فؤاد زكريا - طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية

يناقش «فوير Feuer» الأسباب التي أدت إلى توقيع عقوبة «الحرم» على اسپينوزا، فيستبعد أن تكون تلك الأسباب دينية فحسب؛ فالاختلافات في المعتقدات اللاهوتية وحدها ليست في نظره تفسيرًا كافيًا لهذا الطرد؛ فقد قدمت إليه رشوة لتغيير موقفه، ولو كانت المسألة خلافًا في العقائد وحدها لما حاولت الطائفة اليهودية تقديم هذه الرشوة إليه. فلا بد إذن أن الأمر كان متعلقًا بأفعال لا بعقائد. وهو يرى أن السبب الحقيقي لهذا الطرد هو نزعة اسپينوزا التحررية في آرائه السياسية الاجتماعية، وهي نزعة تعد خطرًا على الاتجاه المحافظ بين رجال الدين اليهود. «فاسپينوزا كان ذا نزعة عالمية، يحتقر فكرة الشعب المختار. وقد اجتذبته، قبل كل شيء، الآراء الدينية المتحررة، وكانت آراؤه السياسية والاقتصادية مضادة تمامًا لآراء قادة الطائفة اليهودية؛ فقد كان كبار اليهود ذوي نزعة ملكية، مخلصين لأسرة أورانج، وعلى علاقة طيبة بالحزب الكلڨيني، وبحملة أسهم شركتَي الهند الهولندية الشرقية الغربية. أما اسپينوزا فكان جمهوريًّا متحمسًا، من أتباع «يان ديڨيت» … وقد ارتبط بالجماعة السياسية التي دعت إلى فض الشركات التجارية الكبرى، وأعجب بالاقتصاد الجمهوري الذي انتقد الاحتكارات …»٨ ويواصل «فوير» كلامه قائلًا «لقد كانت الأخلاق التجارية متغلغلة في قيم كبار الطائفة اليهودية في أمستردام إلى حد أن أوامر البورصة كانت تقترب في سلطتها من الأوامر الإلهية، بينما كانت شركتا الهند الشرقية والغربية أشبه ما يكونان بالوسائط الإلهية المختارة.»٩ «ولقد كان في وسع قادة يهود أمستردام أن يتسامحوا مع الخلاف اللاهوتي، ولكنهم لم يكونوا قادرين على التسامح مع شخص متحرر سياسيًّا واقتصاديًّا.»١٠ وقد بحث «فوير» بعد ذلك، تبريرًا لرأيه هذا، في تاريخ حياة أفراد المجتمع الديني اليهودي الذي حكم بطرد اسپينوزا، وانتهى إلى أنهم يُمثِّلون مجموعةً من أكبر أثرياء اليهود: منهم كبار حمَلة أسهم شركة الهند الغربية والشرقية، والأعضاء البارزون في بنك أمستردام والبورصة، وكبار تجار البلاد — إلى جانب عدد من رجال الدين المتزمتين بطبيعة الحال.١١
والنتيجة الواضحة التي تُستخلص من هذا التحليل هي أن اسپينوزا لم يُطرد لعقائده وآرائه فحسب، بل طُرد لأن أفكاره الاقتصادية والاجتماعية كانت تهدد المصالح التجارية المسيطرة على يهود أمستردام تهديدًا مباشرًا. وهذا تعليل طريف ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، ولكنه لا يعبِّر عن الحقيقة الكاملة؛ فمع اعترافنا التام بأن اسپينوزا لم يكن ذلك الناسك المنعزل عن مجرى الأحداث في مجتمعه، فلسنا نرى ما يدعو إلى الاعتقاد بأن اسپينوزا قد ساهم بالفعل في حركة عملية من شأنها تهديد مصالح اليهود المالية بالخطر. وحتى كتاباته ذاتها كان أخطر ما فيها هو فلسفتها العامة، وليس ما تتضمنه من آراء اقتصادية أو اجتماعية، ومن الجائز أن اسپينوزا كان في محادثاته الخاصة يعبِّر عن آراء من هذا النوع — بل إن هناك قرائن كثيرة تدل على أن آراءه الخاصة كانت على الأرجح من هذا النوع — ولكن لم تصل هذه الآراء أبدًا، سواء في صورتها النظرية أو من حيث انتقالها إلى الواقع العملي، إلى حد تهديد المصالح القائمة؛ فاسپينوزا بالفعل لم يكن منعزلًا، ولكنه أيضًا لم يكن ثائرًا سياسيًّا أو مصلحًا اقتصاديًّا أو صاحب دعوة عملية إلى تغيير الأوضاع، وطالما أن الأمر قد اقتصر على أفكار خاصة، ولم ينتقل إلى حيز العمل التنظيمي الصريح، بل لم ينعكس على كتاباته ذاتها إلا بطريق غير مباشر إلى حد بعيد، فمن الصعب أن نتصور أن تكون مثل هذه المخاوف الاقتصادية هي سبب طرده من الطائفة اليهودية.
وقد بحث كاتب يهودي آخر في الأسباب التي يُحتمل أن يكون اسپينوزا قد طُرد من أجلها من الطائفة اليهودية في مقال حديث العهد سنورد فيما يلي تلخيصًا له. وقد استند كاتب هذا المقال إلى وثائق عثر عليها حديثًا في إحدى مكتبات مانشستر بإنجلترا.١٢ فقد كشفت هذه الوثائق عن وجود نزاع حاد بين يهود أمستردام في ذلك العصر، حول مسألة خلود العقل. ويستدل المؤلف من هذا النزاع على أن الجو الروحي لليهودي الذي نشأ فيه اسپينوزا كان معاديًا للتفكير الفلسفي، وفي هذا الضوء ينبغي أن يُنظر إلى طرد اسپينوزا.١٣ ويشير المؤلف إلى أن هذه الوثائق عبَّرت بصراحة عن خوف رجال الدين اليهودي من أن يظن المسيحيون أنهم يتهاونون في أركان دينهم. ولم يكن ذلك في الواقع خوفًا من أن يكوِّن المسيحيون رأيًا سيئًا عن اليهود فحسب، بل كان أيضًا خوفًا من أن تتخذ السلطات المسيحية تدابير إيجابية ضد اليهود.١٤
ويشرح مؤلف هذا المقال القانون الأساسي الذي كان مطبقًا في الدولة الهولندية على جميع اليهود، واسمه قانون Remonstrantie، الذي وضعه «جروتيوس» سنة ١٦١٨م، وينص على وجوب اعتراف جميع اليهود البالغين أمام السلطات علنًا بإيمانهم بإله واحد خالق حاكم للكون، تتوجب عبادته، وبموسى والأنبياء، وبحياة أخرى يكافأ فيها المحسن ويعاقَب المسيء. ومن مواد القانون أن كل يهودي ينكر ذلك يكون معرضًا لعقوبة الموت أو العقاب البدني حسب شدة الجريمة. ونص في حيثيات هذه المواد على أن المقصود هو ردع الملحدين الذين كانوا يظهرون من آنٍ لآخر بين صفوف اليهود. ويؤكد كاتب المقال إن السياسة التي كانت مطبقة بالفعل في العهد الجمهوري الذي طُرد فيه اسپينوزا كانت، رغم ذلك، سياسة متسامحة إلى حدٍّ بعيد، ومع ذلك كان الأحبار والربانيون في الطائفة اليهودية متمسكين بنص القانون يخشون أي انحراف عنه. وهكذا يرى أن «المعمد» اليهودي قد حكم على اسپينوزا بالطرد مخالفًا بذلك السياسة المتسامحة الجديدة للحكومة، وليس أدل على ذلك من أن «ديڨيت»، الزعيم الجمهوري، قد منح اسپينوزا معاشًا بعد طرده، وأن الحكومة حرَّمت على المحافل اليهودية ممارسة حق فرض عقوبة «الحرم» بضع سنوات بعد ذلك.١٥
وأخيرًا، يرى كاتب المقال إن السبب الذي أدى مباشرةً إلى الطرد في الوقت الذي حدث فيه، هو أن مسألة إعادة اليهود إلى إنجلترا كانت موضوع بحث في تلك الفترة، وكان «منسي بن إسرائيل»، وهو رئيس المجمع الذي حكم بطرد اسپينوزا، مهتمًّا بنفسه بهذه المسألة، وسافر من أجلها إلى لندن للتفاوض فيها؛ وعلى ذلك «فقد كان من غير المعقول ألا يدرك كبار الطائفة اليهودية في أمستردام التأثير الذي يمكن أن يُحدِثه في إنجلترا تسامحهم مع الفلاسفة المعروفين بالمروق والهرطقة؛ إذ لم تكن إنجلترا في ذلك الوقت متسامحة مثل هولندا مع هؤلاء الناس.»١٦ ويرى كاتب المقال إن هذا العامل قد يكون هو الذي يعلل صمت اسپينوزا فترة طويلة بعد طرده من الطائفة اليهودية؛ إذ إنه لم يكتب «البحث اللاهوتي السياسي» إلا سنة ١٦٧٠م، بعد أن تمت عودة اليهود في إنجلترا واستقرارهم فيها؛١٧ أي إنه لم يشأ أن يزيد الطين بِلَّة بإحراج مركز اليهود الهولنديين أثناء مفاوضاتهم مع الإنجليز.
هذا التعليل المباشر، إذا كان صحيحًا، فإنه لا يُعفي الطائفة اليهودية من تهمة التعصب وضيق الأفق الشديدين، ومن الواضح من المقال الذي لخَّصنا نقاطه الرئيسية أن هذه الطائفة كانت تفوق الدولة الحاكمة ذاتها كثيرًا في التعصب وخنق حرية الفكر، وأنها إذا كانت قد اضطهدت اسپينوزا — وأذلَّت مِن قبله «أورييل داكوستا» حتى دفعته إلى الانتحار — فقد كان ذلك راجعًا إلى مزيج من ضيق الأفق الذي جعلها ترفض أي رأي مخالف، ومن الخوف أو الجبن المفرط الذي جعلها تتوهم أن السلطات الحاكمة ستُحمِّلها جريرة ما يعلنه بعض أفرادها من الآراء المتحررة، فكانت تُسارع إلى التبرؤ منهم خوفًا من أن تحل عليها النقمة، مع أن السلطات الحاكمة ذاتها كانت أوسع منها أفقًا إلى حدٍّ بعيد.
وليس من الظواهر الغريبة أن تعمل سلطة دينية ما على طرد مفكر ذي آراء مخالفة لها من صفوفها. وتغدو هذه الظاهرة أقل غرابة إذا كانت هذه السلطة هي المجامع الدينية اليهودية؛ فهنا تتكرر نفس الظاهرة المألوفة طوال التاريخ اليهودي، وهي مقابلة العداوة الخارجية بالمزيد من التعصب، بدلًا من مقابلتها بالمزيد من التفاهم والسعي إلى القضاء على أسباب العداوة ذاتها. ويصل الأمر إلى حد ممارسة هذا التعصب على أفراد الطائفة ذاتهم لو بدر منهم أي ميل إلى الخروج عن تعاليمهم التي لا يقبلها العقل السليم، وبذلك يمارسون نفس الاضطهاد الذي لا يكفون عن الشكوى منه. وكما قال «فوير»: «فإن المأساة الحقيقية هي أن اليهود المضطهدين قد تشبَّعوا بعناصر من التعصب الذي يتمثل في مضطهديهم، وإن المرء ليمتلَّكه الأمل دائمًا في أن يسلك المظلومون مسلك الأبطال، ولكنه يُصدم إذ يلمس مدى التشابه بينهم وبين من يضطهدونهم، ويدرك حقًّا أن الناس جميعًا على شاكلة واحدة.»١٨
ولكن الظاهرة الغريبة حقًّا هي أن يعمد اليهود في العصور التالية إلى إعادة «تبنِّي» هذا المفكر الذي طردوه من بين صفوفهم، والذي اختلف معهم في الأسس الأولى لعقيدتهم وطريقتهم في الفكر والحياة، وتبرَّأ منهم مثلما تبرَّءوا منه، وغيَّر اسمه اليهودي عمدًا؛ فقد كان الأجدر بهم، في رأيي، أن يظلوا على عدائهم له إلى النهاية، ويأخذوا على عاتقهم مسئولية الصراع الفكري معه مثلما فعلوا ذلك أثناء حياته، طالما أن نفس عقيدتهم، ونفس طريقتهم في الفكر والحياة، ما زالت على ما هي عليه إلى حدٍّ بعيد، ولكن الذي حدث أن اسپينوزا أصبح، في عصر متأخر، وبعد أن «أعيد اكتشافه» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر بوجه خاص، شخصية ضخمة في عالم الفكر — أصبح فيلسوفًا رفيع المكانة، بحيث يكون من المخجل أن يقال إن الطائفة التي كان ينتمي أصلًا إليها قد طردته واضطهدته، وتبرأت منه، وأنه قابل ذلك بموقف مماثل تجاهها، وبحيث يكون مما يُشرف أية طائفة أن يُنسب إليها. وهكذا بدأت فجأة، بعد قرنين من وفاته، لم يحفل به خلالهما اليهود على الإطلاق؛ لأن مكانته في عالم الفلسفة لم تكن قد توطدت بعدُ؛ بدأت محاولة من أغرب المحاولات في تاريخ الفكر، اشتركت فيها مجموعة كبيرة من الشُّراح اليهود، «لإعادة ضم» اسپينوزا، طريد اليهودية، إلى صفوفها، وتحوير فلسفته على أعجب نحو بحيث تغدو في النهاية متأثرة باليهودية ومنتمية إلى تراثها!
وكان لا بُدَّ لتحقيق هذا العرض من التخلص، على نحو ما، من تأثير واقعة طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية. وهكذا عمل اليهود على الإقلال من أهمية هذا الطرد؛ فقال «جبهارت Gebhardt» إن «الحرم» اليهودي يفترق عن الطرد excummunication الكاثوليكي في أن الخير شامل يسري على كل زمان ومكان ما لم يُرفع. أما الأول فهو «محلي» ينطبق على المجتمع الخاص الذي يعيش فيه اليهودي، بحيث إنه إذا انتقل إلى مجتمع آخر فيه طائفة يهودية أخرى، تعيَّن إصدار «حرم» جديد عليه، وأكد أن اسپينوزا خلال السنوات السبع التي عاشها في لاهاي لم يكن محرَّمًا عليه الاختلاط بطائفتها اليهودية، وأن مرور ٢٥٠ عامًا (وقت كتابته هذا الكلام) على وفاة اسپينوزا يجعل ذلك الطرد غير ذي موضوع،١٩ وكان ذلك ردًّا منه على خبر طريف أشار إليه في مستهل مقاله هذا، نشرته صحيفة برلينية، عند الاحتفال بمرور قرنين ونصف على وفاة اسپينوزا (أي سنة ١٩٢٧م)، وقالت فيه إن طرد اسپينوزا ما زال قائمًا، وأن أحبار الطائفة اليهودية في أمستردام لم يرفعوا بعد حكمهم بطرده ولعنتهم عليه، وبذلك يُعد اسپينوزا حتى ذلك الحي طريدًا في نظر الطائفة اليهودية التي حرصت كل الحرص على أن تحتفل بعد هذه الفترة الطويلة بذكراه. وقد تلقفت هذا الخبر الصحافة الأوربية على أنه «فضيحة عالمية» وسخرت كثيرًا من حرص اليهود على الاحتفال بذكرى طريدهم.٢٠
وعلى هذا النحو ذاته يقل باحث يهودي آخر، هو، هو «رخمان Rakhman» من أهمية الطرد، فيقول: «إن هذا الطرد ليس على الإطلاق أمرًا نادرًا بين اليهود، ولا هو بالأمر المخيف بالقدر الذي يصوره به بعض الباحثين في صدد حديثهم عن طرد اسپينوزا؛ ففي التلمود يعاقب على الذنوب الآتية بالطرد: نقد أفعال الرباني (حتى بعد وفاته)، وإطلاق لقب مهين ثابت على صديق، وخرق قواعد الأخلاق الاجتماعية، وإيواء كلب مسعور، والحنث بيمين الله … إلخ.»٢١
وهكذا صوروا الأمر كما لو كانت مسألة الطرد عابرة لا قيمة لها، بل إن بعضهم حاول أن يتجاهل المسألة ويصرف عنها نظر القارئ، ويظهر ذلك بوضوح في كتاب «ليون روث Roth» عن اسپينوزا،٢٢ إذ لم يُشِر فيه إلى واقعة الطرد إلا إشارة عابرة، ولم يحاول على الإطلاق أن يناقش دلالتها بالنسبة إلى ما يقول بوجوده من مؤثرات يهودية في تفكير اسپينوزا.
ومن الطريف أن «بن جوريون» قد ساهم بدوره في عملية الإقلال من أهمية واقعة طرد اسپينوزا من صفوف اليهود، وفي تأكيد انتمائه إليهم بأي ثمن، فقال في رسالة بعث بها إلى مؤلف كتاب «اسپينوزا والديمقراطية الغربية» في ٤ أكتوبر سنة ١٩٥٤م، ونشرت في مقدمة الكتاب: «ربما كان لطرد اسپينوزا ما يبرره في ظروف العصر وذلك المكان … ولكن مثلما أن إدانة المحكمة الأثينية لسقراط لم تجعل من ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم شخصًا غير يوناني، فإن طرد أحبار أمستردام في القرن السابع عشر لاسپينوزا لا يمكن أن يحرم الأمة اليهودية من أعظم مفكريها وأكثرهم أصالة.»٢٣ وهكذا ارتكب بن جوريون — في هذه الحالة أيضًا — مغالطة واضحة عندما قارن بين إدانة سقراط التي لم تصدر إلا عن محكمة مدنية لا عن سلطة دينية، والتي لم تكن مسألة احتفاظ سقراط بجنسيته أو حرمانه منها موضوعًا فيها على الإطلاق، وبين هذا الطرد الديني الذي أعلنته أكبر سلطة يهودية في ذلك الحين، ولعنت فيه اسپينوزا وحرمت كتبه، وظل اسمه يُلعن بعد ذلك في الأوساط اليهودية حتى اتضح أنه «مفكر عظيم»، فانقلب الموقف رأسًا على عقب.
وأخيرًا؛ فقد أشار «ياسپرز» في كتابٍ حديث له إلى تقرُّب إسرائيل إلى اسپينوزا في ذكراه؛ فبعد مرور ثلاثمائة عام على طرد اسپينوزا (أي في سنة ١٩٥٦م)، أرسلت إسرائيل إلى لاهاي حجرًا تذكاريًّا من الجرانيت مُهدًى إلى ذكرى اسپينوزا، وكتبت عليه «أهلُك Dein Volk»، ويعلق ياسپرز على ذلك قائلًا: إن اسپينوزا كان يعجب حقًّا لو علم ذلك؛ إذ لا يستطيع أي شعب أو دولة أن يزعم أن إنسانًا له مكانة اسپينوزا ينتمي إليه وحده، وإنما هو ينتسب إلى الإنسانية جمعاء.٢٤
وهكذا كانت المحاولة تنطوي منذ بدايتها على اتجاه إلى طمس هذه الحقيقة التاريخية الأساسية أو الإقلال من أهميتها، وترمي إلى إرغام العالم على الاعتراف بانتساب اسپينوزا إلى التراث اليهودي، لا لشيء إلا لواقعة عرضية هي مولده لأبوين يهوديين، بينما كانت وقائع حياته، وعناصر فكره، تنطق كلها بابتعاده التام عن هذا التراث. وفي سبيل ذلك قيل إن الطرد الذي عُذِّب من أجله «أورييل داكوستا» حتى انتحر — حادث تافه عارض، وأن تغيير اسپينوزا لاسمه أمر لا قيمة له (بل إن الكثيرين من الشُّراح اليهود ما زالوا يسمونه «باروخ» رغمًا عنه!) وأن إعلانه الانفصال عن اليهودية وإصراره على عدم الرجوع إليها، رغم استخدام سلاحَي الرشوة والتهديد بالقتل (حسب الروايات القديمة عن حياته) كل ذلك لا يحول دون استمرار الحكم عليه بأنه «أعظم مفكري الأمة اليهودية وأكثرهم أصالة»!



.........................
المصدر: كتاب «سبينوزا»ل فؤاد زكريا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى