أميمة عبدالله صالح - إلى ذلك السيد الذي أهداني قصته ها أنذا أرجعها إليك كتابةً

هكذا جاء الأمر ، بعد سنين عديدة ، أن قرر في أحد الصباحات الصيفية أن يجمع ما تبقى وهو قطعا لم يكن كثيراً، فقط بعض كتب قديمة وأقلاماً ودفتراً كبيراً أرزق على صفحته الأولى مكتوب - إليك دائما - وحذاء من عينة تلك الماركات العالمية ، أهدته إياه إليانا على أن يرتديه يوم ذهابه للجلوس لامتحان المعادلة
- إن لبسته تأكد أنك ستنجح
ونجح وحمل رخصة ممارسة المحاماة
باقي الأشياء سيتركها لأصدقائه . لم يكن يحس بأي أسف لمغادرته هذه المدينة التي سقته مُر غربته طيلة العشر أعواما الماضية ، لم يكن يحب الوداعات ولا لحظات انكشاف الضعف العاطفي ، هكذا كانت تربيته الأولى ، لذا سيغادر دون أن يقول لأحد مع السلامة .
غادر الحسين الخرطوم في ذلك الصباح الصيفي راجعا إلى أهله ، قلبه كان مضطرباً وعيناه كادتا أن تقطرا فهو لم يرجع إلى أهله في أي من إجازات الجامعة ، الذكريات أثقلت عليه فجأة والأحداث والأشواق ، خدر وثقل سرى في قدميه ، شارد اللب فتح الباب الخارجي وخرج ، حاول أن يُهّدئ قلبه من ذلك الاضطراب ، لكنه فشل ، سوف لن يرى إليانا مرة أخرى ، سيترك المدينة ، لكن أيكفي مراوغة حبها في قلبه تغير المكان والسفر إلى بقعة بعيدة !، لم يكن واثقاً ، لكنه كان في حاجة ماسة للرحيل ، لأن يذهب بعيداً ، ضربات قلبه كانت تتسارع ، أخذت تضرب قلبه كمطرقة .
إليانا التي غزت قلبه مذ أول يوم رآها فيه صدفةً في ممر الجامعة الرئيسي ، تتبعها ببصره دون تدبر إلى أن دخلت قاعة الدراسة المخصصة لطلاب السنة الأولى .
سيسافر بالقطار ، أسرع في خطاه ، صفارة القطار وصلته وهو في زحام المحطة يدفع الآخرين من أمامه برفق ليصل ، تذكرته كانت في الدرجة الثالثة ، ازدحام كثيف ، رجال بقامات مختلفة ولهجات متنوعة ، نساء بسحنات متفاوتة وثياب بكل الألوان وطيور وصغار لا يكفون عن الصراخ ، ضابط القطار هو الآخر لا يكف عن إصدار التوجيهات للمسافرين .
لقد نجح الحسين أثناء دراسته للقانون في إنشاء صداقات ناجحة وقوية ، كان زملاؤه يرون فيه تلك الألفة البدوية الصادقة والتهذيب الرفيع العائد لتربية الخلوة الأولى ، وبما حباه الله من صفات صار الحسين قِبلة لمعظم طلاب الجامعة ، الاحترام المشترك بينه وبين أساتذته والذكاء الطال من عينيه وتفوقه الباهر جعل الكل يقدر له ذلك .
القطار يسير ببطء متعمد ، الأصوات متداخلة حد عدم الفهم من يتحدث مع مَن ؟ ، البعض يدفع بالبعض مع أن معظم المسافرين استقروا في أماكنهم ، الأطفال سعداء بفوضى المتاع المتراكم قرب أسرهم ، كان يرصد حركتهم بابتسامة عذبة وشوق إلى إخوته اللذين تركهم صغارا ، لكنه لم يكن بخير ، كل ذلك كثف من حضور إليانا في روحه وجسده ، ارتعش قليلا ، الدماء كادت تتفجر من عروقه ، دقات قلبه كما طبول قوية ، لم يكن في فؤاده الصادق يريد نسيانها ، يريد لها أن تبقى حية ، نابضة ، مضيئة ودافئة
- لن أرجع للخرطوم مرة أخرى
هكذا قطع على نفسه عهدا ، ومع ذلك ستبقى إليانا في كل نبضة من نبضاته تخفق ، موجودة في كل التفاتة ،أرادها وهى فضلته على البقية لكن الواقع كان له مذهب يختلف عن تلك المحبة .
أول استلامها لدفة قلبه لم يكن أحد من أصدقائه يلحظ حبه لها ، لكنها بفطرة المرأة كانت تعرف ، لأنه لا يُخفى على المرأة خفقان قلب بها ، كانت تخترق هدؤوه كسيف ، تحمل ابتسامتها كهالة ضوئية تُعجزه الآخرين عن تجاهلها ، وكان طبيعيا أن يشعر بالدفء العفوي كلما جلس معها ، بصعوبة وحياء بالغ أخبرها دون نطق واضح ، مجرد همهمات لكنها كانت مفهومة ، ومن يومها لم يفترقا ، كانا معاً ، يذاكر دروسه معها ويذاكر لها عند اقتراب امتحانها ، استطاعت ببراعة التقاط عاداته وتفسير نظراته وفهم صمته ، كان يحكي لها عن قريته البعيدة الواقعة في أقصى المفازات الغربية وعن أهله وكرمهم وشجاعتهم وأبيه الشيخ الفارس ، وعن حنان أمه العجيب وعطفها ، حكى عن جدته الحكامة ، شرح لها معنى الحكامة وكيف أن لها كلمة مسموعة وسط الناس هناك ومكانة رفيعة مقدرة ، حدثها عن نفسه وأحلامه وتمرده في صباه الأول، كانت تستمع إليه بحب كبير وعاطفة صادقة لكنها لم تكن تحكي عن شيء وكان الجميع يعرف مدي حبهما لبعضهما ، فما أن تلمحه إليانا قادما بِطلته الراسخة وسُمرته الأقرب للسواد حتى تذهب عن الجميع إليه ، تُحيه بابتسامة ويحيها بصوت موشوم ببحة مميزة .
الممر مازال مزدحما بالصغار والصراخ وشكوى النساء من ضيق الحال والفقر والصراع المسلح بين الجماعات المختلفة والحكومة وأحيانا بين الجماعات ذاتها ، الحال لم يكن مستقراً، إنها الحرب بين أهل البلد الواحد . كان يستمع إليهن باستفهام، أبلغ الحال كما يقلن !؟
الخلاء ممتد على جانبي القطار ، الشجرات صارت متباعدة ، السماء صافية، والرمال بصفار يسر القلب ومتحدة في الأفق البعيد ، القطار يسير بسرعة شاقا الطريق نحو الرهد ، وهو لا يكف عن النظر عبر نافذته الضيقة ، أبو زبد ، الضعين مدن له فيها ذكريات ،إليانا لا تعرف هذه المدن ، لأنها من الشرق ، بيتها قرب نهر القاش الموسمي ، لم تكن تعرف غير مدينتها والخرطوم . بابنوسة والحزن إذا ما قلنه النسوة صحيحا ، صدمته أرضه ، أهذه هي التي تركها قبل سنين ، أم أن القطار سلك طريقا آخر غير الذي يعرف ؟ ، الشمس إلى غروب ، الذهول أسكر قلبه ، أحاديث الطلبة الجدد القادمين من هذه المناطق كان صحيحا إذا ، وحده لم يكن مهتما ، شغلته إليانا بتفاصيلها ، لا خضرة ممتدة ولا ماشية ترعى ولا صغار خلفها ، الطريق كئيبا مكفهرا يكاد ينطق بؤسا ، اليوم الثالث وهو مازال مسافرا ، التبدلات أذهلته حد تجمد قلبه وتصلب كل عضلة من عضلاته ، الفراغ خطف عقله وكأنه في دائرة واسعة مسحوب منها الهواء ، أينما حطّت عيناه خراب وبقايا قرى ، من بعيد لاحت نيالا ، مدينته ، حبيبته ، دخلها القطار ظهرا ، الزحام في المحطة على أشده ، الأصوات تعانق السماء علوا ، العرق ورائحة الأجساد الحارة والأشياء المكدسة ، المحطة كما تركها قبل عشرة سنين ، هي ذاتها لكن الكثير من الغرباء بها ، خرج مشتاقا لمدينته ولسوقها العامر بالبضائع المجلوبة من دول الجوار ، لطالما أحب أطعمة وعطور هذه المدينة وأحذيتها ، الطرقات لا كما كانت، أيضا الغرباء وفخامة السيارات أذهلته ، والأحياء الجديدة بعمارها الحديث ، تمنى لو أنه يصادف وجها يعرفه ، تلفت بلهفة ، لقد أصبح هو الغريب لا هم ، جلس وحيدا تحت ظل واسع ، أحس بحزن عميق لا لأنه بعيدا الآن عن إليانا بل لأنها لم تترك مكانا في القلب سليما منها ومن ضحكتها ، لقد أفسدت عليه حياته القادمة في وقت كان فيه بحاجة ماسة لامرأة تكون قربه تُهدئ من روعه وتكبح جماح غضبه على أرضه الخراب وتغطيه بحنانها، لأن المرأة الحنون وحدها تفوز بالقلب كاملا ، إليانا كانت تشوش عليه بحضورها، تهزه بابتسامتها تهزم ميله للوحدة بثرثرتها اللطيفة المفرحة وكانت باشراقة عينيها تنقذه من متاهات نقاشات السياسة الحادة ، الآن هو وحيدا ، غريبا في مدينته ، إستا جر سيارة قديمة لتحمله إلى خارج نيالا حيث قريته ، مع جماعة استطاع حجز مقعد ومع المغيب تحركت بهم السيارة قاطعة وادي كايا ، أخذت اتجاه الشمال الشرقي ، الحنين ليلا يصبح قاسيا، موجعا وغير محتمل، قلب الحسين أصبح بما يحمل من شوق ثقيلا ، إنه في طريقه إلى تمرا ، الليل حجب عنه المناظر ، من كانوا معهم أخذهم هدوء الليل فناموا ، وحده كان مستيقظاً يستعرض في الظلام أيام صباه بتمرا ، قديما لا شيء كان قادرا على إغرائه بالبقاء فيها، كان ساخطا وغير مباليا لنظرات والده الصامتة التي تراقب رغبته الواضحة في الرحيل . وكان الحسين يبتسم في الظلام لتلك الذكرى البعيدة حينا وحينا يطل عليه وجه إليانا باسما ،الذاكرة ما كانت عند الحسين هي الأحداث بل هي القلب والعاطفة ، لذا الحنين سيظل عنده حاضرا دائما .
مع طلوع الشمس بدأت السيارة تتوقف لتُنزل بعض الرجال ، السائق كان قد ابلغ الحسين بحزن بعد أن أصبحا لوحدهما بالهجوم الذي تعرضت له تمرا من قِبل بعض المسلحين ونهب كل جمالها وماشيتها ، لكن الحسين لم يكن يتصور أن بقايا القش المحروق هذا والرماد المتناثر وحوائط الطين المهدمة هي تمرا ، الحرب المحلية وشمتها بدمار يصعب معه التصديق ، حدث هذا قبل أسبوع فقط !، لقد جردوا أرضه حتى من جفافها !، لم يعرفه الرجال ولم يعرفهم ، لقد تفرق أهله في الصحراء الواسعة ، بعضهم ذهب لمعسكرات النازحين ، كاد قلبه ينفجر ، ما تلى لحظة الشوق تلك كان غضبا هائلا عصره بقوة أعمت عينيه للحظة ، انطلق باحثا عن أهله ، أخبره المارة أن ما وقع على تمرا كان ظلما وأن أهلها دافعوا عنها بأرواحهم لكن العِرض أُنِتهك والثروة ضاعت فزعة ، في هذه اللحظة انتصب أمامه والده بكامل شموخه ، هذا الرجل الذي تحمل برضا سخطه الدائم أيام صباه على تمرا وجفافها
كان شيخ ادم يحب الحسين حبا عظيما مستمدا من حبه لأمه التي هي الزوجة الثالثة لشيخ أدم ، إنه الآن في شوق عظيم لأبيه ، وغير معاتب له لشرط سفره للخرطوم بأن لا يتزوج من هناك ، زينة ابنة عمه ستنتظره ، قبل الحسين الشرط من أجل السفر لا من أجل زينة التي نسيها ما أن وطئت قدمه جامعة الخرطوم ، رحلة البحث عن أهله طالت إلى أن دلوه إلى البحث عنهم في المعسكرات ، وجدهم وكان الرماد واسما لملامح أمه التي بكت بحزن عميق على عظيم المصاب وموت والده ، لقد تنفس الحزن في هذه البلاد حد الاختناق، كانت الأسئلة كثيرة عجز اللسان عن النطق بها ، فقط الدموع، كل من صافحه ضغط على يده بقوة وكأنه يحكي بتلك الضغطة ما حد ث ، رجال تمرا مشتتين في الصحراء ليجمعوا ما فزع من ماشية ، وكان السؤال الذي شق قلبه
- كيف كنت بعيدا كل تلك السنوات ؟
تمرا ما كانت جنة خضراء ، كانت بقعة وسط الصحراء لكن بها حياة كاملة . النساء كن صامتات ، شاحبات كاهلهن مُثقل بالعبء الثقيل والخوف والحاجة
أخذ أمه وغادر المعسكر ، لقد أحنى الوجع والحزن ظهرها ،عمته أم الكِرام رفضت مغادرة المعسكر ، قالت أنها ستبقى من البقية لحين عودة الرجال مع الماشية ، سكن مع أمه في بيت صغير إستاجره ، كان يجلس قربها لتحكي له ما حدث لكنها لم تكن تستطع ، تبكي فقط مغطيةً وجهها بكفيها ، دموع بلا صوت ، كان يبذل جهدا مضنيا لكبح غضبه ، الحياة لم تعد كما كانت ،هو أيضا تبدل ، كان يذهب يوميا للمعسكر للقاء أبناء عمه ، لقد درس القانون من اجل أهله ، وهاهم الآن يحتاجونه ، وكان كلما جلس مع عمته - أم الكِرام - أحس بلمعان الدموع في عينيها لكن دون سقوط قطرة منها ، لمعان قوي ، عمته كانت امرأة شدائد وصبر هكذا عرفها مذ كان صغيرا لا تنام وإن نام الكون ، تتفقد فقراء تمرا ، تعاون نسائها الضعيفات ، الحب بينه وعمته كان دائما متقدا لكن بصمت ، هي من أخذت له موافقة السفر لتكملة الدراسة بالخرطوم من أبيه ، وهى أول من زغردت له عندما أحسن استخدام التصويب بالبندقية وركوب المهر الجامح ، امرأتان كانتا تشعلان قلبه بالحب ، أمه وعمته والآن إليانا ، نساء سيكن في قلبه ما كان ، لقد بدلت إليانا قلبه فعاد لأهله بغير القلب الذي غادرهم به ، وكان كلما نطق باسمها سرا شعر بحنجرته تحترق ، يذكر تلك اللحظة ، يوم قالت
- أنت تعلم أني أحبك ، أنا لست غاضبة لأننا سنفترق ، أنتَ لوعدِ قطعته
لأبيك وأنا لعدم موافقة أمي ، لا يجب أن نبدأ حياتنا هكذا
- سأعود إليك بموافقته ، هكذا قطع حديثها
- السنين التي كنا فيها معا لا تستحق منا ختاما مزعجا ، الأقدار كفيلة بما تبقى
كان يعلم أن إليانا لا تكذب في حبها له ،وكان يثق في عقلها الراجح وتقديرها لمستقبل الأيام دون أن تكون واقعة في شرك حمى الحب ، لن يتزوجا فقد أرسل والده مجددا رفضه ومذكرا إياه بالوعد القديم ، وطالبا منه العودة سريعا فهم بحاجة إليه . نهارا كان ينشغل بأهله ومشاكلهم داخل المعسكر ، لكن الليل كان يحرق حنجرته آلاف المرات سرا .
سافرت إليانا لأهلها دون أن تخبره بأنه قد ترك آثراً عميقا فيها ، هو سافر بعدها مباشرة ، الآن هو وحيدا ، سرح ببصره في السوق الكبير طويلا ، كان يبحث عن ألفة الوجوه التي كان يحسها قديما عندما يأتي مع والده لشراء مستلزمات قريتهم من مؤن ، أختطف الأفق البعيد أمانه، قلبه كان ضائعا ، لا يعرف ما يُخبئه لهم الغد لكنه الآن مكشوف للشمس بسره وحبه لهذه البلاد الواسعة ولإليانا ، كانا يحلمان بشراء أغراضهما من هنا ، من سوق نيالا الكبير ، الكل لم يريدهما لبعضهما ، هو الآن يحس بشوق طافح إنه عظيم الشوق الذي لا يقود إلا لصمت معلن وأمل أن تُشرق الشمس من جديد وتتوهج في الوسط السماوي حاملةً معها قلبه قرباناً لحياة خضراء .



  • Like
التفاعلات: صداح عبيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى