيب إلى أبو النمرس ، كنت أراقب المزارع الخضراء وحانت مني التفاتة لأجد كفا يستند على القاعدة البلاستيكية التي امامي..كف رجل عركته الأيام.. ضخمة ، تنفر منها العروق ، بأصابع منتفخة وأظافر متقشفة. تابعت ما بعد الكف فكان ذراعا ناعما ثم وجدت رأس ملاك طاهر. ملاك هابط الآن من عرش السماء. جسد ممشوق ، خصر مشدود ، نهود مشرأبة كمدفعي مدرعة. كانت تقف لانها لم تجد مكانا لتجلس فيه وهي غير عابئة بأحد. رأيت ساقين بيضاوين مشدودين بامتلاء ، قدمين جميلتين. كانت لتكون مكتملة لولا كفاها القبيحتان. كفان نال منهما الشقاء دونا عن سائر جسدها...راقبت شفتين محمرتين وأسنان كاللؤلؤ.. وعينين محاطتين بالرموش ومحفوظتين بجفنين ناعسين ومظللتين بحاجبين هلاليين. شعرها مغطى ولكن برزت منه خصلتان أسفل الأذنين المحمرتين ، دارتا من أسفل القرط الذهبي المستدير نصف دورة لتستقرا في خدين كالرخام.
والرجل يا قوم يحب بعينه لا بعقله ولا بقلبه. يخدعه الجمال أو يخدع نفسه بالجمال فيظن خفقان قلبه حبا وهو ليس كذلك وإنما هو رغبة فحسب. وينطبق الأمر على المرأة إلى حد ما لكن المرأة تجيد الصمت أكثر من الرجل. نزلت فتاتي من المركبة فنزلت وراءها ، والشارع الأسفلتي يشق المزارع الخضراء البهيجة ، وتتبعتها حتى بلغت بناية بائسة وجدتها تدلف إليها وحين فعلت قالت بغضب:
- لماذا تتبعني.
قلت بشجاعة حمقاء:
- لكي أتزوجك...
صاحت:
- ومن قال لك أنني أريد الزواج.
انفتح الباب وأطل شاب عاري الصدر نحيف. قال موجها خطابه للفتاة:
- مالك؟
قالت بعدم نزاهة:
- يعاكسني.
اتسعت عينا الشاب ولم أستطع إخباره برغبتي في الزواج من شقيقته إلا بعد أن تلقيت ضربا مبرحا من كل البؤساء القاطنين بالبناية والمارين بالشارع وحتى حيواناتهم الأليفة.
لذلك لا يمكنني أن أنسى كيف كانت خطبتي لبسمة. لقد أفلت من الموت بأعجوبة ودخلت إلى الموت الثاني بأعجوبة أيضا.
كانت بسمة فتاة لا تعرف الاستقرار ، تعمل كالكلب ، حاولت منعها من العمل ، لكنها قالت وهي تبكي:
- أموت...
قلت:
- لن تموتي... أنا أملك ما يكفينا من المال....
قالت وهي ترفع كفيها أمام وجهي:
- أنت لا تفهم.. أنظر...
في الحقيقة لم أتجنب في حياتي شيئا كما تجنبت النظر إلى كفيها حتى ونحن غارقين في لحظات المتعة. لو قطعت كفيها لكان أفضل من الإبقاء عليها بهذا الشذوذ. وعندما رفعتهما أمامي شعرت بأنني قد تزوجت عامل بناء كهل فهبط رصيد خوفي عليها للنصف تقريبا ، ولم أجد بدا من الصمت.
تخرج في الصباح لتعمل في بناء أبراج الحمام الطينية ، ثم تنتقل لغسيل الحمير والجواميس ، ثم تحمل فأسها لتقف مع الفعيلة في انتظار نصيب من العمل في أي شيء ، بناء ، سباكة ، نقاشة ، نجارة ، حدادة ، تلميع الأحذية ...الخ. مع ذلك فهي لا تعود مرهقة ، وتطلب الحب حتى منتصف الليل ، تنام وتستيقظ فجرا ثم تبدأ رحلة العمل المضني والشاق وكأنها سجين محكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. لم تهنأ بالبقاء في المنزل إلا بعد انجابها ولمدة أسبوعين فقط. تترك الطفل مع أمها صباحا ثم تعود به مساء على نحو متكرر ، حتى إجازات نهاية الأسبوع كانت تعمل. وأصبحت أنا ربة المنزل. قلت لها بأن طاقتها غير طبيعية فجاءت بنبات الرجلة وغسلته ثم استحمت بمائه لتمنع عنها تأثير عيني. لم تكن تخشى ألم المرض بل ألم البقاء بلا شغل.
بحثت في كل المراجع عن حالتها تلك ، لأنني اعتبرتها وسواسا قهريا وفرط نشاط مرضي. اتصلت بصديق له خبرة لا بأس بها في الطب ، فسألني عما إذا كانت متقلبة المزاج ، أخبرته أنني لا أمضي معها الكثير من الوقت لأعرف. وهل قلقة؟ أيضا أجبته بذات الإجابة. سألني عما إذا كانت مدمنة على أي مخدر فأجبته بالنفي. قال بأن شروط إصابتها بخلل عقلي أو خلل في الغدة الدرقية لم تتوفر ومن ثم فالأمر لا يعدوا طبيعة مكتسبة فيها.
أخبرتها انني لست حيوانا لتأتني مساء وتطالبني بما يفوق قدراتي ، وأنني والطفل نرغب في الاستقرار وهذا ما لن يحدث ونحن على هذا الوضع. ولما لم تعرني سمعا هددتها بالطلاق فصمتت وقالت: والطفل؟ أدركت أنني اكتشفت نقطة ضعفها فقلت بغير اكتراث: قرري بشأنه ما ترينه... استيقظت في صباح اليوم التالي فوجدتها جالسة وعيناها تشعان بالقلق. لديها قلق إذن؟ ، ثم رأيتها تدخل إلى المطبخ عدة مرات... تتبدل ملامح وجهها على كل رأس ساعة ؛ تصرخ: لماذا تحدق في وجهي هكذا...إذن فهي حادة المزاج ، سألتها فجأة:
- هل تتعاطين مخدرات...
قفزت نحوي وهي تصيح:
- أيها الوقح...
تجنبت لكمة قبضتها الحديدية ثم فررت إلى الغرفة وأغلقتها خلفي ، ظلت تخبط الباب بهستيرية والطفل على سريره أمامي يبكي...وتحول الوضع إلى كارثة محققة..حملت الطفل وهدهته ولكن صوتها منعه من النوم. ثم انقضى بعض الوقت وهدأ كل شيء.
- حبيبي .. افتح حتى أرضع الطفل...
قالتها بصوت حان فترددت قليلا وفتحت الباب. دخلت بهدوء وحملت الطفل وأرضعته ، رغم أن هذه ليست مواعيد ارضاعه. كانت تريد عمل شيء...أي شيء...
كانت الأيام التالية أقل صخبا لكنني لاحظت عليها الاكتآب والخمول وعدم الاكتراث بنظافتها ونظافة المنزل والطفل. اتصلت بصديقي الذي قال بأن العلاج الوحيد هو تركها تعمل من جديد..(عليها أن تنفس عن طاقتها المفرطة في شيء ما حتى لو تعلمت الملاكمة).
- الملاكمة؟!...
كان هذا اقتراحا جيدا... وكان علي أن أنقله لها بسلاسة. لقد فتحت الموضوع بتدرج وقلت:
- هل تعرفين...
نظرت نحوي بشرود...
قلت:
- بإمكانك أن تكوني مليونيرة يا عزيزتي...
لوت فكها ورمقتني بنظرة مشمئزة.
- صحيح.. أنت لا تعرفين قدراتك الخارقة هذي...ماذا لو تعلمت الملاكمة...؟
تسمرت نظراتها فأضفت باستفزاز:
- صحيح ستتلقين هزائم كثيرة ولكمات أكثر وتضربين بعنف من المحترفات في بداية مشوارك..لكن من يدري.. قد تنجحين وتفوزين بميدالية ذهبية في الأولمبياد بعد ذلك..
صاحت:
- ماذا تقول؟! هزائم ولكمات... يبدو أنك لا تعرفني حق المعرفة...إن عشرين امرأة لن يهزمنني أبدا... هل سمعت ما قلت..عشرون أمرأة لن يهزمنني ابدا...
- حسنا حسنا... لكن هذا لا يمنع من ضرورة التدرب لمعرفة قوانين اللعبة....
وعندما نظرت المدربة إلى كفيها اتسعت عيناها دهشة وقالت:
- أنت جاهزة تماما يا فتاتي...هل كنت ترفعين أثقالا كبيرة ...
أجابتها:
- أكثر بكثير مما تتوقعين..
كان كل شيء يسير على ما يرام ، لقد أوسعت المسكينات ضربا ، كسرت انوفا وفقأت أعينا وثلمت شفاها وحطمت أفكاكا وأسنانا على نحو مرعب...ثم تم إيقافها نهائيا من اللعب بسبب العنف المفرط. وهكذا عدنا لنقطة الصفر من جديد.
تجلس على الكرسي بصمت ، تحدق في الهواء ، تقضم اظافرها بقلق...ثم تحول الأمر إلى اكتآب حاد وضلالات ، كانت تتهمني بالخيانة ، وتعتقد أن أخوتها يتآمرون على قتلها...وفي منتصف الليلة أيقظني صوت ضربة مكتومة ووجدتها تغرس سكينا في قلب الطفل.
قفزت بهلع وفررت من المنزل قبل أن تشق صدري أيضا.... كنت أهرول بلباسي الداخلي فقط فوق الطريق المعبد والحقول من حولي خرساء وسوداء...لم اتوقف إلا وأنا اجلس إلى الشرطي لأقص له ما حصل بأنفاس لاهثة...
اتخذت المحكمة تدابير احترازية ضدها فوضعتها في مصحة عقلية...كانت تتلقى كل يوم عشرات من الحقن المهدئة ليضمن الأطباء والممرضون عدم تعرضها للانتحار أو تعرضهم للأذى بقبضتها القوية...
قال الطبيب:
- حالتها ميؤوس منها ... عليك أن تكيف أوضاعك على هذا النحو...
لم أجد بدا من تطليقها ، ثم ركبت طائرتي عائدا إلى الوطن...لم اكن اعرف مشاعري نحوها حتى تلك اللحظة بل وحتى هذه اللحظة... كان الأمر كله أشبه بكابوس مرعب....أنا الآن هنا ، وهي الآن هناك... غير أنني لم أعد قادرا على الهناءة بحياة أخرى في الوقت الذي كنت فيه سبب قبوعها إلى الأبد في مشفى المجانين...
تذكرت كل ما مضى وأنا في مركبة النقل العام عندما رأيت كفا ناعما جدا يستند على مسند المقعد الذي أمامي...كانت راحة بضة كالحرير بأظافر لامعة ومشربة برواء الدم...رفعت رأسي فوجدته رجلا مستطيل الوجه....دميما بأنف أفطس ، هبطت بسرعة ومضيت راجلا .. غير أنني لاحظت أصوات أقدام خلفي فالتفت لأجده يتبعني...ضاقت عيناي حين رمقته بنظرة مقت فقال بود شديد:
- لقد نسيت حقيبتك يا شاب...
ومد لي بالحقيبة...
ثم رافقني جل الطريق دون أن يتوقف عن التثاؤب.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى