هيفاء بيطار - ثورة

"الكذب دين العبيد، والحقيقة هي إله الإنسان الحر".
التقطت عيناه تلك العبارة التي كتبها في دفتر مذكراته منذ عشرين عاماً تقريباً!
كان من عادته أن يكتب عبارات أثّرت به وأثارت إعجابه، ولم يعرف من كتب هذه الجملة الرائعة ومن أيّ كتاب اقتطعها، لكنه انتبه بعد أن تمغنطت عيناه بتلك الكلمات التي أحدثت زلزالاً في روحه، أن اسماً صغيراً باهتاً مكتوب بين قوسين بجانب تلك العبارة، حدّق في الاسم فعرف أن تلك الجملة هي لغوركي.
أصابته تلك العبارة بالقشعريرة، واشتعل الهوى ذاته الذي يأسره منذ أشهر، هوى أكال لم تنفع معه كل محاولاته للجم مشاعره، وكل نصائح أصدقائه، هوى أيقظ في ذاكرته ذلك اليوم البعيد يوم أصيبت يداه بنوع من الأكزيما جعلته يهرش راحتيه بوحشية حتى يسيل منهما الدم، وكيف كانت أمّه ترجوه باكية أن يتوقف عن الهرش فكان يقول ببراءة طفل: لا أستطيع، جلدي يحكني بشدة.
كان في التاسعة من عمره حين عانى من تلك الهجمة الشرسة من الأكزيما، والتي جعلته يتنقل بين عديد من الأطباء حتى شفي تماماً حين ابتسم له أحد الأطباء وقال: سوف تشفى دون دواء، هكذا من تلقاء نفسها.. هل كانت فكرة الطبيب أشبه بنبوءة لأنه لم تمرّ أيام حتى استيقظ دون ذلك الشعور الأكال بالحكاك.
“الحقيقة هي إله الإنسان الحر”، رحمك الله يا غوركي، كيف استطعت أن تجسد حقيقة الحقيقة، كان منفعلاً إلى حد أنه لم يلحظ أن أنفاسه صارت عميقة ومتلاحقة، وأن ملامح وجهه صارت مشدودة بلهفة الهوى المشتعل في قلبه منذ أشهر، إنه الآن في التاسعة والخمسين، كاتب، وزوج، وأب، وأخ، وصديق، وشريك في معمل لصابون الغار.. وعَبد..
شعر أن دمه يسبب له الألم، وجلده يسبب له الألم، وكل أعضائه تسبب له الألم، لأنها كلها تنطق بالحقيقة أنه عَبد، وبأن كل مظاهر الرفاهية والاستقرار في حياته ليست سوى زيف، وكل محبة أصدقائه وأولاده وزوجته ومعارفه له، لا يعني له شيئاً لأنه عَبد.. لا يجرؤ على النطق بالحقيقة، يشعر بذلك السجن الدائم في أعماق روحه طول الوقت..
لكنه الآن اتخذ قراره، سوف يكتب عدة صفحات، وينشرها ويقرأها بصوت عال سوف يفجّر حنجرته من حباله الصوتية التي تعتقل صوت الحق، ما عاد قادراً ولا بأيّ شكل من الأشكال أن يلجم ذلك الهوى الذي يُصادره، ولا يمكنه إنكار أن الله أعطاه الإشارة ليبدأ بتحقيق إنسانيته، وينطق بالحقيقة التي ستحوّله من عبد إلى إنسان حرّ.
ما معنى ألا يسقط نظره إلا على تلك العبارة البليغة لغوركي من بين آلاف العبارات التي كتبها! ما معنى أن يقلب دفتر مذكراته الضخم والذي اصفرّت صفحاته التي تزيد عن الخمسمئة ولا تلتقط عيناه إلا تلك العبارة!
خفق دمه في موجات من الحماسة ونظر بعفوية إلى ساعته كما لو أنه يدشن لحظة الحقيقة، اللحظة التي سيحوّل نفسه فيها من عبد إلى إنسان حر.
التمعت بذاكرته أغلفة كتبه التي طبعت مراراً وتكراراً، أحس بالقرف وهو يدرك أنه تعامل مع الحياة كمادة للكتابة، وبأنه لم يغمس يده يوماً في لحم الكون، كان يشعر أنه مراوغ، كتابته ذكية وشيقة وتعكس ثقافة واسعة، لكن ينقصها شيء جوهري هو الخلق، كان يعي وهو يمسك القلم ويكتب صفحات، ويدفع ما يكتبه للطباعة مدى خوفه وحذره من أناس يمسكونه من رقبته بأصابعهم الغليظة، ويحوّلون حبال حنجرته إلى حبال لاعتقال صوت الحق، ومع كل كتاب صدر له، ورغم النجاح الذي حققه فإنه لم يكن بقادر أن يهرب من مشاعر القرف في داخله.. كان يعاني من قرف عميق من نفسه ولم يكن يعرف سبب قرفه هذا خاصة في اللحظات التي يتلقى فيها كل التقدير والإعجاب والاحترام.. الآن أدرك، أنه يعيش لحظة التحول من عبد إلى إنسان حرّ، أدرك أن الخوف هو سبب قرفه من نفسه.
منذ بداية ثورة الكرامة عند الشعوب العربية وهو يعاني من حالات نفسية وعصبية غريبة، كما لو أنه يُنسف من جذوره، حتى أنه كان يخجل من تلك الحالة التي لا تليق بعمر الوقار والحكمة، وهي حالة دائمة من أحلام اليقظة، كانت أحلام مباغتة كهبات من النسيم العليل، تصوره خارجاً في مظاهرات ضد الفساد والاستبداد والقمع، وهو يصرخ بملء حنجرته وصوته يلتحم مع صوت الملايين المُهمّشة والمظلومة، كانت عيناه تدمعان من الوجد والهوى والشغف بكل تلك الكلمات التي كانت أشبه بجثّة وقامت من بين الأموات، تدحرجت الصخرة عن قبر الكلمات واشتعلت الكلمات بنار الثورة، الحرية، الكرامة، العدالة، المساواة، الحق، يا للفعل المزلزل لكلمة مؤلفة من حرفين فقط، (الحاء والقاف)، يشعر أن الحرفين يلتحمان في حنجرته فقط، وحناجر التواقين للكرامة والحرية..
يريد أن يصرخ بصوت الحق، ثم يموت.. كان يشعر أنه يكافح كفاحاً شاقاً حتى وهو جالس في المقهى يدخن سيجارة تلو سيجارة، يشعر أن حبالاً ثخينة تثبته بالأرض وهو يريد تقطيعها، كان مشوشاً بولادة جديدة جاءت متأخرة نصف قرن، كان عليه أن يتعرّف نفسه الجديدة، أدهشه عمق التغيرات التي أصابته، كان رجلاً لا يحلم، فصار كل ليلة يبصر حلماً واحداً يتكرر بصور مختلفة، حلمٌ يعني أنه يتوق أن يكون الرجل الذي تمنى طول حياته أن يكونه، رجل حرٌ..
كان يعيش وسط مناخ دائم من الذعر موهما نفسه أنه رجل عاقل تهمه مصلحة أولاده وسلامتهم، لم يكن هو نفسه مستعدا أن يُقتل أو يسجن بسبب حفنة أفكار! كان يرى وحشية الاستبداد وهو ينقل ذاكرته من مفكر إلى مفكر سجنوا وعذبوا بسبب أفكارهم، ليعترف أنه ما كان قادراً على دفع الثمن الباهظ لحرية الفكر؟ هل يُعقل أن يدفع من عمره سنوات مقابل فكرة؟ أيّ تهور هذا؟ لكنه بأعماقه كان يعاني عذاباً لا يوصف، عذاباً يصل إلى درجة الأنين من ألم الروح التي تعرف أيّ ذل وعبودية هو الصمت.. كان يشعر أن روحه تركع إكباراً وتقديراً واحتراماً لهؤلاء الذين ارتضوا أن يدفعوا ثمن الكرامة والحرية بدلاً عنه وعن أمثاله..
كان يشعر أنه مدين لهم وأنه صغير وتافه وضئيل مقارنة بهم، كان أحد معتقلي الرأي من أعز أصدقائه وقد سُجن لسنوات بسبب مقال، مقال لا يتجاوز المئتي كلمة، دفع ثمنه خمس سنوات في السجن.. كان دائم التفكير بصديقه المفكر المعتقل، لم يكن قادر أن يبعده عن فكره للحظة، يشعر بالقرف من نفسه وهو يأكل ألذّ الطعام، إذ يتخيل المفكر في السجن مع أكثر من عشرين سجينا كلهم ارتكبوا جرائم قتل، فيقول لنفسه: أيّ بلدٍ تسجن مثقفيها مع المجرمين! لكنه يتابع التهام طعامه اللذيذ الصحي، ومشاعر القرف من نفسه تتعاظم، كما لو أنه يبتلع قرفه من نفسه مع كل لقمة..
حتى وهو يقود سيارته، كان يفكر بصديقه المُعتقل بسبب مقال، فيحسّ بوجع فظيع في كل أنحاء جسده، ويشعر أنه يُصفع عن بُعد، صفعات مدوية تهرس وجنتيه، وبأنه يركع دون أن يركع، لأن روحه راكعة وعبدة، لم يكن واهماً، فقد ثارت روحه، وفي أعماقه ثورة حقيقية، سوف يكتب بضعة صفحات فقط، لن تعنيه اللغة، ولا الصياغة الجميلة لأفكاره، سيكتب مجرد حقائق عاينها وعاش في قلبها، وباختصار بل باختصار شديد سيحكي عن تامر، طالب الإعدادية الذي لم يكمل الرابعة عشرة من عمره، خرج مظاهرة يطالب بالحرية، وبإسقاط النظام، كان سعيداً أنه يهتف ويغني أغاني وطنية حماسية، ويشعر طول الوقت أنه انتقم من الطالب الثري، والذي يتباهى أن والده أحد أهم ضباط الأمن في المدينة، والذي حين ركله في الباحة لم يرضَ أن يعامله بالمثل، فشكاه للمدير لكن المدير لم يجرؤ أن يوجّه كلمة لابن ضابط الأمن.
الجرح البليغ الذي أحسه تامر لم يلتئم، ولم يدافع عنه أحد، حتى أمّه رجته أن ينسى تلك الركلة، لكنه صرخ وهو يبكي خزياً وغضباً، الركلة ليست في خاصرتي بل في روحي يا أمّي.
اعتقل تامر مع ثلة من زملائه وعذب بوحشية، ولكن أكثر ما روعه حين وصلوا الكهرباء بعضوه، وهم يطلقون الشتائم الفاحشة على أمّه وأخته، كان يصعق من الألم ويبكي وهو يرجوهم ألا يقربوا منه الكهرباء، ثم أحضروا كماشات حديد، وسحقوا حلمتيه.. وبعد أسبوعين خرج من المعتقل (وهو مدرسة قديمة) حطاماً.. مذعوراً من الحياة، مروعاً وأسيراً لذهول طاغ..
كان يعرفه، طالما حمله بين ذراعيه وهو طفل.. ولم يجرؤ أن يكتب عنه، كل ما استطاعه أن جلب له الكثير من الهدايا وحاول مؤاساته، لكن تامر لم يشكره على الهدايا ولم يتحدث إليه بكلمة، بل ظلّ يرمقه بنظرات باردة مبطنة باحتقار، فهم من والد تامر أنهم هددوه أن يلتزم الصمت وإلا سيعتقلونه مجدداً إذا تكلم..
لم يستطع أن يتهرب من عينا تامر المُعتمتان بالألم ونظرة الاحتقار له، كما لو أنه يحمّله مسؤولية ما جرى له، نظرة تعني لماذا لم تكتب عنّي يا حضرة الكاتب العبد؟
كان يحتاج أن يتحدث عن رغبته بالكتابة عن تامر وأمثاله إلى أصدقائه، الذين استمعوا إليه بمحبة ونصحوه ألا يتهور وهو في عمر الحكمة، وأن الفوضى والانفلات الأمني الذي ترزح تحته البلد خطير، وبأنه قد يدفع حياته ثمن مقال لن يقدّم ولن يؤخر.. كانوا يحبونه حقاً وحريصين عليه، وكان يعتقد أو يجبر نفسه على الاعتقاد أنه اقتنع بحبهم، لكن سرعان ما يعود ذلك الهوى الأكال، يهرش راحته ليكتب، هوى أشد شراسة من تلك الأكزيما التي عانى منها وهو في التاسعة من عمره..
لم يعد القرار بيده، هذا ما أدركه بعد صراع طويل مع نفسه، لم يعد بمقدوره لجم الثورة التي أعلنتها عليه روحه، كل شيء صار مختلفاً، حتى شعاع الصباح الذي ينتظره بلهفة صار يحسه مختلفاً، صار الضوء رذاذاً من الأمل، يحس الضوء يشبهه، يصارع مثله ليبدد الظلمة.. لا يمكن لإنسان عاشت روحه في الظلمات أن يخنق شعاع الأمل حين يشق حُجب الخوف والذل المعششة في روحه..
سيكتب عن العمال الثمانية في معمل الصابون، الذين استقالوا وذهبوا ليوقعوا عقوداً كشبيحة لدى أحد أهم زعماء الشبيحة، الرجل الذي خرج من القاع، وصار مليارديراً خلال سنوات قليلة، لم يخجل هؤلاء العمال أن يعلموه عن سبب تركهم معمل الصابون، قالوا له: ما يدفعه لنا في اليوم تدفعه أنت في الشهر؟
تأمل وجوههم مبهوراً من سطوة الاستبداد، وبلحظة ذابت سنوات المودة والمحبة بينه وبينهم، ونسي أسماءهم، صاروا الشبيحة.
سيكتب عن أمير أيضاً المجنّد الذي قـُتل برصاص عصابة مسلحة؟ مَن تلك العصابات التي تقتل الناس والمجندين وتروع الأهل منذ أشهر؟ لماذا لم يقبضوا على هذه العصابات..
سيكتب، ما عاد بإمكانه إيقاف ذلك الهوى، كتب ثلاث صفحات، أحس بشعور غريب جعله يضحك من قلبه، كما لو أنه يتذوق طعماً رائعاً لم يتذوقه من قبل.. كانت سبابته ترتعش على زر إرسال في الكمبيوتر المحمول، بضغطة خفيفة من سبابته ستتحول كلماته المتعمدة بالكرامة والحرية إلى سرب من الفراشات الملونة المتباهية بجمالها والتي تشعر أنها تملك السماء والأزهار والأشجار.. إنه على الحافة، حافة الحرية، وبعدها فضاء رحب أو هوة عميقة، لا يهم، لقد دشن معموديته في تلك اللحظة التي ضغط فيها على زر إرسال، وتأمل المستطيل النحيل يمتلئ بالأخضر تدريجياً علامة الإرسال، شعر بصعقة كهربائية حين ضغط زر الإرسال، شعر تماماً، كيف فغر فاه مشدوهاً مما أقدم عليه وهو على عتبة عقده السادس، لكنه رأى بعينيه المكافحتين للتشبث بنور الحق، رأى -غير واهم- ذلك الضباب الذي خرج من جوفه، خرج على دفعات من فمه، ضباب الخوف، يا لكثافته لم يخرج من أعماقه فقط، بل من أعماق سحيقة عمرها مئات السنين، ضباب نتن الرائحة وداكن، صار الخوف خارجه، خارجه تماماً، لقد تصالح أخيراً مع نفسه وشعر أنه بقامة صديقه سجين الرأي، نجح لأول مرة في تخيل نفسه أنه بقامته، وتذكر بشفقة كيف كان كلما حاول تذكره يفرز خياله صورة المثقف السجين عملاقاً، وهو ضئيلاً كعقلة الأصبع، وكل محاولاته ليفرز صورته بقامة صديقه تفشل..
نجح الإرسال، الآن يحق له أن يفخر بنفسه وما كتبه، شعر أنه ودّع شخصاً عرفه منذ عقود، ودّع نفسه وولد حراً.. وفيما هو يستدير مغادراً مكتبه أحس بوخزة ألم حارقة في صدغه، تحسس نقطة الألم ففوجئ بتدفق سائل لزج ساخن من فوهة صغيرة… وانتبه لنقاط الدم تملأ قميصه الأبيض وترسم عليه حقلاً من شقائق النعمان..
غام نظره، وضحك متسائلاً إن كان بإمكان هؤلاء الذين عبثوا بحياته وكرامته أن يوجهوا له رصاصة عبر شاشة الكمبيوتر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى