محمد علوان جبر - هذه قصة الجندي الاحتياط ” جفات عبد الحسين”.. ” بيان البيانات “

تعويذة رقمية ، قيل أنها تشبه الارقام التي تكتب في تعاويذ السحرة والمشعوذين ، وقيل أنها ليست ثمانيات اربعة بل طلسم من طلاسم الزمن والعمر والحياة والتفاصيل.. لكن الجندي الايراني في ظهيرة ذلك اليوم ، وقد كمن في زاويته التي يجلس فيها يوميا هو ومجموعة من القناصين الإيرانيين أمثاله ، يكمنون بلا حراك ، يتصيدون الجنود الغافلين ، من ينسى ويخرج رأسه من خلف الساتر ، من يسير دون أن تهمه بنادق القنص ، من يركض سريعا متنقلا من موضع الى موضع ، مكمنهم قريب من الجنود العراقيين .. ولهذا تمدد القناص الايراني ” س ” بلا حراك وهو ينظر الى المدى امامه عبر مرقاب البندقية ، المرقاب يشير الى حركة في المواضع العراقية ، الحرارة والرطوبة جعلت حبات العرق تنساب بتدفق من رأسه ، حيث الخوذة وتسير مسرعة نحو الحاجبين الكثين وقريبا من المرقاب ننحرف دفقة العرق وتصل الى فمه ، مياه مالحة تصل الى شفتيه يمتصها ويبصقها بسرعة ، ازدادت الحركة في المواضع العراقية !
في الجانب الاخر .. كانت المواضع هادئة ، تواصل الهدوء حتى مابعد ظهيرة يوم 8/8/1988 .. اشيع بين المواضع العراقية أن هناك بيانا هاما صادر من القيادة العامة للقوات المسلحة .. وبدأت كالمعتاد الاناشيد .. انشودة تعقبها انشودة .. كان الجندي جفات ، اكثر المنتظرين للبيان فيما إنشغل باقي اصدقائه في الموضع المقابل للايرانيين بلعبة الدومينو .. لم يشترك معهم كالمعتاد ، سخر احدهم من البيان :
ــ بابا شبعنا بيانات ، منذ ثمانية اعوام ونحن نسمع البيانات الصادرة من قيادتنا، لاشيء يخلصنا من عفن المواضع وترقب السواتر امامنا .
جفات اكد لهم ان شعوراَ غامضاً ينتابه الان : ان هذا البيان سيكون له شأن كبير في حياتنا
ضحك احدهم ضحكة قوية ، ظنها الجندي ” جفات ” انها تعنيه ، ولم يكن يعلم انها من اجل ” الدوشيش ” الذي مات بيد احدهم .. فزعل .. اقترب من فتحة الملجأ ..طالع المواضع الايرانية .. كان الهدوء ، يشبه سجادة مخترقة بشمس مابعد الظهيرة حتى أن مواضع القناصة التي يعرف انها تقابلهم ، كانت ساكنة ، كالملح المحيط ” بالسيبة ” اطل برأسه بتحدي من خلف الساتر .. لم يسمع شيء ولم يحس بالطلقة التي اخترقت رأسه من جبهته واخترقته لتخرج من مؤخرة رأسه محدثة ثقبا كبير ، وتدفق الدم وبقايا الرأس وغمر الطاولة التي اتخذها اصدقائه للعب الدومينو .. ساد الصراخ .. وبدأت اللعنات على البيانات والحرب والجبهة والملح والدومينو .. امسك الجميع اسلحتهم وبدأت زخات الرصاص تمطر الساتر الايراني بعنف وهمجية وقسوة .. اخترقت رصاصة التراب وغاصت عميقا في قلب الجندي الايراني ” س ” القناص الذي شاهد رأس جفات يظهر من خلف الموضع واطلق رصاصة وحيدة نحوه .
ــ مات جفات …
اخبر اصدقاء ” جفات ” الضابط الذي بدوره عبر الموقف إلى آمر السرية الذي عبر الموقف إلى آمر الفوج وآمر اللواء .. الذي بدوره عبر الموقف النهائي الى الفرقة …
حينما اعلن المذيع ” مقداد مراد ” انه سيقرأ بعد قليل بيان هام صادر من القيادة العامة للقوات المسلحة .. شد اصدقاء جفات جسده في بطانية وحملوه الى المواضع الخلفية حيث السيارات الذاهبة والأتية من الجبهة إلى مقر اللواء .. اقترب الجنود الأربعة وهم يحملون جثمان ” جفات ” من ” الحانوت ” رفع عريف الحانوت موشر الصوت في التلفزيون .. ومن فتحة المبنى الصغير للحانوت ، اطل المذيع مقداد مراد .. واعلن الكلمة الاولى : بيان البيانات …. لم يفهم الجنود اول الامر ماذا يعني بيان البيانات .. حينما وصلوا الى سيارة الاسعاف .. انهى المذيع قراءة البيان … وكتب الضابط في دفتر مذكراته بعد أن وقع موقف الوحدة حتى ساعة قراءة البيان …
” الجندي جفات عبد الحسين ” اخر جندي يذهب الى حتفه متأثرا برصاص قناص ايراني قبل أن يتم ايقاف اطلاق النار بساعة او ربما اقل .. ربما هي عشرة دقائق او عشرين دقيقة .. جفات عبد الحسين اخر ضحايا حرب الثمان سنوات .. ومن يومها كلما سيحتفل الشعب بتاريخ الثمانيات الاربع ، سيتذكر اولاد الجندي ” جفات عبد الحسين ” تاريخ رحيل الاب الذي قتل قبل عشرة دقائق من انتهاء الحرب .. وكذلك القناص الايراني ” س ” الذي مات بذات التوقيت مع فارق بضع دقائق هي الفاصلة من انطلاق رصاصته نحو رأس ” جفات ” والرصاصات التي انطلقت من جنود الموضع المتقدم نحو ساتر الايرانيين حيث الرصاصة التي اخترقت قلب القناص الايراني ” س “


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى