عادل الأسطة - معمر القذافي والمدينة (2 من 2)

المدينة في الشعر العربي المعاصر:

التفت دارسون عرب كثر إلى موضوع المدينة في الأدب العربي بعامة والشعر بخاصة، وأنجزوا عنها دراسات وكتبا. وربما يذكر قراء مجموعة جبرا إبراهيم جبرا «عرق وقصص أخرى» ١٩٥٦ المقدمة التي كتبها لها الشاعر توفيق صايغ وأتى فيها على المدينة مبرزا لها، اعتمادا على القصص، صورة سلبية. وربما وجب أن تدرس صورة المدينة السلبية في نصوص القذافي مع تلك المقدمة.
هل كان القذافي قرأ ما كتبه صايغ عن مدينة جبرا، كما تخيلها شخوصه؟
وهل كان القذافي أيضا قرأ نصوصا أدبية عالمية وعربية عن صورة المدينة؟
بل وهل قرأ دراسات أتى أصحابها فيها على تصورهم للمدينة؟
يمكن الإشارة هنا إلى دراستين حول المدينة في الشعر العربي تتركان لدى قارئهما انطباعا بأن صورة المدينة في الشعر العربي، بشكل عام، كانت صورة سلبية؛ الأولى لعز الدين إسماعيل في كتابه «الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية» ١٩٦٦ والثانية لإحسان عباس في كتابه «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» ١٩٧٨. وتعد هاتان الدراستان مهمتين في هذا الموضوع، حيث فتحتا الباب لدارسين آخرين لتناول الموضوع والتوسع فيه، وربما وجب أن يشار إلى كتاب مختار أبو غالي «المدينة في الشعر العربي المعاصر» ١٩٩٥ باعتباره كتابا توسع فيه مؤلفه في الموضوع وخصص له كتابا كاملا شاع في العالم العربي، لأنه انتشر في الكويت وصدر عن سلسلة «عالم المعرفة» التي توزع ما لا يقل عن أربعين ألف نسخة.
أشار الدارسون العرب، حين عالجوا صورة المدينة في الشعر العربي، إلى الشعراء العرب الرومانسيين الذين هربوا من المدينة إلى الريف وتغنوا بالأخير، وربما كان هذا الهيام بالريف ناجما عن قراءتهم للشعر الرومانسي الانجليزي الذي تغنى بالريف وهجا حياة المدينة، فالمدينة العربية في النصف الأول من القرن العشرين لم تكن على شاكلة المدينة الصناعية الأوروبية.
وحين رأى الدارسون العرب أن الشعراء العرب المعاصرين، مثل السياب وحجازي وآخرين، أبرزوا للمدينة العربية صورة سلبية، تساءلوا: أيعود هذا إلى تأثر الشعراء بالأدب الانجليزي والأوروبي أم أن تجربتهم مع المدينة لم تكن على ما يرام؟
ولاحظ الدارسون العرب أن أكثر الشعراء العرب المعاصرين الذين أبرزوا صورة سلبية للمدينة كانوا من أصول ريفية مثل السياب الذي جاء إلى بغداد من جيكور، وحجازي الذي جاء إلى القاهرة من الريف فوجدها «مدينة بلا قلب».
وحين تتبع الدارسون موقف الشعراء من المدينة، منذ جاء الشعراء إليها، لاحظ النقاد أن بعض الشعراء، مثل السياب، ظلوا على موقفهم الأول وهو العداء للمدينة، فيما بدأ موقف شعراء آخرين، مثل حجازي، يتغير ويتدرج من الرفض إلى القبول فالتصالح. وموقف القذافي في نصه «المدينة..المدينة» ظل على ما هو عليه وهو العداء لها والتنفير منها ومن حياتها والدعوة إلى العودة إلى الريف، كأن القذافي من الرومانسيين.
يجدر هنا أن يشار إلى رأي توصلت سلمى الخضراء الجيوسي إليه في مقدمتها التي كتبتها لموسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر الصادرة بالانجليزية والعربية حول موقف الشعراء العرب والفلسطينيين من المدينة.
تكتب سلمى: «ومما يتصل بهذا البحث أن نتحدث عن موقف الكتاب الفلسطينيين من المدينة بشكل عام. إن المدينة والتركيز على ما فيها من نواح سلبية موضوع بارز في الأدب العربي الحديث، خاصة في الشعر .... وقد رأى فيها شعراء مكانا للرشوة والفساد والمخاطر والانحلال الاجتماعي والتآمر السياسي» (ص ٧٢و ٧٣) «أما الاستثناء الوحيد لهذا الموقف من المدينة فنجده في الأدب الفلسطيني، فالمدينة الفلسطينية لم تكن يوما ثمود أو سدوم أو عمورة، كما لم تكن يوما مصدر تهديد أو مستودعا للقذارة والفساد، بل كانت دوما المدينة الضحية، ولم يكن الناس فيها يشعرون بالاغتراب والاستلاب لأنها إما مدينة محاصرة يحتلها الغاصبون، أو مدينة فقدها أهلها ...... وهي ليست مدينة ضحية فقط، بل هي أيضا مكان للبطولة، وموطن للمقاومة والنضال الوطني». (ص٧٣).
ورأي سلمى السابق رأي فيه قدر من الصواب، فالدارسة نفسها، في موطن آخر من دراستها أتت على بيروت مدينة نزار قباني، ورأت أنها تختلف عن مدينة جبرا، فمدينة نزار - أي بيروت - «مدينة مليئة بالحياة والحيوية، تفسح المجال للعديد من مواقف الحب، بما في ذلك البغاء والسحاق، ولكنها ليست بالمدينة العقيمة أو الميتة، بل هي مدينة يحيا فيها الناس معا، حيث يجدون المتعة، وتتوفر لهم فرص المغامرات الجنسية والعلاقات السرية» (ص ٥٣).
وما من شك في أن شعراء عربا آخرين أبرزوا في شعرهم غير صورة للمدينة، ومن هؤلاء أمل دنقل الذي أبرز صورة إيجابية لمدينة السويس، لأنها مدينة تقاوم، وصورة سلبية للقاهرة التي كانت تغرق في عالمها الذاتي بينما السويس تقاوم وتحترق.
وعلى العموم يمكن اقتباس مقاطع من نص القذافي «المدينة ... المدينة» لملاحظة الوجه السلبي الذي أبرزه بشكل عام، حيث، كما ذكرت، لم يميز بين مدينة ومدينة، بين مدينة مقاتلة وأخرى تتعهر، بين القدس وبين بابل. يرد في النص:
«في شوارع المدينة يتساوى الآدميون والقطط».
«المدينة مجرد حياة دودية بيولوجية يحيا فيها الإنسان ويموت بلا معنى»
«في المدينة قد يقتل الابن أباه والأب ابنه».
«المدينة ضد الزراعة ... تبنى على الأرض الزراعية ... تقتلع الأشجار المثمرة .. تجذب الفلاحين وتغريهم ليتركوا الزراعة، ويتحولوا إلى أرصفة المدينة تنابلة كسالى ... عاطلين متسولين ..».
«هذه هي المدينة، طاحونة لساكنيها، وكابوس لمشيديها، تجبرك على تغيير مظهرك .. وتبديل قيمك».
«أما أطفال المدينة فإنهم أتعس من كبارها .. فهم من ظلمات إلى ظلمات ... فمنازل المدينة ليست بيوتا، بل هي جحور وكهوف محاطة بتيارات متعاكسة من حركة شوارع وزقاق المدينة ... والناس فيها تماما مثل القواقع المحتمية بأصدافها بسبب ضغط تيارات البحر وأمواجه ... فالمدينة بحر له تيارات وأمواج وبراريم وقاذورات وأتبان وزبد ..».
ولا أريد أن أقابل بين هذا الوصف للمدينة والخلاصة التي أوردتها من كتاب (ديميريش) فلا شك أن هناك تطابقا إلى حد كبير.
هل المدينة حقا كما وصفها القذافي؟ سوف أترك لكم الإجابة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى