مقتطف سعيد فرحاوي - سيرة الالم.. أجزاء من رواية

ج1.
حين خرجت من نفسي لأبحث عنها، وجدت نفسي متورطا في حياة لا علاقة لي بها . ببساطة شاءت الظروف ان اكون في محيط خارج البال . طبعا بعد مسيرة طويلة، مرفقة باحلام متعددة. وجدت متاهاتي تجرني الى عالم كله غرابة . كانت الباكالوريا زمنا دراسيا فاصلا لانتقل الى عالم جديد، مغاير في كل شيء، منفصل كليا عن زمن طويل ممتد بتمفصلات مختلفة، قد اقول عنه انه زمن يتلاشى بعد قوة تلازمه وترابطه، وهي احالة جعلتني دائما متعلقا بالزمن بصفته معطى اساسيا في تكويني النفسي، اقول هذا وانا اتحول من طفولة، شكلت مطلق سعادتي، بل مثلت مرحلة غير قابلة للمقارنة مع باقي مراحل حياتي، لانها قطعة من حياتي كنت المس فيها السعادة بحس ملموس، اي كنت ادرك السعادة بحس عميق جدا، كانت تجربة كلها مرح ولعب والتزام بمعطيات شكل فيها رفاق الدرب عمودا اساسيا في تشكلي ككائن مرتبط بجيل له ما يكفي ان يسهم في انتاجي ككائن مستقل عن العالم الخارجي بشكل مطلق، بعدها تجربة المراهقة ومدى تعلقي بفتاة لم ارها من قبل، مجرد امراة عابرة في حياتي جعلتني احبها الى الموت، ثم مرحلة التعليم الثانوي ومدى تعلقي بالكتب بحيوية لا مثيل لها، واخيرا الباكالوريا ببساطة تنضاف الى سجلي التعليمي لانتقل الى الكلية بامل الحصول على الدكتوراة، ولم لا اصبح استاذا جامعيا يحسب له الف حساب في مجال التنظير والتأليف. انتقلت الى مدينة الجديدة وانا كلي تطلعات نحو حياة جديدة، بمسار تعليمي جديد كليا مختلف عن سابقه ، صاحبت مجموعة من الطلبة من ابناء بلدتي، على اساس اننا سنتقاسم حياة مشتركة فيما يخص الترابط المشترك الذي يعني البيت والاكل وما رافق ذلك من لوازم مشتركة تفيدنا ان نتقاسم هذا الهم ، لنعيش وضعية اقتصادية واجتماعية بالتزام جماعي قد يفيدنا ان نتجاوز هموم واقعنا الجديد. فكانت اول عملية تقاسمنا تعبها هو البحث عن غرفة واحدة بثمن ملائم، فكان لنا ذلك لاننا استطعنا ان ندفع ثمن اقامتنا خمسة وسبعون درهما لكل فرد ، وهي عملية مقبولة نسبيا في زمن ابتدأ فيه العداد من الصفر، لتصبح الحياة هنا، برمتها ، عبارة عن مسؤولية شاملة تعني مغامرة جديدة، تكون فيها الخسارة بسبة كبيرة هي السائدة، لان غياب التجارب وتراكمات في نفس الميدان سيجعلنا ضحية اخطاء كثيرة، وذلك ما حصل في عشرة مغتربة بين مجموعة مغتربة في ذاتها قبل ان تغترب في علاقتها المتقاسمة، وعليه لم تطل عشرتنا زمنا لم يتعد ثلاثة شهور، كانت كافية ان نفترق لتعاد الحياة من جديد، باختيار رفيق جديد وتوزيع حياتي جديد، وذلك فعلا ما سيتحقق، الا ان المفيد هنا هو ان العبرة التي وصلت اليها او ان اول رهان استفدت منه، هو ان التجربة الجديدة سترتبط بشخص واحد عوض اربعة اشخاص في المرحلة السابقة، الا ان التضحية الجديدة ستجعلني ارفع من فاتورة الكراء والمعيشة ، وهي عملية جد صعبة بالنسبة لي كطالب وافد من حياة جد عسيرة، اراد ان يستقل بذاته ليعيش واقعا جد صعب في غياب شروط اقتصادية مؤهلة للاستقرار حسب المشيئة المرغوب فيها.


***



رواية : سيرة الالم. ج2.

طبعا اختيارات جديدة بكل المواصفات ستجعلني في علاقات جديدة مع رفيق قديم جديد. هو قديم لانه كانت تجمعني به معرفة سابقة، كان رفيقا لي في حياتي الثانوية، بمؤهلات ، نسبيا مختلفة ، بجودة جد مرتفعة عن علاقاتي الرفاقية السابقة، مما شجعني ان انسلخ عن المجموعة ، المميزة بالعدد، لانها عملية حسابية مفيدة في مجالي الاقتصادي، لكنها مرهقة فيما يخص ترتيبات اخرى ، خاصة منها الجانب التواصلي المعقد والدراسي المختلف، كلها اختيارات جعلتني امام واقع صديق اخر، اعتبرته في هذه المرحلة جديدا في مساري الجدديد. اخترنا باتفاق معا ،غرفة قريبة نوعا ما من الكلية، في حي مكثض بالناس، اي على المستوى الطبقي، مغاير بدرجات مغرية للعيش بمستوى نوعا ما مميز. لكن المثير دائما هو الشرط المالي الغير مسهم على خلق مؤشر معاشي منتظم، مما جعلني في وضع لايحسد علية، خاصة ان المنحة الجامعية الهزيلة لم يحن بعد اجلها، مما جعلني في ترتيبات مشروطة بما التقطته معي من مال لايسعف حتى للعيش ولو ليلة واحدة، فكيف يعقل لطالب شاب قادم من وسط قروي بسيط، برؤية كببرة ، في مجال حضاري جد مختلف، ان يتأقلم مع هذه الشروط المفروضة ، المميزة بمعطيات لم تكن محسوبة جيدا كلها احالات جعلتني في وضع عير مرتب ، نفسيا، و غير مؤهل لي ان اساير ركبا معقدا ، تتحكم فيه عدة مجريات جديدة، علما انني لم اغامر يوما ما ، بان اجد نفسي في تجربة من هذا النوع قد تسعفتي ان اواكب هذا النوع من المغامرات.كلها مؤشرات جعلتني ادرك منذ البداية ان التجربة الجديدة ستكون جد صعبة، وان عمر اربع سنوات، حقبة تعليمي الجامعي، ستكون مسارا جد معقد يصعب التكهن بما سياتي من تصدعات ، كما يجهل الى حدود الان ، هل لي القدرة على مواجهتها ام ان المعركة ستمحي كل هذه التطلعات ، مما سيجعلني اعيش وضعا نفسيا يصعب علي وصفه؟.. كلها حيثيات وضعتني في مازق جد مركب، اهلني ان افسره بمقولة واضحة اساسها: سيكولوجية الانسان الفقير القروي القادم من وسط هش ، له احلام بقرة كبيرة ، وطبيعة اندماجه في المجتمعات المركبة التي تقودها حركة امبريالية لا ترحم في مجتمع غير سوي، تحكمه طبقات غير محترمة؟ كلها معطيات ستفسر ان الرواية ستكون صعبة بدون منازع ولا جدال.!!


***


رواية: الالم سيرة حياة. ج3

لم اكن اعلم ان حياتي في مساري التعليمي كانت مجرد لعبة مليئة بضباب الخيال ، قلت هذا لان اختياراتي كانت عبارة عن متاهات مجهولة ، تغيب فيها كل الشروط المؤهلة لتجعل منها رحلة طبيعية. فكيف يمكن لطالب قادم من وسط غابر غير معروف، يظن ان العالم ينتهي عند مفترق طرق، وان الحياة لا تتعدي بعض الكيلومترات ، ربما لم تتعد امتدادا جغرافيا تتقاسمه قريته كمنطلق، ويتوقف في محيط مدينة الجديدة كهدف بعيد المدى ؟ اي طالب قادم بمشروع كبير ، سينافس به طبقة قاهرة بكل تياراتها.طبعا تحركت السفينة بمجيء صديق جديد من مدينة الدار البيضاء، هو اختار لغة الانجليزية شعبة في مساره التعليمي، لم اكن اعلم ان صاحبي سيفشل وسيعود من حيث اتى، وتتيه الايام وتدور المجاري، فألتقي به يوما في وضع مغاير مطلقا عن ذاك الذي شرحه لي عندما اختارني شريكا له في بيت ومعيشة بكل مصاريفها، هو اختار شعبة الانجليزية ، اما انا فبقيت وفيا للمناهج الحديثة ولغة النحو والنقد بكل مشاربه، اخترت اللغة العربية التي كانت الاقرب الى توجهي. في البداية كنت غبيا لانني لم احترم نصيحة مشهورة وناحجة في قواعد تعليمنا المجيد، قاعدة تقول: سلعتنا ترد الينا، بهذا التوجه بكون النجاح قريبا ، بل مضمونا، اما انا فتهت في كل المراجع والمصادر التي موهني بها الاستاذ عندنا قال بانها ستكون المادة التي نرتكز عليها في ابحاث هذه السنة الجامعية، اقتنعت بان التوجه الجامعي هو بحث دائم ومجهود جبار يجب ان يحترم شرط البحث العلمي، بذلك وجدت نفسي اسير مكتبة الجامعة ادرس فيها ليلا و نهارا، هذه المقررات المقترحة، و التي نبهني إليها استاذي الجديد. النتيجة ، في نهاية السنة وجدت نفسي اجيب عن اسئلة الامتحان بما قراته في المكتبة اما الطلبة الفاهمين قواعد اللعبة اكتفوا بمادة تلاها عليهم الاستاذ، فاستطاعوا اجتياز الامتحان بسهولة ، عكس ما جرى لي، الذي كانت خلاصة اختياري هي الاخفاق، بعدها الصدمة التي لا صدمة مثلها. عشت اعوص مراحل حياتي واصعبها، لم اكن اتوقع نهاية هذا الاختيار المأساوي انه سيقودني الى خلاصة صعب علي استيعابها ، فتحولت الحياة برمتها، من قروي فقير ذهب الى المدينة سعيا منه البحث العلمي الى شارد متسكع منهار ويائس، اي لم اكن ابدا مستعدا لتقبل هذه النتيجة بهذا المنهج الخاطئ الذي موهني به استاذ فاشل اوهمني بكذبة علمية خطيرة، بل لم اكن اعلم ان المراجع التي نبهي اليها هذا الكائن الجامعي كانت خدعة علمية بامتياز ، لانه سأقتنع فيما بعد ان هذا الاستاذ نفسه لم يقرا هذه الكتب التي اثارها في بداية مشواره لهذه السنة الجحيم.!! ، فتحولت الوجهة من حبي العميق للمعرفة الى انسان اخر مغاير كليا عن ذاك الذي صنعته سنه 1988 م، ليكون مسعاي الجديد محصورا في حياة مختلفة بكل المقاييس، مازاد من غرابتي هو عند التقائي بصديق ابن الحي اسمه احمد الشماع الذي سيقنعني بضرورة انجاز جواز السفر والتفكير بجدية في حياة الغربة وبلاد الروم، مع تمويهات اخرى مغرية، ربما ستكون احسن من تلك التي صاحبها موضوع الكراء والسكن والاكل وشراء السجائر، واحيانا اشياء اخرى تبدو ضرورية ، كالمقهى ومرافقة الحبيبة الى الشاطئ وهلم جرا ، كلها معطيات ستحول وجهتي الى عالم الغرب وخاصة ايطاليا بالذات، فأصبحت في موضوع لم يكن مطلقا مطروحا في ذهني ، فلولا رسوبي في السنة الاولى الجامعية والتقائي بهذا الشاب الذي رسم موضوع الاغتراب في ذهني، و جعل من حياتي بوابة في احلام المهجر، لكنت انسانا اخر مختلف عن ما عليه انا الان.




*****

ج4.
الالم سيرة حياة.

هكذا بدأت الحكاية في قصة ممزقة واحلام بائسة. انطلق القطار بسرعة فائقة ليصطدم بجدار قوي ، اعاق المسيرة برمتها.. قلت مع نفسي وانا اشق هذا الاغتراب المفروض :
كيف يمكن لي تقبل هذا الاخفاق ، وانا ذاك المهتم ، الغيور، المتورط، الجاد ، الحالم بغد كله ورود... لا ياحبيببي، انت مجرد انتماء خاطئ ( اخاطب نفسي)، كيف شاءت الظروف ان تتحول من الشمال لتجد نفسك في رحلة الى الجنوب، او كبف انتقلت من التيه لتجد نفسك في واقع البث.
فاقتنعت ، انها نهاية طبيعية في واقع غير طبيعي. تهيأت بما يكفي لحياة جديدة ، ولواقع جديد، انتهزت منحة اخر السنة، فصرت اغامر في مسيرة ادارية معقدة هي الاخرى، انها دوامة جواز السفر في مرحلة الثمانينيات، وكأنك تبحث عن روحك الساقطة في مستنقع بلا ضوابط، مدة ليست بعسيرة وانا اتهيأ لانجاز هذه الوثيقة المتاهة، فكان لي مااريد بعد معاناة ليست بسهلة. وانا اشتغل للانتقال لعالم جديد، طبعا سيرافقني نفس الدوامة اشخاص جدد لهم نفس الحلم، مما اهلني ان التقي برفيق يشاركني نفس الرغبة. كان رجلا في سن الثلانينيات، شاب حاصل على شهادة الباكالوريا ، شعبة العلوم الرياضية، توفت امه فوجد نفسه في بيت تتحكم فيه زوجة ابيه وتسيره بطريقتها، اما ابوه كان يمتهن سياقة طاكسي بلا اوراق، اي سيارة تمتهن حرفة تخترق القانون وهو مايعرف عندنا بالخطاف، من قبل كان عسكريا ، بعد تقاعده حول الوجهة نحو هذه المنهنة ليساعد ابناءه لاجتياز ظروف جد صعبة، وهي احالات ستدفع بالابن سي محمد ان يقرر مثلي اختيار ايطاليا وبلاد الغربة كحل لتجاوز الماسي الاجتماعية الجد خطيرة. اتفقنا معا في البداية ان نرحل الى ليبيا بصفتها الاقرب الى اموالنا القليلة، نشتغل هناك بعض الشهور ، وبعدها نحول الوجهة الى ايطاليا باعتبار عامل القرب المكاني سيساعدنا على تجاوز المحنة الحالية.
في صباح باكر ، انطلقت الحافلة اتجاه مدينة الرباط، ومن هذا الاخير سنتمتطي القطار الى وجدة، هناك اصحاب العربات الصغيرة الذين عبرهم سنكون في طرابلس . هناك في سوق الثلاثاء، يجتمع الاف الغرباء من كافة بقاع افريقيا الممزقة، اجناس مختلفة، مجموعة مشردة مثلنا ، تجتمع في سوق تاريخي، هو كذلك لاننا كنا نبيع فيه السراويل وبعض الالبسة، كما كنا نتمطي الارض فراشا في الليل ، زهاء اربعة شهور تقريبا . فاصبحت الرحلة ممتدة في عروقي بعناصرها الكاملة. شاب يتحول من مدينة جامعية ، فيها رولان بارت وجوليا كريستيفا وتودوروف وعناصر اخرى يشكلون احلاما لطالب يسعى ان يكون يوماما باحثا بدرجات رفيعة المستوى الى متسكع يفترش الارض ويعاشر كل الفارين من القارة السوداء الساعين هم الاخرون الانتقال من طرابلس ليدخلون ارض الحلم ، حيث الفتيات الشقراوات الجميلات والسيارة الفارهة والغنى التام، اي شاب يجد نفسه في حلم كابوس بكل المواصفات. وهي كلها متاهات تعني حياة مواطن من الدرجة الحضيض يسعى ان يكون انسانا ومواطنا منتجا، لكنه سيصطدم بتعفنات تاريخية ، جاءت خارج الحسبان. ببساطة ادركت انني اعيش مرخلة الوعي الشقي ، ودوامة التمزقات.او بصورة ادق، فهمت جيدا اسرار اللبعة بكل مكوناتها، منها ان القادم لن يكون بأحسن.



******

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى