عادل الأسطة - عكا : (ثلاثون عاما من الغياب ):

عكا 1 : (ثلاثون عاما من الغياب ):
اليوم، الجمعة، زرت عكا.
آخر مرة زرت عكا كانت في 80 ق20. لا أذكر التاريخ بالضبط.
ما زالت المدينة صامدة في وجه الزمن وما زال العكّيون يبيعون السمك ويركبون البحر.لأول مرة، اليوم، ركبت البحر. كانت مياه الأبيض المتوسط خضراء أو هكذا خيل إلي. ربما بسبب الغيوم وعدم صفاء السماء. حتى حيفا بدت مدينة ضبابية. لم ابصرها جيدا كما يبصرها المرء في الأجواء الصافية.
في عكا تفوح رائحة السمك. أول ما تدخل ألمدينة ترى السمك. وهذا ربما هو ما يميز عكا.
بنايات المدينة لم ترمم منذ عقود.ربما منذ 1948 والكنيسة القريبة من البحر تذوي، فأثر الزمن باد عليها. مثل جامع الجزار وإن بدا أحسن حالا.
تسير على الشاطيء وتنظر إلى مطعم أبو خريستو ، فتتذكر راشد حسين ومحمود درويش ورثاء الثاني للأول. تتذكر قصيدة "كان ما سوف يكون. '.
رثى درويش راشدا وأتى على حياته في عكا. ذكر تردد راشد على مطعم أبو خريستو. من منكم يذكر ما كتبه درويش؟
في جداريته كتب درويش :"عكا أجمل المدن القديمة ".هل كان مصيبا؟ وما معايير الجمال التي قاس الشاعر عليها؟
في 80 ق 20 كنت أتردد على دار الأسوار. نمت في عكا مرتين ثلاث مرات وتجولت في شوارع المدينة التي أتى إميل حبيبي على وصف سراديبها في روايته. في السراديب تخبأ الفلسطينيون الذين لم يطردوا. هل رأيت السراديب؟
تبدو عكا الجميلة مدينة حزينة. المباني هي هي. والشوارع فارغة من المارة إلا اقلهم.
تنظر في السور. تقف على الشاطيء وقد تعود بك الذاكرة إلى 30 عاما خلت.
حجارة المدينة تخبرك عن الزمن والإهمال وغياب الأهل وقانون الأعادي.
عن عكا كتبت أيضا ابنتها حنان باكير. كتبت "أجفان عكا".


في عكا 2 ( محمود درويش ):
تسير كما لو أنك تسير في نابلس القديمة أو في القدس العتيقة.
تتذكر سطر محمود درويش في "جدارية"2000 : "عكا أجمل المدن القديمة " ولا تتساءل كما تتساءل كلما قرأت السطر ولا تدخل في جدل وحوار مع الشاعر.
لتكن اليوم عكا كذلك، وليكن الشاعر اليوم محقا في قوله. لترفع القبعات لعكا ولسكانها وللشاعر أيضا. فيكفي أن أهل المدينة ظلوا صامدين فيها رغم قسوة شروط الحياة. المباني المهجور بعضها مثل الكنيسة والبيوت التي لم ترمم وما زال بعض أهلها ينشرون الملابس في الشوارع والاسوار التي يفعل الزمن وملح البحر وعدم الترميم فعله فيها و..
يقول الشاعر فاروق مواسي: هنا في 60 ق 20 كنا نأتي ونقرأ الصحف: سميح القاسم و زكي درويش وراشد حسين و..و..كنا نجلس في المقهى- يشير إلى مقهى- ونقرأ الاتحاد وغيرها ونتناقش في قضايا أدبية. ويرن سطر محمود درويش في قصيدته "كان ما سوف يكون "في ذهنك :
كان يرمي شِعرَه في مطعم "خريستو "
وعكا كلها تصحو من النوم
وتمشي في المياه
كان أسبوعا من الأرض، ويوما للغزاة
ولأمي أن تقول الآن: آه !"
- وأنا أكتب الآن يرتفع صوت أذان الفجر.(وأنا أكتب من غرفتي في باقة الغربية ظننت نفسي نائما في عكا )
يا لعكا وللمدن القديمة. إن الأذان جزء منها فكيف تبدو هذه المدن بلا أذان الفجر-.
في عكا القديمة وفي شوارعها يلعب الأطفال الكرة وفي عكا وأنت تصغي إلى لهجة أبنائها يتحدثون تتذكر لهجة أهل يافا- مدينتك- ولهجة أهل القدس أيضا. شيء ما. شيء خفي يميز لهجات هذه المدن.


في عكا 3 (حيفا .راشد حسين ):
من عكا نظرتَ إلى حيفا وخاطبتها:
كنتُ أظن أنني سازورك اليوم.
في عكا تساءلتَ تساؤل محمود درويش:
"لماذا نحاول هذا السفر؟
وكل البلاد مرايا
وكل المرايا حجر."
حقا لقد تساءلت وتذكرت وأنا انظر إلى حيفا مجنونيها؛ راشد حسين وأحمد دحبور. قال الأول:
"أتيت الطبّ في نيويورك أطلب منه مستشفى
قالوا: أنت مجنونٌ ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا "
وصدّر الثاني ديوانه "هنا..هناك'1997 بما قاله الأول. كأن أحمد مثل راشد "أمامك جنة الدنيا ولست ترى سوى حيفا ".
للأول الرحمة وللثاني الشفاء.


عكا 4: (سور المدينة والغزاة ):
في عكا، وأنت على سورها، تجد نفسك تكرر قول محمود درويش:
"رأيت فتاة على شاطيء البحر قبل ثلاثين عاما
وقلت:أنا الموج،فابتعدت في التداعي، رأيت
شهيدين يستمعان إلى البحر: عكا تجيء مع الموج
عكا تروح مع الموج .وابتعدا في التداعي".( قصيدة الأرض 1976 ).
وتعود بك الذاكرة إلى ما بعد 1967 حتى 1987.
في تلك السنوات كنت أتردد على عكا؛ أزورها، قبل أن اغدو كاتبا، زائرا، وازورها، حين غدوت كاتبا، لزيارة دار نشر الأسوار لصاحبها يعقوب حجازي وهناك قد ألتقي ببعض الكتاب ومنهم أنطوان شلحت.
على سور المدينة أقف. هل تذكرت نابليون؟ هل تذكرت رواية علاء حليحل "اورفوار عكا"؟.
بدأت أقرأ الرواية وانشغلت عنها ولم اتمم قراءتها. لم أكتب عنها مع أن صورة الفرنسيين فيها لافتة. صورة الجنود القادمين وبصحبتهم النساء للترفيه عنهم. هل أخطأت في العنوان وصححني الشاعر فاروق مواسي؟
كما لو سفن نابليون خرجت فجأة وكما لو انها هزمت من جديد.
غير رواية فلسطينية أتت على عكا. الموضوع يستحق أن يكون موضوع رسالة ماجستير. ساقترحه على طالب ما.الرحلة علمية. لم لا؟


عكا 5 : ( إميل حبيبي ):
في شوارع عكا القديمة وفي جامع الجزار تتذكر رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل "1974
كان إميل حبيبي أتى في الجزء الأول/ الكتاب الأول "يعاد "على ما جرى في العام 1948- أي حين احتلت المدينة وعاد هو متسللا إليها فاختفى، مع من بقوا ولم يهاجروا ، في باحة جامع الجزار وفي سراديب المدينة.
في شوارع عكا القديمة ترى بيوتا تآكلت جدرانها وبدت طوابقها الأرضية مثل سراديب.تماما كما هي بيوت البلدة القديمة في نابلس مع فارق هو أن كثيرا من بيوت البلدة القديمة في نابلس تبدو مهجورة أبوابها مغلقة .
في عكا يصر السكان على عدم ترك البيوت ويتمسكون بها.
بالقرب من الميناء، حيث القوارب تقل السواح في جولة بحرية بيوت مهجورة إلى جانب كنيسة مهجورة.
البيوت بلا أبواب وكذلك الشبابيك، وكما قيل لي فإن الناس ما زالوا يقيمون فيها حتى لا تصادر فيفقد الناس مصدر رزقهم وبيوتهم أيضا.
وأنت تتجول في عكا وتقف على الشاطيء ترى الجمال؛ جمال البحر، وترى البؤس؛ بؤس المباني. يا لهذا التناقض المذهل.
في عكا تعرف لماذا أصر إميل حبيبي على الكتابة على شاهد قبره "باق في حيفا " .هل تجد لبطله سعيد مبررا للتعامل مع الاحتلال مقابل فضيلة البقاء في الوطن، فاضطر أن يموه فتغابى ،وهل عرف بيت الشعر:
ليس الغبي بسيد في قومه
لكنّ سيد قومه المتغابي ؟
وأنت تتجول في عكا وتقف على الشاطيء تتذكر إميل حبيبي وأيامه الأولى في الدولة الجديدة.


عكا 6 : (في عكا تتذكر سميرة عزام):
أول مرة قرأت قصص سميرة عزام كانت في 1977.
كانت دار الأسوار لصاحبها يعقوب حجازي قد أعادت إصدار مجموعات الكاتبة كلها ولم أكن امتلكت الطبعة الأصلية لمجموعة "الساعة والانسان " التي تعد درة قصص الكاتبة التي عدها بعض النقاد العرب أميرة كتاب القصة القصيرة.
في مدينة عكا جرت بعض أحداث قصصها.
هل بحثت عن المكان الذي كان مسرحا لقصة "الخبز والفداء".؟
درست هذه القصة في الجامعة قبل أن تغدو جزءا من المنهاج الفلسطيني.
هناك قاتل العكيون دفاعا عن مدينتهم وهنا استشهدت سعاد وهي تحضر الخبز للمقاومين.
كم نوعا من الغزاة قاوم أهل هذه المدينة؟
جاء الصليبيون وانهزموا وجاء نابليون وبقيت عكا وانهزم وها هم "أبناء العمومة" يكررون تجارب سابقة.
ماتت سميرة عزام بعد هزيمة حزيران 1967. لم يحتمل قلبها رؤية بلادها من قلعة أم قيس في الجانب الأردني. ترى ماذا كان سَيُلمّ بها لو رأت عكا وتجولت في شوارعها؟
في عكا تتذكر سميرة عزام وتتذكر أيضا غسان كنفاني..


عكا 7 : ( غسان كنفاني):
في عكا يحضر غسان كنفاني، لا لأنه كتب عن المدينة، فأنت لا تتذكر عملا أدبيا واحدا لافتا من أعماله أدرج اسم المدينة عنوانا له كما فعل مع حيفا.
خلد كنفاني مدينة حيفا بروايته "عائد إلى حيفا "1969 ولم يخلد المدينة التي ولد فيها. كتب عن حيفا ويافا ولكنه لم يكتب في رواياته الأربعة المكتملة عن عكا.
هل كانت عكا ستكون حاضرة في رواياته الثلاثة الأخيرة غير المكتملة؟
والطريف أن عكا هي من أعادت نشر رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ودراساته، بعد أن أصدرت له دار صلاح الدين رواية "رجال في الشمس ".
هنا ولد غسان كنفاني الذي عاش في يافا ومثله هشام شرابي صاحب "الجمر و الرماد ".
عكا واحدة من المدن الفلسطينية التي كان فيها مدارس درس فيها القادمون إليها ومنهم من قدم من حيفا كما ذكر إميل حبيبي في المتشائل. وأبرز كاتبين فلسطينيين حتى 1972 كانا من المدينة، من عكا .
في عكا تتذكر كنفاني وتتساءل: لماذا حقا لم يكتب رواية عن المدينة من خلال ذاكرة ابيه الذي استقر في يافا ليمارس فيها مهنة المحاماة وليدرس ابنه غسان في مدارسها الخاصة.
هل ستدفعني هذه الزيارة إلى البحث عن حضور عكا في كتابات الكاتب؟
ستحضر عكا في أدبيات أدباء المنفى من خلال ذاكرة الآباء.
وفي عكا تتذكر ثلاثاء ابراهيم طوقان الحمراء.


عكا 8 : ( من سجن عكا):
في شوارع عكا القديمة تقرأ اللافتات. ثمة لافتات تعود إلى فلسطين قبل أن تغدو “إسرائيل”،على الرغم من أن عكا ما زالت عكا.
بقيت عكا في مكانها؛ بقي سورها وبقيت مبانيها وبقي سكانها.هي هي. عكا ظلت عكا ولم تغد ( akko ) وظلت اللغة العربية تجري على ألسنة سكانها،وإن كتبت اللافتات بلغات ثلاثة: العربية والعبرية والانجليزية ولعلني لا أجانب الصواب.
ثمة لافتة عن المكان الذي حوكم فيه الشهداء الثلاثة؛ جمجموم والزير وحجازي.
كما لو أنني أصغي إلى مغني الثورة :"من سجن عكا وطلعت جنازة ".
وهناك مقابل السجن حيث الشهداء الثلاثة أتذكر قصيدة ابراهيم طوقان "الثلاثاء الحمراء " واجدني أردد:
لما ترنح نجمك المنحوس
وترنحت بعرى الحبال رؤوس
ناح الأذان واعول الناقوس
فالليل أكدر والنهار عبوس.
ولم تكن الكنيسة بعيدة عن جامع الجزار ولم يكن الجامع بعيدا عن السجن ومكان الإعدام.
استرجع قصيدة "أبد الصبار "من قصائد محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيدا؟"1995 يقول والد الشاعر لابنه وهما يعبران سياجا من الشوك:
"يا ابني تذكر هنا صلب الإنجليز
أباك على شوك صبارة ليلتين،
ولم يعترف أبدا.سوف تكبر يا
ابني وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديد".
في عكا أروي سيرة الدم فوق الحديد أو أن عكا هي من يروي سيرة الدم فوق الحديد.
وفي المنفى سيواصل الروائيون رواية سيرة الدم فوق الحديد. في عكا تتذكر حنان باكير.


عكا 9 : ( المدينة- الفتاة)
لا أعرف فتاة اسمها عكا ولم التق فتاة اسمها حيفا. هل يختلف أهل يافا عن العكيين والحيفاويين؟.عرفت فتيات اسماهن اهلهن "يافا "،وفي هذا الفصل أدرس فتاة أسماها أهلها يافا على الرغم من أنهم ليسوا لاجئين. والدها يساري.
وعرفت فتيات اسماهن اهلهن "فلسطين ".
في رواية حنان باكير الفلسطينية المقيمة في لبنان حيث لجأ أبوها يريد أبو جابر أن يسمي ابنته باسم عكا، لأنه لا يريد أن ينسى المدينة التي هجر منها. ولكن إحدى نساء العائلة تريد إحياء اسم الجدة أجفان.
هكذا تسمى المولودة "أجفان " ولكن أبو جابر يظل يناديها "عكا"وتكبر الفتاة ويكبر معها الاسم حتى أن "أجفان "ما عادت تحب أن يناديها معارفها إلا باسم عكا. ( أصدقاء عديدون عقبوا موضحين بأن هناك من أسمى ابنته اسم عكا واسم حيفا- حنان باكير- وهناك من أسمى بيسان وهو اسم شاع-فاروق مواسي، وهناك من أسمى ابنه او ابنته كرمل-زيدان رفيق ناصر).
لا يخلو الأدب الفلسطيني من روايات يشكل اسم عكا مكونا من مكونات عنوانها. "أجفان عكا "هو عنوان رواية حنان باكير الوحيدة.
في عكا تتذكر حنان باكير وروايتها وفي عكا تتذكر ذكريات اللاجئين الفلسطينيين الذين أقاموا في صور عن عكا.


عكا 10 : (مدخل عكا):
ما يلفت النظر في مدخل المدينة القديمة،عصر الجمعة، هو بائعو الحلويات. كما لو أن السياحة تشكل مصدرا رئيسيا من مصادر رزق الناس.
يعرض البائعون في مدخل المدينة اصنافا عديدة من الحلوى لا أرى مثلها بهذا الكم في نابلس.
في نابلس، على دوار المدينة، يجلس رجل كبير عرفت أنه معلم متقاعد، يجلس على كرسي ويعرض ثلاثة أصناف من السمسم والفستق وجوز الهند، وأما في عكا فلاحظت آن البائعين يعرضون ما لا يقل عن عشرة أنواع- لولا السكر اللعين لكنت سائحا كريما ولكن ماذا أفعل وقد جعلني السكر بخيلا-.
ينادي البائع عله يعود، مساء، إلى بيته بغلة وفيرة.
تمعن النظر في الحلوى وتحاول أن تستفسر عنها ومعرفة أسمائها و...ولكن ماذا سيقول البائع عنك إن ازعجته ولم تشتر؟
غير بعيد كانت حافلات الضفة الغربية- تحديدا حافلات من جنين- تقف، ولم تكن، وأنت تغادر المدينة، تجد صعوبة في العودة. من عكا إلى جنين ومن هناك إلى نابلس.
هل مر حقا ثلاثون عاما على آخر زياراتك للمدينة ؟
منذ 30 عاما ما زالت عكا عكا وما زال مدخل المدينة على ما كان عليه.


عكا 11: ( الغزاة)
وأنا أقف على سور عكا أمعن النظر في البحر وامواجه تساءلت: ما الذي كان يدفع الغزاة منذ القدم إلى القيام بغزواتهم؟
أنظر في البحر وأتذكر السفن التي كانت تمخر عباب البحر قادمة لاحتلال البلاد. أتصور المقاتلين بأيديهم السيوف أو معهم المنجنيقات أو البنادق والمدافع. حقا بماذا كانوا يفكرون وهم يعرفون أن من نجا من غضب البحر لن ينجو من مقاومة سكان البلاد؟
لماذا لم يتعلم نابليون من الحروب الصليبية ؟ وما الذي دفع البريطانيين الى انتداب بلادنا؟ وبم يشعر البريطانيون الآن وهم يرون ما صرنا إليه؟
في "مديح الظل العالي " أتى محمود درويش على هذا حين كتب عن الفلسطيني الذي ولد قرب البحر وولد من آباء مختلفين بعدد غزاة فلسطين ومن ام فلسطينية .هل تذكرون ماذا قال هو الذي كتب: " تكاثر فينا الغزاة، تناسل فينا الطغاة ".كتب الشاعر :
تفتح الموج القديم: ولدت قرب البحر من ام فلسطينية وأب/ أرامي. ومن ام فلسطينية أاب مؤابي. ومن ام فلسطينية/ وأب اشوري. ومن ام فلسطينية وأب عروبي. ومن ام،/ ومن ام..على حجر يقيد فوقه الرومان أسرى حربهم/ ويحررون جمالهم مني.../أنا الحجر الذي شد البحار إلى قرون اليابسة "
أقف على سور عكا وأتأمل البعيد؛ البعيد تاريخيا والبعيد جغرافيا.
لماذا كان الحمقى يتركون نساءهم وأطفالهم وياتون ليموتوا.
في رواية (جوزيف كونراد )"قلب الظلام "يغادر (كروتزه) لندن إلى افريقيا بحثا عن الذهب آملا أن يعود إلى خطيبته بكمية منه وفي افريقيا ينسى من أجله حياته وخطيبته و..و..ويعود خبرا في تلغراف فقد مات بحثا عن الذهب.
هل تذكرت عيسى العوام؟


عكا 12 : (عيسى العوام):
وأنت على أسوار المدينة تعود بك الذاكرة إلى فترة الحروب الصليبية. حوصرت عكا وكان لا بد من اختراق الحصار.
من القصص الأولى التي كتبتها وأصدرتها في عكا عن منشورات مؤسسة الأسوار 1979 قصة عيسى العوام وكان عنوانها "هل مات العوام غرقا؟ ".
ترتبط عكا بالمقاومة منذ قرون، وكان العوام واحدا من هؤلاء.
هل ما زال العكيون يقاومون؟
في قصة غسان كنفاني "زمن الاشتباك- الصغير يذهب إلى المخيم" من مجموعة "عن الرجال والبنادق" يقول السارد "إن الفضيلة الأولى في زمن الاشتباك هي أن تبقى على قيد الحياة"، واية فضيلة أخرى تأتي بعدها فلا وجود للفضيلة حين لا يكون لك وجود. هنا يمكن أن تشتبك مع كل شيء وهنا يبدو وجودك، مجرد وجودك، مقاومة.
يكفي ان أهل عكا ظلوا صامدين فيها، فما زالت المدينة مدينة عربية بسكانها ولغتها وطعامها وحلوياتها.
سحرتك قصة عيسى العوام منذ تعلمتها في المدارس، وحين غدوت تكتب القصص، وحين كانت هذه تعرض على الرقيب الإسرائيلي ليوافق عليها أو ليمنعها، كان لا بد من البحث في قصص الماضي التي لا يفهمها الرقيب الإسرائيلي ولا يعرف مغزاها. سوف تلهمك فترة الحروب الصليبية وشخصية عيسى العوام.
سترى ،وانت تكتب، في دلال المغربي ورفاقها من الفدائيين امتدادا لعيسى.
في عكا تتذكر عيسى العوام وبداياتك القصصية المتعثرة.


عكا 13 : ( (للبحر أنت تعود مرتبكا):
تتذكر شاطيء عكا. ربما كانت المرة الوحيدة التي سبحت فيها في البحر المتوسط. ها أنت تعود إلى البحر ثانية لتركب السفينة للمرة الأولى. تتذكر الشاعر العراقي سعدي يوسف وأسطره "للبحر أنت تعود مرتبكا/ والعمر تنشره وتطويه/ لو كنت تعرف كل ما فيه/لمشيت فوق مياهه ملكا ".
أعود إلى عكا بعد 30 عاما تقريبا. كم كانت هذه السنوات قاسية وصعبة. مثل كربلاء أحمد دحبور في "العودة إلى كربلاء ":يا كربلاء كم كنت قاسية وصعبة "
يقترح د.ياسين كتانة أن نركب البحر، وهكذا أركب السفينة. من هنا هاجر العكيون في 1948 إلى لبنان.
وأنا في البحر لفت نظري مبنى قديم في المياه. ربما كانت السفن تهتدي به أو ربما كان فنار عكا. لا أدري لماذا لم اسأل عن المبنى. مبنى متداع ولكنه ما زال قائما. مبنى مهجور مثل الكنيسة المهجورة. هل هو الفنار الذي كتب عنه سميح القاسم في قصيدة مبكرة عنوانها "إلى حارس فنار عكا ".يكتب سميح:
ملت شباك الصيد الانتظار!
يا حارس الفنار
......
......
يا حارس الفنار
أنقذ حبال الجار
من قسوة الأمواج والأمطار
تهرأت يا صاحبي... تهرأت
والجار
غدًا يعود ضاحكا..
للصيد والفنار"
هل عاد الجار أم أنه مات في المنفى ومات مثله حارس الفنار؟
أهل عكا ما زالوا يقفون على الشاطيء وما زالوا يملكون البحر؛ شاطيء البحر، وفي قواربهم تصدح الأغاني العربية.
في عكا تتذكر أنك سبحت في البحر المتوسط، وفي عكا تركب البحر لأول مرة في حياتك.


عكا 14: (جامع الجزار):
ما من مرة زرت فيها عكا إلا زرت جامع الجزار. كان الجامع مكانا للعلم والعلماء ولهذا تجد في أطراف ساحته غرفا كان الطلاب يقيمون فيها.
أقيم جامع الجزار قبل 200 عام تقريبا،في الفترة التي حكم فيها أحمد الجزار المدينة بعد أن أعادها للحكم العثماني من ظاهر العمر الذي كتب عنه ابراهيم نصر الله روايته "قناديل ملك الجليل"2012 .
هل كتب الشاعر توفيق زياد قصيدة عن عكا؟
لتوفيق زياد كتابان مهمان في الأدب الشعبي أتى في واحد منهما على قصة أحمد الجزار.
كتب زياد قصة أحمد الجزار هذا تحت عنوان "جزاريات"(صور من الأدب الشعبي الفلسطيني).
وأنا في جامع الجزار لم أفكر في الحاكم. فكرت في عكا مدينة فلسطينية. نسيت الظالم والمظلوم وأنا أتأمل في البناء وفي الصراع الحالي بيننا وبين الإسرائيليين وصار الجزار جزءا من ماضي الوطني.
في كتاب زياد المذكور، وأنت تقرأ قصة أحمد الجزار تقول:"ها هو ستالين قبل ستالين".
لا يختلف ما أورده زياد عن أحمد باشا الجزار عما في ذهني عن (ستالين):جزار واسمه يعطي صورة عنه.
بنى الجزار السور الثاني لعكا على جثث الناس ليصد نابليون واستعان بأهل نابلس ليقاوم الأجنبي، علما بأنه كان حاربهم.
هل كان الجزار شاعرا؟ يشك توفيق زياد في ذلك.
ذهب الجزار واندحر الغزاة وبقي الجامع.


عكا 15: (عوض: ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال ):
لا ينسى الفلسطينيون المقاومون ومن يتعاطف معهم قصيدة فدائي من نابلس اسمه عوض.
تنسى أنت أنه من نابلس ولا تكون متأكدا من السجن الذي سجن فيه وكتب على جدرانه قصيدته في 30ق20 .
استشهد عوض وترك زوجته وزوج زغاليل معها بعد أن باع ذهبها ليشتري بندقية يقاوم فيها الانتداب والاستيطان، وترك لنا قصته في قصيدته التي التفت إليها الشاعر توفيق زياد وغنتها فرقة العاشقين لتشيع بين الفلسطينيين.
وانت في عكا تتذكر القصيدة ولكنك لا تكون متأكدا إن كانت كتبت على جدار سجن المدينة.
تبحث في كتاب زياد ثم في محرك البحث (غوغل) وتخبرك الكاتبة حنان باكير أن عوض كتبها على جدار سجن عكا.
وانت تكتب عن عكا تصغي إلى فرقة العاشقين تنشد القصيدة.يغنيها مغنيها وتجد نفسك تكرر"يا ليل خلي الأسير تا يكمل نواحو ".
كم من مرة كرر الفلسطينيون المقطع الأخير من القصيدة ، ولكنهم...
وأنت تكتب تتابع أخبار مؤتمر القمة وتتذكر نهايات صدام وبن علي والقذافي وبيتي الشاعر العباسي :
" خليفة في قفص
بين وصيف و بغا
يقول ما قالا له
كما تقول الببغا "
هل أخطأ عوض حين كتب: "ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال ".
يا لي من جبان!
.كم من ديوان شعر لشعراء كثر حصلوا على جائزة ولا يتذكر المرء لهم سطرا.
في عكا: هل قرأت الفاتحة على روح شهداء 1929 و 1936-1939 ؟


عكا 16: (البروة):
في الحافلة، في الطريق من باقة الغربية إلى عكا، يقترح بعض الزملاء زيارة البروة قرية الشاعر محمود درويش، في أثناء العودة.
ترحب بالاقتراح فيعقب صديق على ترحيبك: لم يبق هناك سوى أطلال، فتقول:وهذا إنجاز. نقف على الأطلال ونقرأ مقطعا من "طللية البروة ".
ربما قال الصديق هذا ساخرا. ربما. ربما جادا. ربما.
كنت في أحد مقالاتي عن محمود درويش اقترحت أن تدرج هذه القصيدة في المناهج الدراسية ليتعلمها الطلاب.
أعرف من رواية إميل حبيبي " المتشائل " أن القرية سويت، في العام 1948 ، بالأرض. وأعرف من رسائل الشاعر المتبادلة مع الشاعر سميح القاسم أن يهودا من اليمن أقاموا في (كيبوتس يتسعور ) الذي أقيم على انقاضها. لماذا إذن رغبت في زيارتها؟
من المؤكد أنني لن أزورها لزيارة ابناء العمومة القادمين من اليمن- على أساس الدين- أو الأخوة العرب- حسب معيار اللغة الأم لليهود العرب-.ما السبب إذن؟ الوقوف على الأطلال ليعطي د.احسان الديك أستاذ الأدب الجاهلي محاضرة عن ظاهرة الوقوف على الأطلال ام ليقرأ لنا الشاعر فاروق مواسي قصيدة على غرار قصيدة الشاعرة فدوى طوقان "على أبواب يافا يا أحبائي وقفت وقلت للعينين: قفا نبك".
كنت ترغب في زيارة المكان/ البروة لترى بقاياها- إن بقي منها بقايا- ولترى ما أورده الشاعر عنها:"شارع الأسفلت "و "مصنع الألبان الحديث".
هناك تربوي فلسطيني قال إن أفضل وسيلة للتعرف على الوطن ودراسته هي من خلال الأقدام.
ولأنك كتبت مؤخرا عن سيرة الشاعر وليد سيف واتيت على"القمر سقط في البئر " وقارنت بينه وبين محمود درويش و (لوركا) فإنك تمنيت لو تزور البروة ،ولكن...
في كتابه "يوميات الحزن العادي "1973 كتب درويش عن ذهابه من البروة إلى عكا مشيا علي الاقدام ليلحق بامه التي تركته في القرية،وتأخر في العودة فظن أهله أنه سقط في البئر وأخذوا يبحثون عنه في أبار البروة.


عكا 17: (يعقوب حجازي ودار الأسوار ):
تتذكر أول مرة التقيت فيها بيعقوب حجازي صاحب دار الأسوار للنشر.
كنت في 70 ق 20 بدأت أنشر في مجلة "البيادر" وجريدتي "الفجر والشعب" وغدا اسمي معروفا للمهتمين بالأدب من أهل الأرض المحتلة الذين أخذوا ينشرون كتبهم ومنشوراتهم في مطابع مدينة نابلس؛ يعقوب حجازي ومحمد غنايم ومحمود عباسي وكذلك الشعراء فاروق مواسي وأحمد حسين و..و..والتقيت بالثلاثة الاوائل في مطبعتين من المطابع.
كان يعقوب حجازي بدأ يصدر الكتب وأراد تسويقها في نابلس وعرض علي أن أساعده في البحث عن مشتركين وهذا ما قمت به ،فعرضت كتبه على مثقفي نابلس وبعض سياسييها والعاملين في سلك التعليم وهكذا نشات الصلة بيني وبين يعقوب الذي نشر لي أول كتاب في العام 1979 وهو مجموعتي "فصول في توقيع الاتفاقية ".
في تلك الأيام طلب مني يعقوب أن أطلب من فنان تشكيلي رسم لوحات تتناسب والقصص وهكذا طلبت من كامل المغني أن يرسم لي لوحات تتناسب ومحتوى القصص فعرفني بدوره على الرسامة الناشئة نريمان الشنتير التي كانت تدرس الفن مع كامل في جامعة النجاح.
الطريف أن يعقوب نشر القصص في كتابي وفي كتاب علي الخليلي "الكتابة بالأصابع المقيدة ".
في تلك الأيام بدأت أتردد على عكا وعلى دار الأسوار.
في عكا، وأنت في السوق تمعن النظر في المكان علك تجد دار الأسوار وأما يعقوب حجازي فقد اتصل به الشاعر فاروق مواسي لنلتقي به ولكن يعقوب اعتذر عن اللقاء لأنه سيكون في سخنين. من عكا صدر كتابك الأول وسيصدر عن الدار نفسها في 2001 و2002 كتاباك "في مرآة الآخر: استقبال الأدب الفلسطيني في ألمانيا "و"قضايا وظواهر نقدية في الرواية الفلسطينية "وستنشر في مجلة "الأسوار "دراسات عديدة.
ترتبط عكا في ذهنك بالأدب الفلسطيني وبابرز رموزه.


عكا 18: (ما رأته العين ):
تسير في شوارع عكا القديمة فترى ما تراه في نابلس وفي مدننا اكثرها: ترى متسولا عاطلا عن العمل يطلب بعض سجاير أو بعض شواكل، وتصغي إلى بعض معارفه يعنفه لسلوكه هذا كما لو أنه عار على المدينة كلها.(تتذكر رواية ثيودور هرتسل "أرض قديمة- جديدة"1902 وتتذكر اليهود في المنفى والطفل المتسول ديفيد لوتفيك وتتذكر ما شاهده بطل الرواية حين زار القدس. رأى المتسولين في شوارعها)-جعلنا هرتسل شعبا متسولا-.
وأنت تنهي زيارتك إلى المدينة تاركا جامع الجزار الذي دخلت إليه ثانية لتقضي حاجة تسير باتجاه موقف الحافلة وتنظر إلى سورين متقابلين بينهما مساحة من الأرض خضراء. ربما كان العشب عشب ملاعب كرة القدم فثمة خطوط بيض وثمة أطفال يلعبون الكرة. هل صادفت في عكا القديمة وفي شوارعها أطفالا يلعبون الكرة في الأزقة؟
مساء هاديء جميل. ثلاث أربع ساعات مرت. لم تدخل إلى مقهى. مررت بجانب أحد المقاهي فأشار الشاعر فاروق مواسي إلى زمن مضى. لم تدخل إلى مطعم أبو خريستو الذي تناولت فيه مرة وجبة سمك. لم تدخل إلى بيت في المدينة وعبثا نجحت في تحديد البيت الذي أقام فيه يعقوب حجازي في 70ق20. عبثا.هل شاخت الذاكرة؟
وأنت تكتب عن عكا تتمنى لو تنفق فيها شهرا كاملا تجلس يوميا على شاطيء البحر تتأمل البحر ونابليون وظاهر العمر واحمد الجزار. تجلس في مقهى ما في مطعم أبو خريستو. في مسمكة من مسامك المدينة. تدخل إلى الكنيسة المهجورة. تتبع أحاديث العكيين. تنفق ليلة في سراديب المدينة التي كتب عنها إميل حبيبي في المتشائل. تعطي محاضرة في جامع الجزار عن رواية اميل. عن عكا في المدينة. عن.عن.عن.عن.
سلاما عكا وألف سلام.
هل كتبت كل شيء؟!





صفحة الدكتور عادل الأسطة على الفيسبوك:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى