محمد نور الدين أفاية - بحث دائم عن المعنى.. الحداثة وتجاوز دينامية الخلط

أحسب أن تناول موضوع الحداثة يتطلّب التساؤل عن موقع التفكير والفكر في مختلف حقول الممارسات الثقافية في العالم العربي. ذلك أن المثقف العصري في تاريخنا الثقافي ظاهرة لها وجود مُعلّق؛ بحكم أن مجتمعنا، باعتباره سؤالاً ثقافياً وحتى فنياً وجد نفسه، وما يزال بأشكال مختلفة، محاصراً ببنية ثقافية تستبعد المغامرة الإبداعية أو تتبرّم منها وتعترف، في الغالب الأعم، بما يمجّد التكرار وينخرط في المعايير والنماذج التي تستريح لما يكفل إعادة الإنتاج والاطمئنان إلى المألوف. لذلك يلاحظ أغلبية الباحثين والمفكّرين القوة الهائلة التي امتلكتها وتمتلكها الثقافة الأصولية والقدرة التي تحوزها على الاستمرارية والتجدد، بحيث تستطيع، في كل مرة، تغليب الماضي على الحاضر. وهذا ما ولّد «ثقافة نخبوية ذات بنية استنساخية»، ومخيلة تكرارية (على عكس المخيلة الإبداعية)، بل وحين نعثر على نزوعات فكرية وإبداعية تحتفل بالذات، حتى ولو كانت بطيئة وغير ذات مفعول كبير في الوجدان والوعي، فإنها غالباً ما تضيع في خضم التقليد الجارف أو تجد نفسها «تتفاوض» على مقاييسها ومبادئها، بل وعلى لغتها وخيالها.
محاصرة المخيلة الابتكارية
لقد تحركت محاولات متنوعة طيلة عقود القرن الماضي وبدايات هذا القرن، حيث انطلقت حركة التأليف في تاريخ الأفكار والرواية، والشعر الحديث، والنقد، والمسرح، والتشكيل والسينما.. وعملت نخبة «تنويرية» على التعبير عن نوع من «الذاتية في بحثها عن الإثبات» والاعتراف، متشوفة إلى الرقي والنهضة. غير أن هذه النزوعات تعرضت وتتعرض للإجهاض والتشويش بسبب مختلف أشكال العنف والاستبداد المقنّع بالتقليد. وأعتبر أن الحرب التي خيضت ضد النزعات التحديثية التي عبّر عنها عدد لا بأس به من المثقفين والمبدعين، ما زلنا نؤدي بسببها ثمناً باهظاً إلى اليوم. لأنه لا مجال لتصور الإبداع من دون اعتباره تبرماً من الممنوعات التي تسحق، بشكل واعٍ أو لا واعٍ، الروح الإبداعية.
ولأن المجتمعات العربية أضاعت فرصاً تاريخية لبناء ذاتية مبدعة، فإننا نلحظ، اليوم، كيف استأسدت الاتجاهات الداعية إلى منع التفكير والفن والإبداع، والحد من التفكير العقلاني، ومحاصرة المخيلة الابتكارية. ولاشك في أنه منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي شهدت مقدمات ومقومات حركية فكرية عصرية لافتة و«محاولات سردية وخيالية» جديدة، وأشكالاً متجددة في الكتابة، في الفلسفة والرواية والشعر والسينما والموسيقا والنقد... حيث برز جيل جديد مبتكر من المثقفين والباحثين، كما انخرطت النساء في معمعة الكتابة والتأليف في عالم كان حكراً على الذكور؛ وتمكنّ من تفجير غضبهن وقلقهن ومكبوتاتهن التي تراكمت مع الزمن، وجثمت على عقولهن وأجسادهن، واخترن فعل الإدانة لمختلف أشكال القهر، بالكتابة والخيال والإبداع.
أفق فكري مُبدع
لا جدال في أن المثقفين العرب دخلوا، بالفعل وبالرغم من كل أشكال الارتكاس والتقليد، في أفق فكري مُبدع، يمثله جيلان من المفكرين والكتاب والمبدعين، مستلهمين، في ذلك، مرجعيات الفكر النظري المعاصر، ومنخرطين، كل حسب اختياراته الفكرية، في معمعة التفكير والسؤال والكتابة، بل وفي مواجهة تمظهرات الحداثة الفكرية من خلال استحضار جملة تحولات تهمّ كيفيات التفكير في مهام الفكر ذاته، سواء تعلّق الأمر بالتفكير في المجتمع وفي تعقيدات الروابط الاجتماعية وفي قضايا الدولة، وفي العائلة وما تفترضه من أسئلة تهم القرابة، والحب، والحياة الحميمية، أو الاهتمام بالصحة، وما تتطلّبه من إعادة النظر في العلاقة بالجسد، والحياة، والهشاشة؛ بحيث إن الفرد الحالي أصبح يتقدّم من خلال وجهين متعارضين: الفرد العقلاني، القوي، الكفؤ، وأحياناً السعيد، والوجه الضعيف، الهشّ، الضحية. وهو ما يقتضي التساؤل عن معنى النضج، ومعنى الشباب، والاستقلال الذاتي، وأين يبدأ وأين وكيف ينتهي؟
من جهة أخرى، استلزم التساؤل عن إمكانية استدعاء الحداثة إعادة التفكير في التراث وفي المظاهر المتشددة والقاتلة؟ وكيف نفهم الميولات المختلفة التي تتحرّك من أجل انتزاع الاعتراف بمقومات الانتماء لزمن العالم، سواء تعلق الأمر بالمعرفة، بالنساء، أو العمال، أو الشباب، وما يضمره غياب هذا الاعتراف من احتقان سيكولوجي في العلاقات الاجتماعية، كما هو الشأن بالنسبة لفئات تبدو في عرف المجتمع «غير نافعة» Inutiles مثل العاطلين، وسكان مدن الصفيح، والمرضى، والمهاجرين، أو المهجّرين، والفئات في وضعية إعاقة، وغيرها من الأوجه المأساوية التي يدرجها البعض ضمن الفئات «غير النافعة». وهو ما يطرح على العقل الإنساني التفكير في حلول لمسألة الفوارق، وإلى ابتكار أنماط جديدة للعمل، بسبب الأزمات الاقتصادية.
ثم كيف يمكن أن نفكّر اليوم في العنف، وفي الأجيال الجديدة للحروب غير المتكافئة، حيث تتواجه فيها دول قوية مع دول ضعيفة، ولكنها، على رغم ضعفها تمتلك سلاحاً قوياً يتمثل في «الحافز الإيديولوجي»؟
هذا فضلاً عن قضايا أخرى لا مجال لاستبعادها ونحن نتطلع إلى الاقتراب من موضوع الحداثة، عندنا، من قبيل الثورة الرقمية، والترانزيمانيزم (والإنسان المستزاد)، والتحديات الإيكولوجية، وما تضمره من شك في قدرة التقنيات على حلّ المشكلات، أو إعادة النظر في موقع الإنسان في المجتمع والطبيعة؛ إذ لم يعد من الممكن التفكير في المجتمع اعتماداً على اعتبارات ثقافية فقط، وإنما يتعين إعادة النظر في أمور تتعلّق بالوجود، وبالقانون، وبالديمقراطية، وغيرها.
تداخل الأسطوري والواقعي
الظاهر أن مصطلح الحداثة، بسبب التضخّم الفكري والسياسي، أو الاحتقان الإيديولوجي المتساوق معها، كما هو الحال في بلداننا، حيث يتداخل فيها الأسطوري بالواقعي، ولاسيما أنها، كما يقول جان بودريار: «مفهوم ملتبس يحيل على تطور تاريخي، وعلى تغيير في الذهنيات». (1)
ليس هناك معنى واحد ووحيد للحداثة، لسبب أساسي، كما يعتبر «هنري ميشونيك»، وهو أن الحداثة هي ذاتها بحث دائم عن المعنى. وعلاوة على ذلك يواجه المرء تحدّي تنوع المرجعيات، وتعدد سياقات استعمال مصطلح «حداثة»، علماً بأنها اخترقت كل الحدود الوطنية والتخصصية.
وعلى الرغم من كون أغلب الفلاسفة والمفكرين يرون أن العقل هو «الحجة النقدية» التي تؤسس تصورهم؛ فإن بعضهم نظر إلى الذات الإنسانية بوصفها ذاتاً منقسمة، مشروخة، وخاضعة، بالرغم منها، لعوامل لا يستطيع العقل التحكم في تأثيرها، منها ما يعود إلى اللاوعي والمتخيل، أو إلى لعبة اللغة والبنيات الرمزية المعقدة، كما هو حال من أسماهم «بول ريكور» بـ«فلاسفة الشك والتوجّس».
ليست الحداثة «نظرية»، أو «مفهوماً» بقدر ما تمتلك منطقاً ومعالم تميزها عن بقية التصورات التقليدية، كما يعتبر «جان بودريار». فهو يتصوّر أن للحداثة خصائص وأبعاداً، منها؛ أولاً، البُعد التقني-العلمي، بما يستدعيه من ثورة في أساليب الإنتاج وتنظيمها وتسييرها؛ ثانياً، البعد السياسي، بحكم أن الدولة تجسّد نوعاً من التعالي في صيغة دستور، فضلاً عن المكانة الخاصة للفرد وللملكية الخاصة، وللتنظيم البيروقراطي؛ ثم البعد السيكولوجي باعتبار أن الزمن الحديث يتميز ببروز الفرد بوصفه كائناً يحوز «وعياً مستقلاً» يعمل على ترجمته في الثقافة العصرية، على الرغم من أشكال الحصار، أو الاستلاب التي تنتجها وسائط التواصل، ومجالات العمل، ومغريات عالم الاستهلاك.
الحداثة وجدل الأنا والآخر وقد أنتجت الحداثة نوعاً من «ثقافة اليومي» لدرجة أصبح اليومي مكوّناً من مكوناتها، وارتبطت بظواهر وموضوعات أساسية يلخّصها «جورج سيمل» في المرأة، والمدينة، والفردانية، والثقافة العصرية (2). كما أنتجت الحداثة مجالاً عمومياً، تختلف أطره، ونمط تواصله باختلاف المرحلة التاريخية، يسمح بإبراز ظواهر وتعبيرات ورغبات وأهواء وأفكار ومعانٍ متجددة دوماً. ونسجت بذلك جدلاً مستداماً للعلاقات بين الذاتية والاختلاف، بين الأنا والآخر، بين الظاهر والوجود، وبين المعلن والمسكوت عنه.
وفي غياب مشروع سياسي يمتلك ما يلزم من مقومات التخفيف من ثقل التاريخية التقليدية، وفي بعض الحالات التاريخية تهيمن الحداثة بوساطة مظاهرها التقنية الأكثر قابلية للتسويق والاستهلاك، على حساب عملية العقلنة الممتدة في الزمن التي يتطلبها مشروعها التاريخي.
وقد أبرزت الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي أن الحداثة لا تتمثل، دائماً، في كونها تغييراً جذرياً، ولكنها تدخل، أحياناً، في مساومات ثقافية وسياسية مع البنيات التقليدية. فإرادة القطيعة التي تسعى الحداثة إلى إجرائها تتنازل، في الكثير من دول العالم، لنوع مما يسميّه «بودريار» بـ«دينامية الخلط» بين ما هو تقليدي وما هو حديث؛ بل ويوظف الحديث لتكريس التقليد، أو يستخدم التقليد لتبرير استعمال الحديث. وهذا ما يسميه محمد سبيلا بـ«الحداثة الهجينة أو الهوية الخلاسية».
ومع ذلك، وبحكم استناد الفكر الحديث إلى العقل، فإنه يستمد بعض مشروعيته؛ أولاً؛ من التفكير في زمنه، وثانياً؛ من ممارسة النقد النشط لأسس الفكر والمجتمع والسياسة. لذلك لا ينفصل فكر الحداثة عن حداثة التفكير.
ويعتبر «شارل تايلور»، في كتاب «قلق الحداثة»، أننا بإزاء «قلق إيبيستمولوجي»، لأننا لا نفهم أسباب أعطابنا ولا نعرف كيف نخفّف منها علينا. ولتفسير هذا القلق يتحدث تايلور عن ثلاثة أسباب؛ الأول يعود إلى انتصار الفردانية، وما تحمله من اختيارات أنانية ضيقة؛ والثاني يفسّره بأولوية وبهيمنة العقل الأداتي، لدرجة أصبح معها يهدد بتملّك كل أنماط وجودنا؛ والثالث يحيل على التداعيات السياسية للفردانية التي أدت إلى إضعاف الروابط الجماعية، وإلى تراجع الاهتمام بالمشاركة العمومية.التحديث المغشوش والحداثة المشوهة
فليس التفكير في الحداثة مجرد تشكيل للمفهوم، أو نقل رسائل أو زخرفاً بلاغياً، إنه مادة وإطار الإنتاج النظري، داخل اللغة وضدها. ومن هنا يظهر البعد السياسي للفكر؛ فالتدخل في اللغة باعتباره فعلاً، والتنويع داخلها كتوليد للفوارق، من منطلق «المهمة» التشخيصية للحضارة، يشكل نوعاً من «المشروع الإيتيقي» منظوراً إليه بوصفه صيرورة مغايرة.
وتبين العديد من التحولات، في الفكر والتاريخ، أن «مفهوم» الحداثة في حاجة دائماً إلى مراجعة وإلى إعادة تحديد، حسب السياقات والتجارب، كما هو في حاجة إلى الاجتهاد لإزاحة بعض الأبعاد الرومانسية، بله السحرية التي كثيراً ما تحضر، بأشكال مختلفة، عند استدعاء الحداثة، أو التعبير عن التوق إلى مشروع نهضوي، أو إلى مجتمع في طور الصعود.
ذلك أن الفكر الحديث مطالب بنقد النماذج التكرارية التي تعيد إنتاج الماضي، كما أنه في حاجة إلى بيئة حاضنة. ويبدو أننا نعاني في المجتمعات العربية من خصاص كبيرة على هذا الصعيد، لأن بيئة الحداثة عندنا يطغى عليها التقليد، المتمثل في الذهنيات، وفي التشكيلة الاجتماعية، وفي العلاقة بالمرأة، وبفوضى المدينة (اللهم إلا بعض الاستثناءات القليلة)، وفي النقص الظاهر في الثقافة العصرية، وفي مختلف مظاهر مقاومة تلقّي الحداثة.
ولذلك فالدعوة إلى الحداثة، أو المطالبة بها، عليها أن تنطلق من دلالاتها الفاعلة والفعلية، وليس من التحديث المغشوش، أو الحداثة المشوهة، أو الصمّاء (التي لا أصداء لها sans résonnance، أو التي لا يمكن البناء على تراكماتها وعلى مكتسباتها)، كما أن الدعوة إلى توطينها يتعين أن تتساوق مع يقظة فكرية وقيمية، وإعادة بناء أرضية ثقافية، ومجال عمومي قادر على الاعتراف الفعلي بالحداثة، انطلاقاً من الانخراط في إنتاج معرفة عصرية نافعة، واعتراف بكرامة الكائن العربي، وتوسيع دائرة الحريات. لأنه من دون بنيات حديثة حقّاً، كالمعرفة، والاعتراف، والثقة، لا مجال للتعويل على القوة التغييرية للتحديث.


هوامش:
(1) Jean Baudrillard, A l’ombre des majorités silencieuses ou la fin du social, Ed, Denoël- Gauthier, Paris, 1982
(2) Georg Simmel, Philosophie de la modernité 1. La femme, la ville, l’individualisme, Paris, Ed, Payot, 1989
أعلى