محمد علام - جماليات الصمت وحديث الأشياء..

عبر عالم مرصع بدهشة البدايات.. تعْلق الأميرة في شراك الكائنات الشريرة، ليهب الفارس الجسور منتفضا يواجه المصاعب كي يحررها.. حيث تُغسل أحلامنا في عجلة الزمن، وتحلق الآمال القريبة إلى أنفسنا بعيدة عنا، وتطير القطع والأشياء، وتحملنا الموسيقى على التيه تارة، والحنين تارة أخرى، ونشعر بألفة الخيالات التي على المسرح، كأنها تنتمي إلى خيالنا نحن أو هي بالفعل جزء منه.
هكذا يقدم لنا المخرج محمد فوزي عرض «خيالات»، والذي ينتمي أغلبه لأسلوب المسرح الأسود، ورغم ذلك تضمن داخله أكثر من أسلوب آدائي، فمن العرائس، إلى مسرح الأشياء، ومن البداية بأسلوب البانتومايم، إلى ما يجعل العرض يكسر النمط المعتاد في استخدام عرائس الماريونيت، ويضعنا في قلب حالة متخمة بالبهجة والأخيلة المثيرة، وعبر دراما تشع بحديث عن البطولة والتعاون، والإصرار على النجاح، والقيم النبيلة، نتساءل: هل تعني هذه القيم أي شيء بالنسبة لطفل لم يتجاوز العاشرة من عمره؟
هناك بعض الآراء الشائعة، أن الكتابة للطفل في العموم كتابة سهلة، ويُنظر أحيانًا إلى كُتاب هذا النوع باستخفاف، وأنهم في المرتبة الثانية أو الثالثة بعد الأدب الموجه للكبار، ودون أن نخوض في تفاصيل، فالذين يكتبون للطفل أنفسهم يحملون جزءًا من مسؤولية هذه النظرة المُتدنية، فالمتأمل لإسهام العرب في مسرح الطفل وأدبه، سيجد أن الصورة العامة بها استهانة بعقلية المُخاطب المُستهدف، ووصاية على ما يُمكن أن يقدم له.
ولقد طرح علم النفس خلال السنوات الماضية عدة أسئلة حول طبيعة الطفل، والسلوك المُتبع معه، فهل ينبغي علينا مُمارسة الوصاية والتوجيه للأطفال؟ ربما قد يكون ذلك مطلوبًا عند الإشارة إلى بعض النواحي السلوكية، أو المادية الملموسة، التي يسهل التحقق منها بالتجربة العملية، لكن فيما يخص الثقافة والأفكار والعادات المُكتسبة؟ الشواهد تقول إن الطفل لا يمكن خداعه، وأن أية وجهة نظر غير سليمة أو تبرير مُختلق، سيعتبره إهانة وسيفقد الثقة في قائلها عند اكتشاف الأمر.
وعلى عكس ذلك تماما؛ قدمت دراماتورج العمل رشا عبد المنعم، دراما مميزة تتكئ بالأساس على منطق الطفل، من حيث الخيال الحر والحالم في آن، ورغم ذلك تتوزع معوقات هذه الخيالات بما لا يجعل معها المنطق مستقرا، بل تنمو كل دقيقة خلال العرض في اتجاه مغاير وغير متوقع أغلب الوقت، فنكتشف أن الدمى تتحدث وتأخذنا من صندوق الألعاب إلى فيل مجنح يحمل هودجا فوق ظهره، ونكتشف بعد ثوانٍ أنه ليس إلا مجرد غسالة تخرج منها خيالات الدمية الرئيسية في العرض، والتي مثلت دوائر مجردة عالقة في سديم لا نهائي، يحدها الفراغ وتعبر عن نفسها بحركات تنتظم دلاليا خلال ثنائيات: الاتفاق والاختلاف، المحبة والكراهية.. إلخ. لنجد أنفسنا أمام دراما لم تسعى إلا لبناء الإنسان.
يلفت الانتباه في هذا العرض، قدرته على تعدد العوالم، ومنافسة خيال الطفل من خلال أبسط الموتيفات والإكسسوارات المسرحية، على عكس بعض التجارب مؤخرا، والتي اتبعت اتجاهًا يدعم المتعة وإثارة مخيلة الطفل بعوالم شديدة الدهشة، والاتكاء على المبالغة في الخارقية، عبر عوالم مسرحية شديدة الإبهار البصري.
يجد الطفل في العوالم التي تبث عبر عرض «خيالات»، مُتعة تُرضي خياله، وتحفزه على استكشاف القوة الكامنة داخله، ويظل هذا الأمر مثار تصديق كبير حتى فترة ما، عندما يعلم أن هذه القوة لا يُمكن الوصول لها إلا في خياله، ويصبح هناك ميثاق ضمني بين هذه القصص والمُتلقي على أنها "زائفة". وذلك ما ظهر عبر تعليقات بعض الأطفال من الجمهور أثناء العرض، بما يوحي أنهم يعلمون ما سيحدث بعد ذلك، فإذا أتينا إلى "بعد ذلك" لزموا الصمت، لأنه لم يكن كما توقعوه، وكأننا أمام أسلوب تربوي لم يغفل مُشاهدَه ولا المنطق الذي يحكمه عند التلقي.
وعبر الإضاءة الفلورسنت على الأيدي والأشياء، تأخذ الأشكال أبعادا مختلفة مع كل حركة، دلاليا، ومعرفيا، حيث أظهر الممثلون في الجزء الأسود من المسرح براعة ودقة متناهية في تحريك الدمى والمواد دون أن نرى أجسادهم، ما يجعل المشاهد في حالة استثارة طوال العرض، وترقب لما هو متوقع وغير متوقع.
هكذا يعتمد مسرح الأشياء على مسرحة الخامات الطبيعية والمصنوعة، لإثارة دهشة المتلقي، وبثه معانٍ عميقة. فشكلت تلك الأشياء العلامة الكبرى للعرض، فللوهلة الأولى تبدو البساطة والعفوية في اختيار القطع والخامات مثل صندوق اللعب الذي مثّل الحياة في أطوار مختلفة، والشريط الممتد عبر طرفي المسرح كأنه شريط سينمائي يضيف لخبايا الصندوق من حكايات معانٍ جديدة، هذا وما يصلنا في نهاية الموقف هو الشيء الصادم واللامتوقع في النهاية.
الصمت هو البطل الحقيقي في هذا العرض، هو ممثل آخر ضمن فريق العمل الذي دأب على تحريك الأشياء، فقد دأب -الصمت- طيلة العرض على استنطاق المعاني من الجمادات، عبر تشكل الأشياء واقتران بعضها ببعض. فنجدها تسخر وتضحك، وتحزن وتبكي، لا الممثلون، ما يغلف تفاعل المتلقي بمذاق غرائبي، أشبه بما تصنعه الواقعية السحرية، والفانتازيا في القصص الخيالي وحكايات ألف ليلة وليلة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى