نفيسة الشرقاوي (أم أحمد) - الذات تناديني

لأول مرة أمارس الكتابة في مكان غير محرابي .. غير تلك الحجرة المغلقة ذات الضوء الخافت .. والكتب المبعثرة .. والأوراق الملقاة في غير ترتيب .. لأول مرة أمارس هوايتي داخل قمرة القطار الذي ينهب الأرض نهباً إلى أرض الشعر والجمال (كسلا) الجملية، أتجه إليها في أبريل 1978م في أمسية مليئة بالضباب والرطوبة.
إحساس غريب انتابني وأنا في رحلتي بالقطار إلى كسلا .. إلى أرض التاكا .. أرض القاش .. أرض الحب والجمال والتي تغنى لها كثير من الشعراء .. وبخاصة شعراء الأغنية الشاعر الحلنقي (والعنبة الرامية في بيتنا).
إحساس غريب ينتابني وأنا أرى أنوار الثغر، لقد ابتعدت عن مكان منهب القطار واصبحت كدموع الحزين في ليل دامع.
ما هذا الإحساس؟ (هل هو إحساس الكاتب؟ إحساس الإنسان المغادر لأرض الثغر، هل أنا أعشق .. أحب أهوى هذا الثغر؟) لا أنكر أن أقول نعم إنه إحساس الإنسان والكاتب القادر العاشق المحب، امتزجت كلها في لحظة واحدة وأبتعد عن أرض الثغر مولد ذاتي وأحاسيسي الحلوة الصادقة التي عرفتها منذ أن أمسكت القلم وعرفت كيف أعبر عن مكنون الذات، وعلياء النفس وطهرها.
يقولون إن مدمن المشروبات وأنواع التدخين يلجأ إليها دائماً في حالات كثيرة متوهماً أنه يهرب من آلامه ومعاناته النفسية، ولكنني أقول أن مدمن الكتابة يلجأ إليها كما أحس أنه يحتاج لان يفرغ محتويات نفسه فيتنفس على الورق آلامه وذكرياته ومعاناته فيحس بالراحة ممزوجة بلحظات السعادة والمتعة الزوجية التي لا تعادلها متعة في هذه الحياة فكل من الاثنين أدمن أشياء يحس من خلالها أنه يركن الراحة والهدوء النفسي.
أين مسيرتي اليوم؟ هل هي رحلة الترويح .. أو لرؤية (ست الحبايب) التي تنتظر مقدمي بفارق الصبر .. أم شيء في نفسي من الذكريات التي أعيشها في كل لحظة من لحظات حياتي؟ هل هو إحساس الكاتب المرهف؟ لست أدري؟
في الأفق تلوح آفاق جديدة لتدفع بهذا القلم إلى نمط لم يتعوده من قبل، يدفعه إلى الزهد عن كل مباهج الحياة.
يدفعه إلى التقوقع مع الذات .. إلى أغوار النفس البشرية الغريبة .
الذات تتمزق .. تريد أن تقول شيئاً .. ولكن هناك إشارات حمراء تقول لذاتك قف هذا ليس من حقك في الحياة ..حتى الإحساس الجميل الذي يجيء غير إرادتنا، تقول قف أنت دخيل .. أنت ابن غير شرعي .. لا تتحرك في أحشائنا.
لا زال القطار ينهب الأرض نهباً..وأنا شاردة في ذلك الأفق أعد أعمدة الطريق الماثلة أمامي فأخطي في العد، ثم أبدا في العد من جديد، ماذا أريد؟ الأفق الرحب يناديني، الذات تناديني..أن أسهب..أن أكتب، أن أعيش الإحساس، حتى لو داخل هذا القطار بعيداً عن محرابي.
أطوار غريبة أعيشها هذه الأيام، بل هذه الساعات .. كل شيء يتجلى أمامي واضحاً .. أفق رحب يريد أن يحتوي برفق أي شيء .. يبتلع أي شيء .. ويصل إلى أي شيء .. أين كسلا؟ هل اقتربت من أرض الجمال والشعر؟ آه لا زال الليل طويلا والمسافة طويلة، أرض التاكا ولحظات تذكرت امرأ القس حينما قال:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل *** بصبح وما إلا صباح منك بأمثل
فيا لك مــــن ليـــــل كـــــأن نجــومه *** بكل مـــغار الفـــــتل شــــــدت بيــــــــذبل
وضممت أوراقي إلى صدري .. وبدأت أحدق في نافذة القطار وأعد الأعمدة التي تركض في الظلام مسرعة .. انتظر الصباح موعد لقائي مع ست الحبايب . .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى