رياض الصالح الحسين محاوراً حامد بدرخان

حامد بدرخان.. من لا يعرف هذا الإنسان الشاعر؟!. جسده مثقل بالنقمة والسخط. قلبه طافح بالحب. فلاح قروي بسيط. صديق للجميع.. للناس والمدن، للطيور والغابات.
في حلب قابلته، عينين ذاهلتين معبأتين بالعذاب والدمار.. أحياناً تعتقد بأنه ثمل، وأخرى ينتابك الشك بذلك. يبكي كالأطفال، ويضحك بصخب كالأمواج الهائجة. قصائده مبعثرة.. أوقاته مبعثرة.. جسده مبعثر..
ويا حامد بدرخان كنت أبحث عنك منذ زمن بعيد.
في المقعد الخلفي للـ”سرفيس” التي كانت تقلنا لبيت أحد الأصدقاء.. كان حامد يكتب شيئاً ما على ورقة صغيرة، وكأنه يكتب موته وحياته معاً:
“أنا من سلالة الجبال المتحركة
ولم أكن قعيد القبيلة
فالأرض التي فقدت خصوبتها
لن تستطيع أن تحمل
أجساد المجانين وصفوف الجياع..”
وهذا هو حامد بدرخان أمامنا.. شاعراً، وإنساناً، وحياة:

□ ماذا تعني لك الكتابة.. الكلمة؟
– كل شيء، الخبز.. المرأة.. الحب.. النضال. أما الكلمة فهي خنجر جارح مطعم بالأزهار الملونة.

□ ماذا تقرأ، ولمن؟.
– أنا فلاح قروي يموت نهاراً ويحيا ليلاً.. أموت في النهار وراء المحراث الخشبي القديم، معانقاً أشجار الزيتون، ومداعباً سنابل القمح. وأحيا ليلاً أمام محراب الكلمات.. بدءاً من روايات دوستويفسكي، مروراً بكتابات ماركس، وانتهاءاً بأشعار ألبرتي وأراغون و.. عيون إيلزا.

□ ارسم لنا الأرض التي تتمناها !.
– أعرف أنّ الموت يترصدني على قارعة الطريق.. الأرض التي أريدها قد لا أراها، ولكن الرفاق سيكملون نشيدي الأرض، وأؤكد الأرض التي سيحيا عليها الإنسان بدون سادة منتفخين أو عبيد نافعين.
□ لو أعطيتك القدرة على تدمير كل شيء، فأي الأشياء تبدأ بتدميرها أولاً؟
– حينما كنت في الثامنة من عمري، كانت خالتي تقص عليّ حكايات الجن والعفاريت والبطولات الخارقة. ومع ذلك ما كنت أؤمن بجملة مثل (لو أعطيتك القدرة). ولكن لو تسنى لي أن أدمر شيئاً، لدمرت كل ما تعرفه أنت من خلال موقفي الظاهر في كل ما أكتبه.

□ هل تحب امرأة معينة؟
– قبل ساعات قليلة كنت أحب امرأة ولكن الآن أشعر بأنني لا أحب أحداً.. لقد رجعت إلى عزلتي، وعزلتي تتكوّن من ملايين الناس البسطاء.

□ هل تحبُّ دمشق؟!
– أجل. كيف لا! من دمشق كتبت إلى (ميريا).. دمشق الشاغور وكيليكيا والميدان وكوخ البؤساء رقم/4/.

□ وحلب؟
– تسألني! ألم تقرأ قصيدتي (كلمات في ليلة ماطرة)؟ حلب ألمي الكبير.. وجميع أحزان بني حمدان تحوم حول قصر سيف الدولة!.

□ كيف تقرأ قصائدك بعد كتابتها؟
– بانبهار..

□ طيّب.. هل باستطاعتك أن تذكر أسماء ثلاثة شعراء تقرأهم كما تقرأ قصائدك؟..
– أراغون. ناظم حكمت. عمرو بن كلثوم.

□ الشعر العظيم، هل هو حياة أم موت أم انبعاث؟!
– حياة وموت وانبعاث من تابوت.

□ لو سألتك الآن ما الذي تشتهيه.. بماذا ستجيبني؟!
– أريد الاستراحة. لقد تعبت.. أود أن أفكّر بهدوء بالماضي والمستقبل المجهول. آه.. هل توجد موجة أخرى في البحر لتضمّني؟ أم أن الخلود استراحة أبديّة، ولا أظن..

□ أيهما أقرب إليك، الأرض أم السماء؟
– الأرض موطني. والسماء تحت مجهر العلماء الأرضيين من أجل سعادة البشرية وأنا مؤمن بما قاله نيرودا: “مهلاً أيها البحر.. سنتجه إليك عندما نتخلص من متاعبنا الأرضيّة”، لم تزل متاعبنا الأرضية هي.. هي. الموت يهدد/500/ مليون طفل وجائع في العالم. أنا لست من الصائبيين (عبدة النجوم) لكي أهتم بالسماء. أنا ابن الأرض وسليل جسدها.

□ الكتابة عن الواقع الفاسد أصح، أم الكتابة عن الحلم الجميل؟.
– مواجهة الواقع بالكتابة، هي مواجهة للفساد أولاً.. وثانياً تشكيل البدايات للدخول في الحلم الجميل. الشعر لا يفكر بل يوحي. والقصائد العظيمة تصنعها الثورات العظيمة والعكس صحيح.

□ ما هي انطباعاتك الشخصية بعد مقابلتك لأراغون وإيلزا؟.
– رأيته خاشعاً أمام شمس الحب، مستسلماً أمام قسوته، ومجنوناً أمام ما يأتي به.. أما إيلزا فلقد كانت أكثر واقعية.. فالطبيعة صيف حار وشتاء قارس. وتغيرات الفصول حتمية.

□ من هم أصدقاؤك؟ اسم كلاً منهم بكلمة أو أكثر..
– عندما أخرج من داري (قبري) أرى وجوهاً وأجساداً لا تحصى، تحمل الأطفال على أكتافها ذاهبة إلى حصاد العدس.. تلك رفيقتي. وذلك الذي يعتلي زورقه مصارعاً الموج من أجل الخبز هو دمي ورفيقي.. أيضاً. أما إذا أردت أن أذكر أسماء معينة، فليكن. ولكن لا أستطيع أن أحصي الجميع لأنهم كالتراب والماء والهواء تجدهم في كل العالم.
– سعيد حورانية.. الصدق والمجابهة.
– حنا مينه.. الحب والبساطة.
– صلاح فائق.. الاغتراب والجنون.
– علي الجندي.. أصابع الموتى وعلي الجندي.
– ممدوح عدوان.. عظيم في الشعر!
– علي كنعان.. نموذج للاشتراكي المتواضع.
– بندر عبد الحميد.. صوت القاطرات الرائعة. احتفالات المدينة القديمة. لقد بدأ صوته ينقلب ألى (ترس) اسبارطي ضد جيوش التروستات والكارتلات.
– نزيه أبو عفش.. النبي أرميا.. والله قريب من قلبي.
– بشير البكر.. رامبو غاضب وعاشق مجنون. انه يتجاوز نفسه باستمرار.. وسيكون حتماً صوتاً لقاطفي القطن وحاصدي القمح على ضفاف الخابور.

□ ما هي مشاريعك المقبلة؟
– أنا لا أفكر بما سأكتبه في المستقبل، المعاناة – الشروط الاقتصادية الاجتماعية التي أعايشها. عندما تصل بي لدرجة الحمّى، لا أعود أعرف شيئاً سوى الحب. ومثلما النيزك الملتهب يسقط من أعالي السماء، تسقط الكلمات على الأوراق على شكل آلهة مجنّحة يسمونها الشعر.

□ ما هو الشيء الذي عايشته وما زلت تتذكره حتى الآن؟
– أتذكر الحياة كلها، كلوحة تشكيلية مختلفة الألوان. وتحتوي كل شيء: الدم. الانقلابات. النفي. التشرد. العشاق الهائمون، والأيام العشر التي هزّتْ العالم.

……………………………………….

حوار مع حامد بدرخان (1924-1996)أجراه رياض الصالح الحسين (1954-1982)، نشر في (جيل الثورة) وأعيد نشره في مجلة (أبابيل) الإلكترونية عن قصاصة غير مؤرخة من أرشيف نذير جعفر.




رياض.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى