نادية هناوي - عطاء أمين وحيازة السبق في القصة القصيرة

امتلك القاص العراقي عطاء أمين الريادة في كتابة القصة القصيرة، فأول قصة له كان قد نشرها في العام 1919 وعنوانها( كيف يرتقي العراق رؤيا صادقة) في مجلة دار السلام العراقية المجلد الثاني، العدد السابع عشر، كما ذكر الدكتور عبد الإله أحمد ذلك في فهرسه للقصة العراقية، مضيفا إليها قصتين نشرتا في المجلة نفسها هما( لوحة من ألواح الدهر) و( عاقبة الحياة) في العام 1920 .
وفات د. عبد الإله أحمد أن عطاء أمين كان قد أعاد نشر قصة( رؤيا صادقة) في مصر في مجلة المقتطف العدد الثاني فبراير 1920 ثم نشر عام 1922 في مجلة الهلال المصرية ( الأخلاق السياسية) في جزأين.
وفي قصة( رؤيا صادقة) يلتزم امين نهجا فنيا يقوم على قصدية التوظيف للمنظور السردي ذاتيا أو موضوعيا مستلهما فن المقامة مضيفا إليها لفتات فنية ارتقت بالمقامة وطورتها باتجاه واقعي يرسم صورة للحياة الاجتماعية في العراق مطلع القرن العشرين، وهذا الارتقاء والتطوير تجسد في فن القصة القصيرة وهو ما أحجم عن الإقرار به د. عبد الإله أحمد.

فأما استلهامات عطاء أمين للبعد التراثي المترسب عن فن المقامة العباسي فتمثل في ما يأتي:
1) استهلالية القصة بالنوم ( نمت فحلمت.. ) ثم ختامها بالاستيقاظ منه.
2) ترابط الجانب الواقعي الخارجي بالجانب الأخلاقي الداخلي ذهنيا.
3) اللغة المنمقة بالسجع كتبعة من تبعات السرد الشفاهي.
4) كثرة التناص من القران” دعها ومن يسكنها في ضلالهم يعمهون ..وبكسلهم وبطالتهم يشتغلون..”
وأما الارهاصات واللفتات الفنية التي انفرد عطاء أمين في إضفائها على فن المقامة مطورا لها فنيا ومتجها بها صوب القصة القصيرة بمعناها الحديث فنحددها في الآتي:
1) ما أضفاه انزياح الأفكار في القصة من عالم الحلم إلى عالم الواقع من أبعاد رمزية عليها.
2) الحبكة التي جاءت في شكل مبنى قصصي هو مجموعة سكيجات صغيرة مبررة أو معللة زمانيا ومكانيا.
3) وجود قرين واقعي يصاحب السارد بشكل حميم وهو التكنيك الذي يستثمر في قصص الخيال العلمي والأشباح والإثارة وكان ابتر قد أشار إلى( أن القرين ظهر في الأصل كدفاع بوجه انقراض الذات إلا إنه ارتبط بالموت ومن ثم فانه يمثل موتا محدقا) أدب الفنتازيا مدخل إلى الواقع، ص97 .والقرين في قصة( رؤيا صادقة ) شاب بهيأة تراثية يصطحب السارد من هناءة الجنينة ولطافتها إلى بشاعة مدينة ناسها غرباء وحالها بائس يرثى له.
4) الحديث مع النفس في شكل تداعيات تعكس الاضطرابات الداخلية للشخصية ينقلها لنا سارد ذاتي بضمير الأنا مستعملا أسلوب مناجاة النفس التي هي شكل بسيط من أشكال الحوار الداخلي الذي به يقدم السارد المحتوى الذهني لشخصيته مسطحا وهو يفترض وجود جمهور حاضر على طريقة القص الشفاهي” وقلت في نفسي ما أهنأ العيش في جنينة ليس فيها من يغشك ويضحك منك..”
5) التغير في مجرى الحبكة وما رافقه من تغير في استعمال الضمائر السردية فمن المتكلم المفرد إلى مجموع المتكلمين ومن ضمير الخطاب إلى الغياب.
6) السرد التاريخي الذي تجاوز المعطى الزماني فالسارد تحدث عن بغداد أبان عزها وسطوتها في الماضي وبؤسها وشقائها ذلا وانحطاطا في الحاضر ثم مجهولية حالها في المستقبل.
7) هذه المزامنة بين ماض غابر وحاضر معيش قادت السارد إلى تصور مدينة هي بغداد بعد ألف عام. وهذا التخيل لبغداد جعله يختنق بالعبرات مخاطبا دجلة معاتبا لها كيف أنها لا تبالي بما جرى لهذه المدينة ” لقد رأيت مدينة البابليين ثم سكت على انقراضهم وشاهدت عظمة العباسيين فلم تكترثي لما جرى عليهم وها أنت تضحكين جذلا على ما ألم بنا من الجهل والفقر والبلاء”
8) النقد الواقعي الملتزم بالقضايا الوطنية تمثل في ما طالب به السارد الأبناء من أن يقفوا ناظرين لما حل ببلدهم منتقدا إياهم لعدم اكتراثهم بهذا الحال ولهذا يصرخ في ختام القصة منتقدا الواقع بطريقة فنية وبانسجام ووحدة موضوعية.
9) تشكيك السارد في التاريخ الذي كُتب عن بغداد وكيف أن المؤرخين لم يكونوا دقيقين فيما ذكروه عن المنصور وأنه بنى القبة الخضراء ليحول أذهان الناس من الكعبة إلى بغداد، فقال:” ولكني لا أكاد اصدق ذلك .. أن المنصور جعل المدينة لحاشيته ومواليه وإتباعه” كما أشار إلى خطأ الخطيب البغدادي في تقدير مساحة بغداد وأنها تبلغ 1600 فدان مصري إذ عقب ” لو قرأت تاريخ الخطيب البغدادي لرأيته يقول أنها أربعون مدينة وان الحمامات بلغ عددها في أيام المأمون 65000 حمام وقد ترى في هذا القول مبالغة” وفي هذا توكيد لتضليل المؤرخين للقراء في توثيقهم للوقائع والأحداث والأخبار.
10) هذا الإصرار على عدم تصديق المؤرخين جعل القاص يثبت في الهامش مصدرا تاريخيا لأحد المستشرقين يؤكد حقيقة أن القلعة كانت تسمى طوبخانة في عهد الأتراك .
وهنا نقف عند مسألة عدم إقرار د. عبد الإله أحمد فنية قصة( رؤيا صادقة) التي عدها بدائية، فنجده في الوقت الذي يرى القصة امتدادا للنمط البدائي من القصص الذي عرف قبل الحرب العالمية الأولى؛ فإنه يلمس فيها تطويرا فنيا تتمثل صورته في الرواية الايقاظية لسليمان فيضي عام 1919 التي هي أصلا متزامنة مع القصة اعلاه تقريبا.
ثم لماذا يلوم أمينا على تعليقاته التي يراها تقطع السرد وتضعف الرؤيا بسبب تحكم الميراث القديم فيه وهو الذي اعترف أن لعطاء أمين قدرة في صياغة العبارة القصصية وانه كان مدركا انه يعالج فنا جديدا هو فن القصة ولم يقل القصيرة ؟! ينظر: نشأة القصة وتطورها في العراق 1908 ـ 1939 / 54ـ 60 .
ويبدو أن التردد أو التذبذب في توكيد أن ( رؤيا صادقة) هي قصة قصيرة يعود إلى مداراة الباحث على حقيقة الأثر التركي المتمثل في تأثير رواية الرؤيا لنامق كمال التي ترجمها معروف الرصافي عام 1909 في القصة العراقية، مقابل تركيزه الصميم على أثر مقامات الهمذاني على عطاء أمين.
أو لعل التوهم الذي وقع فيه الدكتور عبد الإله أحمد مرده العنوان نفسه( رؤية صادقة) متعاملا معه من باب التجنيس الفني لهذا النوع من الكتابة، وهو ما تابعه فيه بعض الدارسين مقللين من الشأن السردي لهذه القصة عادين موضوعها مجرد استكشاف للمجهول عبر التحول من الواقع إلى الحلم باتجاه بناء مدينة رؤيا في القصة القصيرة كما ذهب إلى ذلك الناقد جميل الشبيبي معللا كتابة الرؤيا بأنها تجنب المساءلة من قبل الحاكمين وأنها وسيلة للتخفي من بطش القوى المتحكمة موليا البعد الرومانسي الأهمية مقللا من شأن اجناسية السرد القصير فيها، واصفا كتابتها بالأمر الطبيعي كخطاب خيالي بدأ رومانسيا قبل أن يتحول واقعيا، ينظر: بناء مدينة الرؤيا في القصة العراقية القصيرة محمد خضير أنموذجا، دار الشؤون، 2007، ص5 ـ9.
وإذ نخالف هذا الطرح وما سبقه أيضا، فلأننا نجد في التوظيف للتاريخ على بساطة هذا التوظيف فذلكة تخالف طريقة جورجي زيدان في التوظيف الكلاسيكي للتاريخ الرسمي.
فعطاء أمين لم يركن لموثوقية هذا التاريخ بل شكك في ما نقله المؤرخون لنا هذا أولا وحاول بناء تاريخ جديد آخرا ، ذاهبا إلى بغداد زمن البابليين متقدما للأمام مستقبلا إلى بغداد بعد عشرة قرون من خلال شخصية المنجم أو كما سماه أمين ( سيمياوي) الذي سيطلعه على حال هذه المدينة التي ستغدو في هيأة امرأة ثكلى ليس لها من أبنائها من يعينها على ارتقاء سلم الحضارة التي تتبارى الأمم الأخرى في بلوغها وبهذه الصورة المأساوية تختتم القصة بصرخة هي دعوة لنقد الذات وتصحيح المسار في ظل توجه واقعي ناقد ” فصرخت بصوت اهتزت له إرجاء الحديقة قائلا إلى أمكم أيها العراقيون وانتبهت من الصوت”
فكيف بعد ذلك تعد قصة( الرؤيا الصادقة) رومانسية تهرب بالحلم من الواقع كوسيلة بها يصنع السارد عالمه الخاص؟ وهي التي وظفت الحلم أداة تساعد في التشبث بالواقع وتشخيص عيوبه وسلبياته المعيشة !!.
لا شك أن في القصة التزاما بقضايا الواقع وثورة على كل مظاهر الرضوخ والاستسلام وإلا لماذا حشّد القاص ضمير الخطاب بطريقة استنهاضية” فيا أيها المستقبل المجهول ارفع عني الستار الأسود ..سمعنا بالماضي وان لم نره وها نحن أولاء نشاهد الحاضر ولكن من يعرفنا بك ويطلعنا عليك أ أنت مثل الماضي أم أنت تشبه الحاضر أو لا تشبه الاثنين”
ولعل واحدة من أهم مقتضيات كتابة القصة القصيرة على اختلاف فنياتها وأشكالها هي القصدية التي بها تتعالى القصة على الإمتاع والتسلية منشغلة بالنقد والتصوير والتنوير والتشخيص وهذه القصدية هي السبب وراء تعدد صور الواقعية وتنوعها وستظل كذلك تتنوع ما برح السرد يتشكل في وعي القاص ويتبلور عبر إدراك قصدي بواقعه.
والقصة القصيرة لا تنبثق إلا من خضم واقع معيش في شكل تجربة ذاتية قد يشارك ساردها شخصية أو اشخاص يأتي بهم من عوالم ماضية او حاضرة او مستقبلية مستثمرا المخيلة والذاكرة والحلم والتاريخ والتحليل النفسي.
وإذا لم تكن القصة القصيرة في المرحلة التأسيسية رومانسية حالمة هربا من الواقع فان ذلك ما ستؤازرها عليه القصة القصيرة في مراحلها اللاحقة غائصة في الواقعية النقدية تارة والواقعية الاشتراكية تارات اخرى، ملتزمة تيار الوعي ومغادرة له نحو الوصف حتى وقعت في منتصف مرحلتها الثمانينية على عالم ما بعد واقعي ينحاز إلى التاريخ والفنتازيا والاسطرة مبتغية صناعة واقع ايهامي أو افتراضي وهو ما تجسد عند ثلاثة قصاصين تجريبيين عراقيين هم : محمد خضير وجهاد مجيد ومحمود جنداري.







أعلى